Skip to Content
الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 29 مارس 2024 م

الكلمةُ الشَّهريةُ رقمُ: ١٥٥

[الحلقةُ الثَّامنةَ عَشْرَةَ]

[الجزءُ السَّابعُ]

قالَ الشَّيخُ عبدُ الحَميدِ بنُ بَاديسَ ـ رحمهُ اللهُ ـ:

«الأصلُ السَّابع
[حَقُّ الأُمَّةِ في مناقشة أولي الأمر ومحاسبتهم]

حَقُّ الأُمَّةِ فِي مُنَاقَشَةِ أُولِي الأَمْرِ وَمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَحَمْلِهِمْ عَلَى مَا تَرَاهُ هِيَ لَا مَا يَرَوْنَهُ هُمْ، فَالكَلِمَةُ الأَخِيرَةُ لَهَا لَا لَهُمْ(١)، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مُقْتَضَى تَسْدِيدِهِمْ وَتَقْوِيمِهِمْ عِنْدَمَا تَقْتَنِعُ بِأَنَّهُمْ عَلَى بَاطِلٍ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُقْنِعُوهَا أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ(٢).

وَهَذَا مَأْخُوذٌ ـ أَيْضًا ـ مِنْ قَوْلِهِ: «وَإِنْ رَأَيْتُمُونِي عَلَى بَاطِلٍ فَسَدِّدُونِي»».

ـ يُتبَع ـ

 



(٢) تناولَ المُصنِّفُ ـ رحمه الله ـ في «الأصلِ الرابع» مسألةَ حَقِّ الأُمَّةِ في الرقابةِ على الحاكِمِ: مِنْ إشرافٍ وفَحصٍ وتفتيشٍ ومُراجعةٍ لعموم نشاطاتِهِ وتَصرُّفاتِهِ ومَواقفِهِ بواسطةِ صَفوةِ أفرادِ الأُمَّةِ ورِجالِهَا الَّذينَ وَضعَتِ الأُمَّةُ فيهم ثِقتَهَا، وارتَضَتْهُم في النِّيابَةِ عنها في تدبيرِ شُؤونِهَا وتحصيلِ مصالِحِهَا مِنْ هَيئَةٍ تتضمَّنُ كبارَ العُلماءِ والمُصلحينَ والخُبراءِ مِنْ أهلِ الحَلِّ والعَقْدِ، وأَهْلِ الرَّأيِ والتَّدبيرِ والشُّورَى والاجتهاد.

ويتجلَّى الغَرَضُ مِنَ الرَّقابَةِ في التَّأكُّدِ مِنَ السَّيْرِ المَرْضِيِّ لإدارةِ الحَاكِمِ ونُوَّابِه وأعوانِه شؤونَ الأُمَّةِ وَفْقَ مَبادِئِ الشَّريعَةِ وأُصولِهَا وأَحكامِهَا، والسَّهَرِ على مَصالِحِهَا، والدِّفاعِ عن حدودِها، بِناءً على عَقْدِ البَيعَةِ الَّتِي تُوكِلُ الأُمَّةُ بِمُوجَبِها إلى الحاكم أَنْ يقوم بهذهِ المَهامِّ، فالمُراقبة ـ بهذا الوجه ـ هي خُطوَةٌ سابِقَةٌ للمُحاسَبَةِ ـ كما سيأتي بيانها ـ يَغلِبُ عليها الطَّابَعُ الوِقائيُّ، وتَهدِفُ إلى تلافي الخَلَلِ والاضطرابِ بالتَّوجيهِ والإرشادِ والنُّصحِ قبلَ حُدوثِهِ.

