Skip to Content
الخميس 18 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 28 مارس 2024 م

الحكم المختار
في مسألتَيْ خيار الغبن ومدَّة الخيار

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

أوَّلًا: نصُّ الحديث:

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي البُيُوعِ، فَقَالَ: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ»، مُتَّفَقٌ عليه(١).

ثانيًا: ترجمة راوي الحديث:

هو الصحابيُّ المؤتسي برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أبو عبدِ الرحمن عبدُ الله بنُ عُمَرَ ابنِ الخطَّاب القُرَشيُّ العَدَويُّ، وأمُّه زينبُ بنتُ مظعونِ بنِ حبيبٍ الجُمَحيةُ.

أَسْلَمَ عبدُ الله وهو صغيرٌ، وهاجَرَ مع أبيه وأمِّه، وعُرِض على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ببدرٍ فاسْتَصْغَرَهُ وردَّه وكان ابنَ ثلاثَ عَشْرَةَ سنةً (١٣)، وردَّه ـ أيضًا ـ يوم أُحُدٍ، ثمَّ أجازَهُ يومَ الخندق وكان ابنَ خمس عَشْرَةَ سنةً (١٥)(٢)، ثمَّ حَضَرَ بعدها كُلَّ المَشاهِدِ مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كما شَهِدَ غزوةَ مُؤْتَةَ واليرموكِ، وفَتْحَ مِصْرَ وإفريقيَّة(٣).

وكان رضي الله عنه شديدَ الاتِّباعِ لآثارِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كثيرَ الاحتياطِ والتوقِّي لدِينِه، اكتسب العِلْمَ الوفيرَ مِن مُلازَمتِه وصحبتِه لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد شَهِدَ له النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالصلاحِ(٤) وكذا أصحابُه(٥)، وهو أحَدُ العبادلة، وأحَدُ المُكْثِرين مِن رواية الحديث؛ فقَدْ رُوِيَ له ثلاثون وستُّمائةٍ وأَلْفَا حديثٍ (٢٦٣٠)، يلي المرتبةَ الأولى بعد أبي هريرة رضي الله عنه(٦).

وتُوُفِّيَ ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما في مكَّة سنةَ ثلاثٍ وسبعين هجرية (٧٣ﻫ)، وصلَّى عليه الحجَّاجُ، وله مِن العُمُرِ أربعٌ وثمانون سنةً (٨٤)(٧).

ثالثًا: سند الحديث:

أَخْرَجَ الحديثَ أصحابُ السنن(٨) وغيرُهم عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وغيرِه، ففي حديثٍ آخَرَ لأنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ؛ فَأَتَى أَهْلُهُ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: «يَا نَبِيَّ اللهِ، احْجُرْ عَلَى فُلَانٍ؛ فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ»؛ فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُ عَنِ الْبَيْعِ، فَقَالَ: «يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي لَا أَصْبِرُ عَنِ الْبَيْعِ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ كُنْتَ غَيْرَ تَارِكٍ الْبَيْعَ فَقُلْ: هَاءَ وَهَاءَ، وَلَا خِلَابَةَ»(٩)، وزادَ ابنُ إسحاقَ في روايةِ يونسَ بنِ بُكَيْرٍ وعبدِ الأعلى: «ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَهَا بِالخِيَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ: فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ، وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا»(١٠)، وكان إذا غُبِنَ شَهِدَ له رجلٌ مِن الصحابةِ على أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد جَعَلَهُ بالخيار ثلاثًا، فيرجع في ذلك(١١).

رابعًا: غريب الحديث:

ـ «أنَّ رجلًا»: هو حَبَّان بنُ مُنْقِذِ بنِ عمرٍو الأنصاريُّ رضي الله عنه(١٢).

ـ «أنه يُخْدَعُ في البيوع»: سببُ شكواه وهو ما يَلْقى مِن الغَبْن.

والغَبْن: هو الخديعةُ في البيع والشراء، والحدُّ الفاصلُ بين يسيرِ الغَبْن وفاحِشِه هو أنَّ اليسير منه ما يُقوِّمُه مُقوِّمٌ، والفاحشَ منه ما لا يدخل تحت تقويمِ المقوِّمين، غيرَ أنَّ التفاوت الحاصل في العادات والأماكن والأوقات قد يمنع مِن التحديد بحسَبِ المقدار(١٣).

ـ «الخِلابة»: المُخادَعةُ(١٤)، وفي روايةٍ لمسلمٍ: «لَا خِيَابَةَ»، قال ابنُ الأثير: كأنها لَثْغةٌ مِن الراوي، أَبْدَلَ اللامَ ياءً(١٥)، والمرادُ: أنه إذا ظَهَرَ غَبْنٌ ردَّ الثمنَ واستردَّ المَبيعَ.

ـ «لا خِلابةَ»: «لا» نافيةٌ للجنس، أي: لا خديعةَ في الدين؛ لأنَّ «الدِّينَ النَّصِيحَةُ»(١٦)(١٧)، والمعنى: لا تَحِلُّ لك خديعتي، أو لا تَلْزَمُني خديعتُك.

ـ «في عُقْدَتِه ضَعْفٌ»: أي: في عقلِه ونظرِه ورأيِه في مَصالِحِ نَفْسِه(١٨).

ـ «احْجُر على فلان»: الحَجْرُ هو المنعُ مِن التصرُّف، ومنه حَجْرُ القاضي على الصغير والسفيه والمجنون إذا مَنَعَهم مِن التصرُّف في أموالهم(١٩).

خامسًا: المعنى الإجمالي للحديث:

لقَدْ حضَّ الإسلامُ المسلمَ على الالتزامِ بالصدق وحثَّه على النصيحةِ في الدِّين التي تُعَدُّ أغلى مِن كُلِّ كَسْبٍ دنيويٍّ، ونَهَى عن كُلِّ صُوَرِ الغشِّ والخداع في سائِرِ المُعامَلات الإنسانية، دفعًا لكُلِّ أشكالِ الاستغلال التجاريِّ وتلبيسِ الأسعار؛ فقَدْ جاء في الحديث: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمْا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمِا»(٢٠).