وهذا بخلافِ المُحاسَبَةِ، فإنَّ الأُمَّةَ تسعى ـ عن طريقِ صَفوَةِ رِجالها دائمًا ـ إلى تدارُكِ الاضطرابِ ورفعِهِ، وسدِّ الخَلَلِ ومعالجتِهِ بَعدَ حدوثِهِ، بمُساءلةِ الحاكمِ ونُوَّابِه وأعوانِه عن حُقوقِ الأُمَّةِ المَشروعةِ وأموالِهَا الَّتِي ائتُمِنوا عليها، وعَن سهرِهِم على مَصالِحِهَا ودِفاعِهِم عن حُدودِهَا الَّتي كانوا مَسؤولين عنها، وذلك بعد تقويم أفعالِهم وتَصرُّفاتِهِم ونَفقاتِهِم، فالمُحاسبَةُ ـ بهذا الاعتبار ـ تَهدِفُ إلى إنزالِ الجَزاءِ المُناسبِ على مُقْتَرفِي الخَلَلِ والاضطرابِ ـ بسُوءِ تَسيِيرِ شُؤونِ الأُمَّةِ وإدارتِها، وتَضيِيعِ مَصالِحِهَا وحُقوقِهَا ـ بما تراه صحيحًا ومناسبًا، فالمُحاسبةُ ـ إذن ـ هي خُطوةٌ لاحِقَةٌ للمُراقَبَةِ تَلِي رُتبتَهَا ويَغلبُ عليها الطَّابَعُ العِلاجيُّ والجَزَائيُّ، لذلك كان تَثبيتُ مَبدإِ مُراقبةِ الحاكمِ ونُوَّابِه ومُحاسبتهِم أمرًا ضروريًّا وضمانةً أساسيَّةً للحِفاظِ على عقد الإمامةِ بين الحاكمِ والأُمَّةِ، وصَونِهِ عن الخُروجِ عن مُقتضاهُ أو انحرافِهِ عن مُبتغاهُ وغاياتِهِ وأهدافِه ومرامِيهِ، لذلك كان مِنْ أعظمِ أسبابِ استقامةِ الإمامِ الحاكمِ قيامُ الأُمَّةِ ـ عن طريق أهل الحلِّ والعقد ـ بواجبها تجاهَه مِنْ جِهةِ مُراقَبتِه ومُحاسبتِه على تصرُّفاتِه؛ لأنَّ استقامةَ الإمامِ الحاكمِ كفيلةٌ بأَنْ تُقامَ الحُدودُ وتُؤخَذَ الحقوقُ، ويَتحقَّقَ العدلُ، وتُوضعَ الأمورُ في نصابها.

والمُحاسبةُ ـ من حيثُ مشروعيَّتُها ـ تندرجُ ضِمنَ مبدإِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكرِ، وهي مِنَ النَّصيحة لأئمَّة المسلمين ـ أيضًا ـ ومَعنى ذلك: أنَّ كُلَّ نَصٍّ شرعيٍّ ثبتَ في الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكرِ يَصلحُ أن يكونَ دليلًا على طلبِ المُحاسبةِ؛ لأنَّهُ مِنَ النَّصيحةِ الَّتي هي الدِّينُ، قال النَّوويُّ ـ رحمه الله ـ [في «شرح مسلم» (٢/ ٢٢)] في مَعرِضِ بيانِ وُجوبِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ: «وقَد تَطَابقَ على وُجوبِ الأمرِ بالمَعرُوفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ الكتَابُ والسُّنَّةُ وإجمَاعُ الأُمَّةِ، وهو ـ أيضًا ـ مِنَ النَّصِيحَةِ الَّتي هي الدِّينُ، ولَمْ يُخَالِفْ في ذلك إلَّا بَعضُ الرَّافِضَةِ ولا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِم»، ثمَّ قال ـ رحمه الله ـ (٢/ ٢٣): «قال العلماءُ: ولا يَختصُّ الأمرُ بالمَعروفِ والنَّهيُ عن المُنكَرِ بأصحابِ الولاياتِ، بل ذلك جائزٌ لآحادِ المُسلمينَ؛ قال إمامُ الحَرمَينِ: والدَّليلُ عليه إجماعُ المُسلمينَ، فإنَّ غَيْرَ الوُلاةِ في الصَّدرِ الأَوَّلِ والعَصرِ الَّذي يليهِ كانوا يَأمرونَ الوُلاةَ بِالمَعروفِ ويَنهَوْنَهم عَنِ المُنكَرِ، مع تقريرِ المُسلمِينَ إيَّاهم وتركِ توبيخِهم على التَّشاغُل بالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ مِنْ غيرِ وِلايةٍ».