ومع ذلك فقَدْ يُغْبَنُ صاحِبُ السلعةِ لجهالته بالثمن أو لقِلَّةِ خبرته وضَعْفِ بصيرته بالمُعامَلاتِ التجارية، أو ينخدعُ بالقولِ اللطيف؛ لذلك مَنَحَه الشارعُ فرصةَ الخيارِ ليتدارَكَ ما قد فاتَهُ نتيجةَ المُبايَعةِ المغبونِ فيها، كما حَدَثَ لحَبَّان بنِ مُنْقِذٍ رضي الله عنه الذي لقَّنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنْ يقول: «لَا خِلَابَةَ»، يتلفَّظُ به عند البيع ليطَّلِعَ به صاحِبُه على أنه ليس مِن ذوي البصائرِ فيراعِيَه ويرى له ما يَرَاهُ لنَفْسِه، عملًا بالأُخُوَّة الإسلاميةِ والْتزامًا بالنصيحةِ في الدين.

سادسًا: الفوائد والأحكام المُستنبَطة:

تظهر الفوائدُ والأحكامُ المُسْتَنْبَطةُ مِن الحديث في النقاط التالية:

١ ـ اسْتُدِلَّ بهذه القصَّةِ على ثبوتِ خيار الغَبْن في البيع والشراء لمن قال: لا خِلابةَ، سواءٌ غُبِنَ أم لم يُغْبَنْ، وَجَدَ غشًّا أو عيبًا أم لا، ويُؤيِّده حديثُ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مرفوعًا: «بَايِعْ وَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، ثُمَّ أَنْتَ بِالخِيَارِ ثَلَاثًا»(٢١).

والظاهرُ أنه لا يَثْبُتُ الخيارُ إلَّا إذا وُجِدَتْ خديعةٌ؛ لأنَّ السبب الذي ثَبَتَ الخيارُ لأجله هو وجودُ ما نَفَاهُ منها، فإذا لم يُوجَد فلا خِيارَ(٢٢)، كما تَقيَّدَ ذلك ببعض الروايات أنه كان يُغْبَنُ، والحاملُ أو الصارفُ عن هذا الظاهرِ هي الأصولُ المعروفة في العقود، وهي اللزومُ والنفاذُ بعد التفرُّق بالأبدان بشرطِ سلامةِ المَبيعِ مِن العيوب، وبالتالي يكون العقدُ لازمًا لقوله تعالى: ﴿أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ[المائدة: ١].

٢ ـ وفيه دليلٌ على إمضاءِ بيعِ مَن لا يُحْسِنُ النظرَ لنَفْسِه وشرائه قبل الحَجْرِ عليه.

٣ ـ ظاهِرُ الحديثِ الاكتفاءُ بالمعنى المقصودِ مِن لفظ: «لا خِلابةَ» في جواز خِيارِ الغَبْن، ومَنَعَ ذلك ابنُ حزمٍ ـ رحمه الله ـ متمسِّكًا بحرفية النصِّ، فقال: «.. فإِنْ قال لفظًا غيرَ «لا خِلابةَ» لكِنْ أَنْ يقول: «لا خديعةَ» أو «لا غِشَّ» أو «لا كَيْدَ» أو «لا غَبْنَ» أو «لا مَكْرَ».. أو نحوَ ذلك لم يكن له الخيارُ المجعولُ لمن قال: «لا خِلابةَ»»(٢٣).

وهذا جمودٌ بيِّنٌ لأنه ليس لفظًا تعبُّديًّا حتَّى يُقْتَصَر فيه على اللفظ ولا يُلْتَفَتَ فيه إلى المعنى، ومِن جهةٍ أخرى يُعارِضُه ما ثَبَتَ في «صحيح مسلمٍ» أنه كان يقول: «لَا خِيَابَةَ»(٢٤)، ووَقَعَ في بعضِ الروايات مِن غيرِ مسلمٍ: «لَا خِذَابَةَ»(٢٥)، ومع كونِ الرجلِ ألْثَغَ فإنَّ الحكم لم يتغيَّرْ في حقِّه عند أحَدٍ مِن الصحابةِ الذين كانوا يشهدون له بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم جَعَلَه بالخيار، وهذا دليلٌ على اكتفائهم بالمعنى المرادِ مِن اللفظ(٢٦)، فمتى حَصَلَ المعنى بأيِّ لفظٍ آخَرَ فقَدْ حَصَلَ المقصودُ، عملًا بقاعدةِ أنَّ «العِبْرَةَ فِي العُقُودِ بِالمَقَاصِدِ وَالمَعَانِي لَا بِالأَلْفَاظِ وَالمَبَانِي».

٤ ـ فيه دليلٌ على خِيارِ الشرط، ومَحَلُّ الشاهدِ قولُه: «لَا خِلَابَةَ»: اشتراطٌ لعدَمِ الخداع الذي يترتَّب عليه حقُّ الفسخ، ومعناه: الخيارُ الثابتُ بالشرط، وهو عبارةٌ عن كون العاقد يبيع السلعةَ أو يشتريها بشرطِ أَنْ يكون له الخيارُ في إمضاء العقد أو فَسْخِه.

لكنَّ العلماء اختلفوا في هذا الشرطِ المذكورِ في الحديث: هل كان خاصًّا بهذا الرجلِ أم يدخل فيه جميعُ مَن شَرَطَ هذا الشرطَ؟(٢٧) ـ كما سيأتي ـ.

٥ ـ والحديث لم يُقَدِّرْ حدًّا للغَبْن، وعلى ذلك فلا تحديدَ في المنصوص عن الإمام أحمد، وحدَّه الإمامُ مالكٌ بالثُّلُث بدليلِ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ»(٢٨)، وقيل: بالسُّدُس، وقيلَ غيرُ ذلك.