وهذا المَعنى الذي ذَكرَهُ النَّوويُّ ـ رحمه الله ـ مُتضمَّنٌ في قول الصِّدِّيق رضي الله عنه: «وإِنْ رَأَيْتُمونِي عَلَى بَاطِلٍ فَسَدِّدُونِي» وفي لفظٍ: «وَإِنْ زِغْتُ فَقَوِّمُونِي»؛ ومِن نماذجِ ذلك ـ أيضًا ـ ما أخرجه البُخاريُّ في «التاريخِ الكبيرِ» (٢/ ٩٨): أَنَّ عُمَرَ قالَ يَوْمًا فِي مَجلِسٍ وَحولَهُ المُهاجرونَ والأَنْصَارُ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ تَرَخَّصْتُ في بَعْضِ الأَمْرِ: مَا كُنْتُمْ فَاعِلِينَ؟» فَسَكَتُوا، فَعَادَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: «لَوْ فَعَلْتَ قَوَّمْنَاكَ تَقْوِيمَ القِدْحِ [أي: السهم]»، قَالَ عُمَرُ: «أَنْتُمْ إِذًا أَنْتُمْ»؛ [وإسنادُه صحيحٌ، وانظر: «حديثَ مُصعَبِ بنِ عبدِ اللهِ» لأبي القاسم البَغَوِيِّ (٧٣)، قال ابن الأثير في «النهاية» (٤/ ٢٠): «يُقَالُ للسَّهم أَوَّلَ مَا يُقْطَع: قِطْعٌ، ثُمَّ يُنْحَتُ ويُبرَى فيُسَمَّى بَرِيًا، ثُمَّ يُقَوَّمُ فيسمَّى قِدْحًا، ثُمَّ يُرَاش ويُرَكَّب نَصْلهُ فيُسَمَّى سَهْمًا»]، وفي هذا الأثر بشيرُ بن سعدٍ رضي الله عنه قيل: لم يدرك خلافةَ عمرَ بنِ الخَطَّاِب رضي الله عنهما، ومن هذا النَّصِّ رجَّحَ الحافظُ ابنُ حجر في «التهذيب» خِلافَ ذلك، فقال: «قلت: فهذا يدلُّ على أنَّه بقي إلى خلافةِ عُمرَ»، ولكن نُقولٌ كثيرةٌ عن أهلِ العلمِ أنَّه رضي الله عنه تُوُفِّيَ في خلافةِ أبي بكرِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، فلم يُدركْ بَشيرُ بنُ سَعدٍ خلافةَ عمرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه؛ وفي صُوَرِ هذا النَّموذجِ التَّطبيقيِّ دليلٌ على مَشرُوعيَّةِ إنكارِ البَاطِلِ والخطإ والزَّيْغِ مِنَ الأَئمَّةِ بتسديدِ البَاطلِ وتصويبِ الخطإ وتقويمِ الزَّيغِ ـ قَدْرَ الإمكانِ ـ بالضوابط الشرعيَّة، وذلك بالنَّصيحةِ والبيانِ والإرشادِ، وقد ذكر هذا المعنى ابنُ تيميَّةَ [في «منهاج السُّنَّة النَّبويَّة» (٨/ ٢٧٢)] حيث قال ـ رحمه الله ـ: «فإنِ استقامَ الإمامُ أعانوه على طاعةِ اللهِ تعالى، وإن زاغَ وأخطأ بَيَّنوا له الصَّوابَ ودَلُّوه عليه، وإن تَعمَّدَ ظُلمًا مَنعوهُ منه بحَسَب الإمكانِ، فإذا كانَ مُنقادًا للحَقِّ كأبي بكرٍ فلا عُذرَ لهم في تركِ ذلك، وإن كان لا يمكنُ دفعُ الظُّلمِ إلَّا بما هو أعظمُ فسادًا منه لم يَدفَعوا الشَّرَّ القليلَ بالشَّرِّ الكثيرِ».