والراجح مِن مذاهب العلماء أنَّ تحديدَ الغَبْنِ موكولٌ فيه للعُرْف؛ لأنَّ ما لا يَرِدُ الشرعُ بتحديده يُرْجَعُ فيه إلى العُرْف(٢٩).

٦ ـ ظاهِرُ الحديثِ يُفيدُ أنَّ الرجل كان يُغْبَن في البيوع، ويرى ابنُ العربيِّ ـ رحمه الله ـ أنَّ احتمالَ الخديعةِ في قصَّةِ الرجل كانَتْ في العيب أو المِلْك أو الكذب أو الثمن أو في الغَبْن؛ فلا يُحْتَجُّ بها في مسألة الغَبْن بخصوصها، وليست قصَّةً عامَّةً فتُحْمَلَ على العموم، وإنما هي خاصَّةٌ في واقعةِ عَيْنٍ وحكايةِ حالٍ، فيُحْتَجُّ بها في حقِّ مَن كان بصفة الرجل(٣٠).

غيرَ أنَّ هذه الاحتمالاتِ قد تعيَّنَتْ بالرواية التي صرَّح فيها أنه كان يُغْبَنُ في البيوع.

٧ ـ وبحديثِ أنسٍ رضي الله عنه اسْتُدِلَّ على أنَّ الكبير لا يُحْجَرُ عليه ولو تَبَيَّنَ سَفَهُه، وهو استدلالٌ غيرُ ناهضٍ مِن ناحيةِ أنَّ عَدَمَ الحَجْرِ عليه ليس فيه دلالةٌ على مَنْعِ الحَجْر على السفيه؛ لأنَّ قصَّةَ حَبَّان رضي الله عنه لم يُذْكَرْ فيها صفةُ سَفَهٍ ولا إتلافٍ لمالِه، وكُلُّ ما في الأمرِ أنه كان يُخْدَعُ في البيع، وليس كُلُّ مَن غُبِنَ في شيءٍ يجب أَنْ يُحْجَرَ عليه(٣١)، ومِن ناحيةٍ أخرى فإنَّ الحَجْرَ لو كان ممنوعًا لَأنكره صلَّى الله عليه وسلَّم عليهم.

٨ ـ وفيه دليلٌ على أنَّ مدَّةَ الخيارِ محدودةٌ بثلاثةِ أيَّامٍ مِن دونِ زيادةٍ، وسيأتي الخلافُ في ذلك.

٩ ـ وفيه دليلٌ على قَبولِ خبرِ الواحد في أحكام الشرع وحقوقِ الناس.

١٠ ـ وفيه مزيَّةُ ذلك العصرِ وخيريةُ أهلِه مِن حيث الرجوعُ للحقِّ(٣٢)، والتسامحُ في التعامل الماليِّ في ظِلِّ الأُخُوَّة الإسلامية.

سابعًا: مواقف العلماء من الحديث:

اتَّفَقَ العلماءُ على عدَمِ جوازِ الخديعةِ في الدِّين؛ لأنَّ «الدِّينَ النَّصِيحَةُ»(٣٣)، وإنما اختلفوا في ثبوتِ خيارِ الغَبْن وفي مدَّةِ الخيار على أقوالٍ، فنتعرَّض لهذا الخلافِ في مسألة ثبوت خيار الغَبْن أوَّلًا، ثمَّ نتناول اختلافَهم في مدَّة الخيار ثانيًا.

المسألة الأولى: في ثبوت خيار الغبن:

أ ـ مذاهب العلماء:

اختلف العلماءُ في هذه المسألةِ على قولين:

ـ القول الأوَّل: ذَهَبَ أحمدُ وروايةٌ عن مالكٍ إلى أنه يَثْبُتُ الردُّ لكُلِّ مَن شَرَطَ هذا الشرط، ولكُلِّ مَن يجهل قيمةَ السلعةِ ولا يُحْسِنُ المُبايَعةَ، أمَّا العالِمُ الذي لو تَوَقَّفَ لَعَرَفَ فإنه إذا اسْتَعْجَلَ في الحالِ فغُبِنَ فلا خِيارَ له(٣٤).

ـ القول الثاني: ذَهَبَ جمهورُ العلماءِ إلى عدَمِ ثبوتِ خيارِ الغَبْن، باستثناءِ الصبيِّ ضعيفِ العقل، بشرطِ أَنْ يتلفَّظ بهذه المَقالةِ ليكون بيعُه مشروطًا بعدَمِ الخداع، ويدخل في بابِ خيارِ الشرط(٣٥).

ب ـ أدلَّة الأقوال السابقة:

استدلَّ كُلٌّ مِن المُثْبِتين لخيارِ الغَبْن والمانعين له بالأدلَّة التالية:

ـ أدلَّةُ المُثْبِتين:

استدلَّ هؤلاء بما يأتي:

١ ـ بحديثِ الباب الذي يدلُّ على ثبوتِ خِيارِ الغَبْن في البيع والشراء، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لقَّنه هذه المَقالةَ ليَسْتردَّ بها المَبيعَ ويردَّ الثمن.

٢ ـ بالقيـاس على تَلَقِّي الركبان لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَلَقَّوُا الجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ: فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالخِيَارِ»(٣٦)، بجامعِ أنَّ كُلًّا منهما حَصَلَ له غَبْنٌ لجهلِه بالبيع.

٣ ـ بالمعقول مِن ناحيةِ أنَّ نقصان قيمةِ السلعة يمنع لزومَ العقد.

ـ أدلَّةُ المانعين:

استدلَّ هؤلاء بما يأتي:

١ ـ بعمومِ أدلَّةِ البيعِ ونفوذِه مِن غيرِ تفرقةٍ بين الغَبْن وغيرِه، فإنَّ الأصل فيه ثبوتُ المِلْك عند العقد.

٢ ـ بحديثِ حَبَّان بنِ مُنْقِذٍ رضي الله عنه، حيث جَعَلَ له النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الخيارَ بسبب الضعف الذي في عَقْلِه، وهو ضعفٌ لم يخرج به عن حدِّ التمييز؛ فتَصَرُّفُه كتَصَرُّفِ الصبيِّ المأذونِ له، ويَثْبُتُ له الخيارُ مع الغَبْن.

٣ ـ بالقياس على غيرِ المُسْتَرْسِل، وعلى الغَبْن اليسيرِ بجامعِ أنَّ نقصان القيمةِ لا يمنع لزومَ العقد.

ج ـ مناقشة الأدلَّة السابقة:

يمكن مُناقَشةُ أدلَّة المُثْبِتين والمانعين لخيارِ الغَبْن على الوجه التالي:

ـ لا يصلح الاستدلالُ بهذه القصَّةِ لأنها واقعةُ عينٍ وحكايةُ حالٍ لا يصحُّ دعوى العمومِ فيها، على أنه لم يجعل الخيارَ إلَّا بشرطٍ؛ فقَدْ جاء التصريحُ في حديثِ أنسٍ رضي الله عنه أنَّ الخيار كان بسببِ الضعف الذي في عَقْلِه؛ وعلى ذلك يُلْحَقُ به مَن كان مِثْلَه في ذلك شريطةَ أَنْ يقول هذه المقالةَ، وإلَّا بقي البيعُ على أصله مِن اللزوم والنفاذ.

ـ ولا يخفى أنَّ قياس المُسْتَرْسِل على غيرِ المُسْتَرْسِل قياسٌ مع ظهور الفارق، وأمَّا نقصانُ قيمةِ السلعة فإِنْ كان بشرطِ سلامتها فلا يمنع لزومَ العقدِ ونفاذَه.

ـ والقياس على تَلَقِّي الركبان مُعارَضٌ بنفسِ حديثِ حَبَّان بنِ مُنْقِذٍ رضي الله عنه؛ إِذْ فيه دليلٌ لعدَمِ القيام بالغَبْن؛ إِذْ لو كان ثابتًا لم يأمره بالشرط بأَنْ يقول: «لا خِلابةَ»، ولأنه كان إذا غُبِن يشهد له رجلٌ مِن الصحابة أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد جَعَلَه بالخيار ثلاثًا فيرجع في ذلك، ومِن هنا يَتَّضِحُ عدَمُ صحَّةِ الاستدلال بمثلِ هذه القصَّةِ على ثبوت الخيار لكُلِّ مغبونٍ وإِنْ كان صحيحَ العقل، كما لا يصحُّ الاستدلالُ على ثبوته لمن في عُقْدَتِه ضعفٌ إذا غُبِنَ ولم يتلفَّظ بهذه المقالة.

المسألة الثانية: في مدَّة الخيار:

اتَّفق جمهورُ الفقهاءِ ـ غير المالكية وروايةٍ عن أحمد ـ على أنَّ مدَّةَ الخيارِ يجب أَنْ تكون معلومةً، فإِنْ كانَتِ المدَّةُ مجهولةً أو كان الخيارُ على التأبيد لم يصحَّ العقدُ، ويقع باطلًا عند الشافعيةِ والحنابلةِ، وفاسدًا عند الحنفية(٣٧).

أ ـ مذاهب العلماء:

واختلفوا في مقدارِ مدَّةِ الخيار على الأقوال التالية:

ـ القول الأوَّل: أنَّ مدَّة الخيارِ ثلاثةُ أيَّامٍ مِن غيرِ زيادةٍ، وبه قال أبو حنيفة وزُفَرُ والشافعيُّ وابنُ حزمٍ(٣٨).

ـ القول الثاني: أنَّ مدَّة الخيارِ مقدَّرةٌ حَسَبَ ما تدعو إليه الحاجةُ، وتختلف باختلافِ المَبيعِ، ولا تزيد عن شهرٍ وستَّةِ أيَّامٍ كما في الدار، وجمعةٍ في الرقيق، وثلاثةِ أيَّامٍ في الثياب والدوابِّ، وبه قال المالكيةُ(٣٩).

ـ القول الثالث: أنَّ مدَّة الخيارِ تكون بحَسَبِ اتِّفاقِ المتعاقدَيْن ولو تجاوَزَتْ ثلاثةَ أيَّامٍ، وبه قال أبو يوسف ومحمَّد بنُ الحسن (صاحِبَا أبي حنيفة) والحنابلةُ(٤٠)، وهو اختيارُ ابنِ تيمية(٤١).

ب ـ أدلَّة المذاهب السابقة:

نتعرَّض لأدلَّةِ المذاهبِ السابقةِ على الوجه التالي:

١ ـ أدلَّة الأحناف (أبو حنيفة وزُفَرُ) والشافعية:

استدلَّ هؤلاء بما يلي:

ـ بحديثِ الباب في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ ابْتَعْتَهَا بِالخِيَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ: فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ، وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا»(٤٢)، ووَجْهُه: أنَّ الخيار حُكْمٌ ثابتٌ وَرَدَ على خلافِ الأصل؛ فيُقْتَصَرُ به على أقصى ما وَرَدَ فيه وهو ثلاثةُ أيَّامٍ، ويبقى ما وراءَ ذلك على الأصل.

ـ وبالقياس على بيعِ المُصرَّاة في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»(٤٣).

ـ وبما رُوِيَ عن عُمَرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه أنه قال: «مَا أَجِدُ لَكُمْ شَيْئًا أَوْسَعَ ممَّا جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ، إِنَّهُ كَانَ ضَرِيرَ البَصَرِ؛ فَجَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُهْدَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ: إِنْ رَضِيَ أَخَذَ، وإِنْ سَخِطَ تَرَكَ»(٤٤).

ـ بما وَرَدَ مِن اعتبارِ «ثلاثِ ليالٍ بأيَّامها» في كثيرٍ مِن أحكام الشرع.

ـ وبالمعقول استدلُّوا على أنَّ هذه المدَّةَ كافيةٌ لاختبارِ المَبيعِ للتعرُّف على صلاحِيَتِه، وبها تَتحقَّقُ الحاجةُ غالبًا.

ـ أمَّا آيةُ الوفاءِ بالعقود وحديثُ: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ»(٤٥)، فهي عامَّةٌ مخصَّصةٌ بحديث الباب.

٢ ـ أدلَّة المالكية:

ـ استدلَّ هؤلاء بأنَّ المفهـوم مِن الخيارِ هو اختبارُ المَبيعِ، ويجب أَنْ يتمَّ اختبارُ المَبيعِ في زمنٍ محدودٍ، وذلك يختلف بحَسَبِ المَبيعات تحقيقًا لحاجة العقد، ورأَوْا أنَّ تحديد المدَّةِ في النصِّ إمَّا أنه وَرَدَ تنبيهًا على هذا المعنى(٤٦)، وإمَّا أَنْ يكون خاصًّا بخيارِ الغَبْنِ ـ الذي يتحدَّدُ بالثلاثة ـ دون الخيار الذي يَعْرِضُ في البيع، قال الشريف التلمسانيُّ ـ رحمه الله ـ: «الخيارُ الذي يكون للغَبْنِ يتحدَّدُ بالثلاثة، وهو الذي وَرَدَ في هذا الحديث، وأمَّا الخيارُ الذي يَعْرِضُ في البيعِ لاختبارِ المَبِيعِ فلا تحديدَ ـ عندنا ـ فيه، ويختلفُ باختلافِ السِّلَعِ»(٤٧).

٣ ـ أدلَّة الصاحبَين والحنابلة:

استدلَّ هؤلاء بما يلي:

ـ بقوله تعالى: ﴿أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ[المائدة: ١].

ـ وبحديثِ: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ»(٤٨).

ـ وبالقياس على الأجل في الثمن بجامعِ أنَّ كُلًّا منهما حقٌّ للمتعاقِدَيْن.

ـ وبأنَّ الخيار شُرِع للمشورة والتروِّي، والأيَّامُ الثلاثةُ قد لا تكفي.

ـ وبأنَّ التحديد الوارد في النصِّ كان كافيًا لحَبَّان بنِ مُنْقِذٍ رضي الله عنه بتقديرِ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وما كان كافيًا لشخصٍ قد لا يكفي غيرَه.

ج ـ مناقشة الأدلَّة السابقة:

وعلى ضوءِ ما تَقَدَّمَ يمكن مُناقَشةُ الأدلَّةِ السابقة على ما يأتي:

ـ بخصوصِ الروايات التي تنصُّ على الثلاث وهي: «لَكَ الخِيَارُ ثَلَاثًا»، وفي روايةٍ: «قُلْ: لَا خِلَابَةَ، وَاشْتَرِطِ الخِيَارَ ثَلَاثًا»(٤٩)، وفي روايةٍ أخرى: «بَايِعْ وَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، ثُمَّ أَنْتَ بِالخِيَارِ ثَلَاثًا»(٥٠)، فقَدْ قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «قال الرافعيُّ ـ رحمه الله ـ: هذه الرواياتُ كُلُّها في كُتُبِ الفقه، وليس في كُتُبِ الحديثِ المشهورةِ سوى قولِه: «لَا خِلَابَةَ»»(٥١).

ثمَّ إنَّ هذه الزيادةَ مِن روايةِ محمَّدِ بنِ إسحاق وقد عَنْعَنَ(٥٢)، وعلى القول بصحَّةِ الزيادة أو فَرْضِ صحَّتها، فإنَّ الحديث يحتمل أنَّ التقديرَ النبويَّ المحدِّدَ للثلاثِ مخصوصٌ بحَبَّانَ بنِ مُنْقِذٍ رضي الله عنه، ويحتمل ورودَه ـ مِن ناحيةٍ أخرى ـ تنبيهًا على معنَى اختبارِ المَبيع.

ـ أمَّا أثَرُ عُمَرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه فمَدارُه على ابنِ لَهِيعةَ وهو ضعيفٌ لا يصلح للاحتجاج(٥٣)، قال ابنُ الملقِّن ـ رحمه الله ـ: «تفرَّد به ابنُ لَهِيعةَ، وهو ضعيفٌ بإجماعهم»(٥٤)، قلت: ولو صحَّ لَكان الجوابُ عنه كسابِقِه.

ـ والاحتجاجُ بورودِ اعتبارِ الثلاثِ في كثيرٍ مِن أحكام الشرع مُعارَضٌ بمِثْلِه في اعتبارِ الشرع لأعدادٍ أخرى، كالسبعة ـ مثلًا ـ في أحكامٍ عديدةٍ كالطواف والسعي والرمي وغيرِها.

ـ وهذه المدَّةُ المحدَّدةُ في النصِّ ـ وإِنْ كانَتْ كافيةً غالبًا ـ فليست كذلك أحيانًا وفي بعضِ المَبيعات خاصَّةً.

ـ ولأنَّ مدَّةَ الخيارِ المضروبةَ في بيعِ المُصرَّاة كافيةٌ للتعرُّف على قيمتها واختبارِ صلاحِيَتها؛ فلا يُقاسُ عليها مُخْتَلَفُ المَبيعات.

ـ وتقدير المدَّةِ بالحاجة لا يصحُّ؛ لأنَّ الحاجة لا يمكن رَبْطُ الحكمِ بها لخفائها واختلافها(٥٥).

ـ وأمَّا القول بأنَّ الخيار ثابتٌ على خلافِ الأصل فيجب الاقتصارُ على أقصى ما فيه فصحيحٌ، غيرَ أنَّ الأصل متى خُولِفَ لمعنًى في مَحَلٍّ وَجَبَ تعديةُ الحكمِ لتعديةِ ذلك المعنى(٥٦).

ـ ولا يمكن تخصيصُ عمومِ أدلَّةِ الوفاء بالعقود وحديثِ الاشتراط بزيادة محمَّد بنِ إسحاقَ، نظرًا لسوءِ حالتها وانحطاطِ درجتها مِن جهةٍ، ونظرًا ـ أيضًا ـ لِمَا يطرأ عليها مِنِ احتمالاتٍ مِن جهةٍ ثانية.

سبب اختلاف العلماء:

نُورِدُ سببَ الخلافِ في المسألتين السابقتين على ما يلي:

المسألة الأولى: في ثبوت خيار الغبن:

ويظهر سببُ الخلاف في الطرح التالي:

هل الحديثُ ـ في دلالته ـ عامٌّ لكُلِّ مغبونٍ أم هو قصَّةُ عينٍ وحادثةُ حالٍ لا عمومَ لها، وإنما يُحتجُّ بها في حقِّ مَن كان على صفةِ حَبَّان بنِ مُنْقِذٍ رضي الله عنه؟

أي: هل صَدَرَ الحكمُ مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لحَبَّانَ بنِ مُنْقِذٍ رضي الله عنه على وجه القضاء أم على وجه الفتوى؟

ـ فمَن رأى أنَّ الحديث عامٌّ في دلالته لكُلِّ مغبونٍ لا يُحْسِنُ المُبايَعةَ وأنَّ الحكم صَدَرَ مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على وجهِ الفتوى؛ تَوَسَّعَ في الحكم وقال: يَثْبُتُ خيارُ الغَبْنِ مطلقًا، وعضَّد مذهبَه بالقياس على تَلَقِّي الركبان.

ـ ومَن رأى أنَّ الحديث قصَّةُ عينٍ وحادثةُ حالٍ لم يُعَمِّمِ الحكمَ لكُلِّ مغبونٍ، وإنما قيَّدها بقيدين يتمثَّلان في وروده على رجلٍ ضعيفِ العقل والرأي أوَّلًا، وبشرطِ التلفُّظ بقوله: «لا خِلابةَ» أو ما في معناها ثانيًا، ورأى أنَّ الحكم صَدَرَ في حقِّ حَبَّانَ بنِ مُنْقِذٍ رضي الله عنه على وجهِ القضاء؛ فقَدْ ضيَّق مجرى الخيارِ وأَثْبَتَه في الحالتين السابقتين.

المسألة الثانية: في مدَّة الخيار:

يتمثَّل سببُ الاختلاف في مدَّة الخيار في الآتي:

ـ هل تحديد المدَّةِ في النصِّ مِن الخاصِّ الذي أُريدَ به العامُّ أو هو مِن الخاصِّ الذي أُريدَ به الخاصُّ(٥٧).

ـ فمَن نَظَرَ إلى مفهوم الخيار ومقصودِه، وهو اختبارُ المَبيعِ الذي يجب أَنْ يكون محدودًا بزمانٍ لإمكانِ اختبارِ المَبيع، وهو يختلف باختلافِ المَبيع، ورأى ـ أيضًا ـ أنَّ الخيار شُرِعَ للتروِّي والمَشورةِ، وقَدْ لا يكفي التحديدُ الواردُ في النصِّ؛ وَكَلَ أَمْرَ الخيارِ إلى اتِّفاق المتعاقِدَيْن، أو حدَّد لكُلِّ مَبيعٍ مدَّةً للخيار، وقال: بأنَّ النصَّ وَرَدَ تنبيهًا على هذا المعنى، وهو مِن باب الخاصِّ الذي أُريدَ به العامُّ.

ـ ومَن نَظَرَ إلى الأصل في أنه لا يجوز منه إلَّا ما وَرَدَ فيه النصُّ، بمعنى الاقتصارِ على أقصى ما فيه وهو ثلاثةُ أيَّامٍ، وأنها مدَّةٌ كافيةٌ في اختبارِ المَبيع، وبها تَتحقَّقُ الحاجةُ غالبًا؛ قال: إنَّ التحديد الوارد في النصِّ هو مِن باب الخاصِّ الذي أُريدَ به الخاصُّ.

الترجيح:

ففي ثبوت خيار الغَبْن يترجَّح قولُ الجمهور؛ لأنه لو كان الغَبْنُ يُثْبِتُ حقَّ الفسخِ لم يأمره بالشرط ولَمَا احتاج إليه.

أمَّا في مدَّةِ الخيار فإنَّ التقدير بالثلاث الذي وَرَدَ به الحديثُ، وعلى فَرْضِ صحَّته فقَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ الغالبِ الأعمِّ؛ لأنَّ الحاجة تتحقَّق في هذه المدَّةِ غالبًا، وفي حالةِ عدَمِ تَحقُّقِها فإنَّ هذا التقدير لا يمنع مِن الزيادةِ عليها عند الحاجة، كما حَصَلَ التقديرُ في حجارة الاستنجاء بالثلاث، وتجب الزيادةُ على ذلك عند الحاجة.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

 



(١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «البيوع» (٤/ ٣٣٧) بابُ ما يُكْرَهُ مِن الخداع في البيع، ومسلمٌ في «البيوع» (١٠/ ١٧٦) بابُ مَن يُخْدَعُ في البيع، مِن حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما.

(٢) انظر: الحديثَ الذي أخرجه البخاريُّ في «المغازي» (٧/ ٣٩٢) بابُ غزوة الخندق وهي الأحزاب.

(٣) انظر: «أُسْد الغابة» لابن الأثير (٣/ ٢٢٧).

(٤) انظر: ما أخرجه البخاريُّ في «أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم» (٧/ ٨٩ ـ ٩٠) بابُ مَناقِبِ عبد الله ابنِ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنهما، ومسلمٌ في «فضائل الصحابة» (١٦/ ٣٨) باب: مِن فضائل عبد الله ابنِ عمر رضي الله عنهما.

(٥) انظر: «الإصابة» (٢/ ٣٣٨ ـ ٣٤١) و«تهذيب التهذيب» (٥/ ٣٢٨ ـ ٣٣١) كلاهما لابن حجر.

(٦) انظر: «تيسير مصطلح الحديث» للطحَّان (١٩٩)، «الوجيز في علوم الحديث» لعجَّاج (٣٧٨).

(٧) انظر ترجمته وأحاديثه في: «مسند أحمد» (٢/ ٢)، «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٢/ ٣٧٣، ٤/ ١٤٢)، «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٥/ ١٠٧)، «المستدرك» للحاكم (٣/ ٥٥٦)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٣/ ٩٥٠)، «أُسْد الغابة» (٣/ ٢٢٧) و«الكامل» (٤/ ٣٦٣) كلاهما لأبي الحسن بن الأثير، «وفيات الأعيان» لابن خِلِّكان (٣/ ٢٨)، «سِيَر أعلام النُّبَلاء» للذهبي (٣/ ٢٠٣)، «مرآة الجنان» لليافعي (١/ ١٥٤)، «البداية والنهاية» لابن كثير (٩/ ٤)، «وفيات ابنِ قنفذ» (٢٢)، «الإصابة» (٢/ ٣٤٧) و«تهذيب التهذيب» (٥/ ٣٢٦) كلاهما لابن حجر، «طبقات الحُفَّاظ» للسيوطي (١٨)، «الفكر السامي» للحجوي (١/ ٢/ ٢٧٤)، «الرياض المستطابة» للعامري (١٩٤)، ومؤلَّفي: «الإعلام بمنثور تراجم المشاهير والأعلام» (٢٢٢).

(٨) أخرجه أبو داود في «البيوع» (٣/ ٢٨٢) بابٌ في الرجل يقول ـ في البيع ـ: لا خِلابةَ، والنسائيُّ في «البيوع» (٧/ ٢٥٢) بابُ الخديعة في البيع، ومالكٌ في «الموطَّإ» (٢/ ١٧١)، مِن حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما.

(٩) أخرجه أبو داود في «البيوع» بابٌ في الرجل يقول ـ في البيع ـ: لا خلابةَ (٣/ ٢٨٢)، والترمذيُّ في «البيوع» (٣/ ٥٥٢) بابُ ما جاء فيمن يُخْدَع في البيع، مِن حديث أنسٍ رضي الله عنه.

(١٠) أخرجه ابنُ ماجه في «الأحكام» (٢/ ٧٨٩) بابُ الحَجْر على مَن يُفْسِد مالَه، والدارقطنيُّ في «سننه» (٤/ ١٠)، مِن حديث عبدِ الأعلى عن محمَّد بنِ إسحاق عن محمَّد بنِ يحيى بنِ حَبَّان. وأخرجه البيهقيُّ في «الكبرى» (٥/ ٢٧٣) مِن حديث يونس بنِ بُكَيْرٍ عن محمَّد بنِ إسحاق عن نافعٍ عن ابنِ عمر رضي الله عنهما. والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٢٨٧٥).

(١١) انظر الحديثَ الذي أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٥/ ٢٧٣ ـ ٢٧٤).

(١٢) انظر: «شرح السنَّة» للبغوي (٨/ ٤٧)، «شرح مسلم» للنووي (١٠/ ١٧٧).

(١٣) انظر: «التعريفات» للجرجاني (١٦١)، «الكُلِّيَّات» لأبي البقاء (٦٧١)، «التعريفات الفقهية» للبركتي (١٥٦).

(١٤) انظر: «النهاية» لابن الأثير (٢/ ٥٨)، «لسان العرب» لابن منظور (١/ ٣٧٣).

(١٥) انظر: «النهاية» (٢/ ٥٨) و«جامع الأصول» (١/ ٤٩٤) كلاهما لأبي السعادات بن الأثير.

(١٦) انظر: الحديثَ الذي رواهُ مسلمٌ في «الإيمان» (٢/ ٣٦ ـ ٣٧) بابُ بيانِ أنَّ الدِّينَ النصيحةُ، مِن حديث تميمِ بنِ أوسٍ الداريِّ رضي الله عنه.

(١٧) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٣٧).

(١٨) انظر: «النهاية» لابن الأثير (٣/ ٢٧٠)، «لسان العرب» لابن منظور (٢/ ٨٣٦).

(١٩) انظر: «النهاية» لابن الأثير (١/ ٣٤٢)، «مختار الصحاح» للرازي (١٢٣)، «لسان العرب» لابن منظور (١/ ٥٧٣).

(٢٠) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «البيوع» (٤/ ٣٢٨) باب: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، ومسلمٌ في «البيوع» (١٠/ ١٧٦) بابُ ثبوتِ خيارِ المجلس للمُتبايِعَيْن، مِن حديث حكيمِ بنِ حِزامٍ رضي الله عنه.

(٢١) أخرجه ابنُ جارودٍ في «المنتقى» (٢٢٥)، والحُمَيْديُّ في «مسنده» (١/ ٥٣٧)، مِن حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما: «أَنَّ مُنْقِذًا سُفِعَ فِي رَأْسِهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ مَأْمُومَةً فَخَبَلَتْ لِسَانَهُ، وَكَانَ إِذَا بَايَعَ يُخْدَعُ فِي البَيْعِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَايِعْ وَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، ثُمَّ أَنْتَ بِالخِيَارِ ثَلَاثًا»»، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَسَمِعْتُهُ يُبَايِعُ وَيَقُولُ: «لَا خِذَابَةَ».

(٢٢) انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٢٣٠).

(٢٣) «المحلَّى» لابن حزم (٨/ ٤١٠).

(٢٤) أخرجه مسلمٌ في «البيوع» (١٠/ ١٧٦) بابُ مَن يُخْدَعُ في البيع، مِن حديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما.

(٢٥) أخرجه الدارقطنيُّ في «سننه» (٤/ ٧)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٥/ ٢٧٣) وفي «معرفة السنن والآثار» (٨/ ٢٤)، مِن حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما.

(٢٦) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٣٨).

(٢٧) انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٢٣٠).

(٢٨) أخرجه البخاريُّ في «الوصايا» (٥/ ٣٦٩) بابُ الوصيَّة بالثلث، ومسلمٌ في «الوصيَّة» (١١/ ٧٦) بابُ الوصيَّة بالثلث، مِن حديث سعد بنِ أبي وقَّاصٍ رضي الله عنهما.

(٢٩) انظر: «المنتقى» للباجي (٥/ ١٠٨)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ٥٨٤).

(٣٠) انظر: «عارضة الأحوذي» لابن العربي (٦/ ٨)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٣٧).

(٣١) انظر: «مَعالِم السنن» للخطَّابي (٣/ ١٣٨)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٣٨).

(٣٢) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٣٨).

(٣٣) سبق تخريجه، انظر: (الهامش ١٦).

(٣٤) انظر: «المغني» لابن قدامة (٤/ ٥٨٤).

(٣٥) انظر: «سُبُل السلام» للصنعاني (٢/ ٣٥)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٣٠).

(٣٦) رواهُ مسلمٌ في «البيوع» (١٠/ ١٦٤) بابُ تحريمِ تلقِّي الجَلَب، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٣٧) انظر: «المهذَّب» للشيرازي (١/ ٢٦٥)، «البدائع» للكاساني (٥/ ١٧٤)، «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٢٠٩)، «المغني» (٣/ ٥٨٩) و«الكافي» (٢/ ٤٧) كلاهما لابن قدامة، «حاشية الدسوقي» على «الشرح الكبير» للدردير (٢/ ٩٥).

(٣٨) انظر: «المحلَّى» لابن حزم (٨/ ٤١٠)، «تحفة الفقهاء» للسمرقندي (٢/ ٩٨)، «مغني المحتاج» للشربيني (٢/ ٤٧)، «نهاية المحتاج» للرملي (٤/ ١٧).

(٣٩) انظر: «المنتقى» للباجي (٥/ ٥٦)، «القوانين الفقهية» لابن جُزَيٍّ (٢٦٣)، «مختصر خليل» بشرح الزرقاني (٥/ ١١١)، «حاشية الدسوقي» على «الشرح الكبير» للدردير (٣/ ٩١ ـ ٩٥).

(٤٠) انظر: «تحفة الفقهاء» للسمرقندي (٢/ ٩٣)، «المغني» (٤/ ٥٧٦) و«الكافي» (٢/ ٤٥) كلاهما لابن قدامة، «العُدَّة» للبهاء المقدسي (٢٢٨).

(٤١) انظر: «الاختيارات الفقهية» للبعلي (١٢٥).

(٤٢) تقدَّم تخريجه، انظر: (الهامش ١٠).

(٤٣) أخرجه مسلمٌ في «البيوع» (١٠/ ١٦٦) بابُ حكمِ بيعِ المُصرَّاة، وغيرُه، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٤٤) أخرجه الدارقطنيُّ في «سننه» (٤/ ٦)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٥/ ٢٧٤).

(٤٥) رواهُ الترمذيُّ في «الأحكام» (٣/ ٦٣٥) بابُ ما ذُكِر عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الصلح بين الناس، وابنُ ماجه في «الأحكام» (٢/ ٧٨٨) بابُ الصلح، مِن حديث عمرو بنِ عوفٍ المُزَنيِّ رضي الله عنه، وله طُرُقٌ أخرى. قال الألبانيُّ في «الإرواء» (٥/ ١٤٥): «وجملةُ القول: أنَّ الحديثَ ـ بمجموعِ هذه الطُّرُقِ ـ يرتقي إلى درجةِ الصحيح لغيره، وهي ـ وإِنْ كان في بعضها ضعفٌ شديدٌ ـ فسائرُها ممَّا يصلح الاستشهادُ به، لاسيَّما وله شاهدٌ مُرْسَلٌ جيِّدٌ».

(٤٦) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٢١٠).

(٤٧) «مفتاح الوصول» للتلمساني (٤٧٣).

(٤٨) سبق تخريجه، انظر: (الهامش ٤٥).

(٤٩) قال ابنُ الملقِّن في «البدر المنير» (٦/ ٥٣٩): «وأمَّا روايةُ: «وَاشْتَرِطِ الخِيَارَ ثَلَاثًا» فغريبةٌ، قال ابنُ الصلاح: مُنْكَرةٌ لا أَصْلَ لها».

(٥٠) تقدَّم تخريجه، انظر: (الهامش ٢١).

(٥١) «التلخيص الحبير» لابن حجر (٣/ ٢١).

(٥٢) استدلَّ ابنُ الجوزيِّ في «التحقيق في أحاديث الخلاف» (٢/ ١٦٧) على اشتراطِ الثلاث بحديثِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ثمَّ بحديثِ محمَّد بنِ يحيى بنِ حَبَّان، وأجاب عن حديثِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما بأنَّ فيه أحمد بنَ عبد الله بنِ مَيْسَرَةَ وقد ضعَّفه الدارقطنيُّ، وقال ابنُ حِبَّان: لا يَحِلُّ الاحتجاجُ به، [انظر: «نصب الراية» للزيلعي (٤/ ٨)، «التعليق المغني» لمحمَّد شمس الحقِّ (٣/ ٥٦)]، وقد حسَّنه الألبانيُّ كما تَقَدَّمَ، وعنعنةُ محمَّد بنِ إسحاق إنما كانَتْ عند روايةِ ابنِ ماجه مع كونها مُرْسَلةً، أمَّا الروايات الأخرى فقَدْ صرَّح ابنُ إسحاق فيها بالتحديث، وهو حَسَنُ الحديثِ عند التصريح بالتحديث، أمَّا الإرسالُ فقَدِ انجبر لمجيئه موصولًا مِن طريقِ نافعٍ عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، [انظر: «السلسلة الصحيحة» (٢٨٧٥)].

(٥٣) انظر: «عارضة الأحوذي» لابن العربي (٦/ ٩)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٣٨)، «التعليق المغني» لمحمَّد شمس الحقِّ (٣/ ٥٦).

(٥٤) «البدر المنير» لابن الملقِّن (٦/ ٥٣٩).

(٥٥) انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ٥٨٦).

(٥٦) انظر: المرجع السابق.

(٥٧) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٢١٠).