علمًا أنَّ كلمةَ الحقِّ تَعْلُو على منصبِ الإمامةِ، وهَيبةُ السُّلطانِ لا تمنعُ الرَّدَّ عليه وإنكارَ مَقالتِهِ بالتلطُّف واللِّين بضوابطِ النَّصيحةِ وشُروطِهَا المُتقدِّمةِ مِنْ باب إرادةِ الخير وكراهةِ الشرِّ له، وذلك مِنْ حقِّ الإمام على الأمَّة، وفيه إحياءٌ له وإنقاذٌ له مِنَ التقاحم في النَّارِ، ويشهدُ لذلك ما تقدَّم مِن حديثِ مُعاويةَ رضي الله عنه أنَّه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَتَكُونُ أَئِمَّةٌ مِنْ بَعْدِي يَقُولُونَ فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ يَتَقَاحَمُونَ فِي النَّارِ كَمَا تَقَاحَمُ القِرَدَةُ»؛ [صحيح: تقدَّم تخريجه، وهذا اللَّفظُ مِنْ «جامع السيوطي» (١٣/ ٢٥٥)]؛ قال الصَّنعانِيُّ ـ رحمه الله ـ [في «التَّنوير شرح الجامع الصغير» (٦/ ٣٩٠)] شارحًا معنى الحديث: ««سَتَكُونُ أَئِمَّةٌ مِنْ بَعْدِي يَقُولُونَ» أي: المُنْكَرَ مِنَ القَوْلِ، بدليل قوله: «فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ» مهابةً لهم وخوفًا مِن بطشهِم، «يَتَقَاحَمُونَ فِي النَّارِ»، أي: يقعونَ فيها كما يَقتحِمُ الإنسانُ الأمرَ العظيمَ ويرمي نفسَهُ فيه بلا رَوِيَّةٍ، كما «تَقَاحَمُ القِردةُ» أي: في الأمرِ الذي يثبت عليه هذا، ويحتملُ أنَّ الضَّميرَ «يَتَقَاحَمُونَ» للأئمَّةِ ولِمَن لم يَرُدَّ عليهِم مُداهنَةً وتهاوُنًا في الدِّينِ».

ولا يخفى أنَّ المُحاسَباتِ والعقوباتِ المَبنيَّةَ على العَدْلِ والرَّدْعِ في الشَّريعَةِ تُقامُ على مَن قامَتْ فيهِم أسبابُها وشُروطُها مِن غيرِ تفريقٍ، إِذْ نُصوصُ الشَّرعِ لم تُفرِّقْ بينَ حاكمٍ ومحكومٍ، ولا بينَ شريفٍ ووضيعٍ، ولا بينَ قويٍّ وضعيفٍ، فالكُلُّ يخضعُ للمحاسبةِ والعقوبةِ على وجهِ المُساواةِ إذا توفَّرت أسبابُها وتحقَّقَتْ شُروطُها وانتفَتْ مَوانِعُهَا، ومعنى ذلك: أنَّ الوِلايةَ لا تُكسِبُ الوالِيَ حصانةً تَدفعُ عنه المُحاسبةَ والجَزاءَ إذا قامت به أسبابُهما، والحُكمُ لا يمنحُ الحاكمَ مَزيَّةً أو فضلًا على غيره في بابِهِما؛ لأنَّ الحصانةَ والمُحاباةَ لأجلِ المَنصِب والجاهِ والشَّرَفِ والنَّسَبِ والحَسَبِ مانعانِ مِنْ إنزالِ العُقوبَةِ وإقامَةِ الحَدِّ، وذلك ـ بلا ريبٍ ـ سببٌ لهلاكِ الأُمَّةِ لانتفاءِ شرطِ العَدْلِ والرَّدعِ فيها، كما جاء في الحديث: «أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: «وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟»، فَقَالُوا: «وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟!»، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ؛ وَايْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»»؛ [مُتَّفَقٌ عليهِ: أخرجه البخاريُّ في «الحدود» (١٢/ ٨٧) بابُ كراهيَةِ الشَّفاعةِ في الحدِّ إذا رُفِعَ إلى السُّلطانِ، ومسلمٌ في «الحدودِ» (١١/ ١٨٦) بابُ قطعِ السَّارقِ الشَّريفِ وغيرِهِ، والنَّهي عن الشَّفاعةِ في الحدودِ، من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها].

هذا، ومُحاسبَةُ الحاكمِ لها ضَوابِطُ وشُروطٌ تجتمعُ مع غالب شروطِ النَّصيحةِ المُتقدِّمِ ذِكرُها، منها: أن يكون ما يُحاسَبُ عليه مُحرَّمًا أو باطلًا أو مُنكرًا مَنهيًّا عنه شرعًا باتِّفاقٍ أو رجحانٍ، وأن يكونَ ما يُحاسَبُ عليه مَوجودًا مُتحقِّقًا لا مُتوهَّمًا، وأن يكونَ ظاهرًا غيرَ خفيٍّ، وأَنْ لا يكونَ مِنْ بابِ الاجتهادِ والتَّأويلِ، وأَنْ تتوفَّرَ القُدرةُ على المُحاسبةِ، وأن لا يَترتَّبَ على المَصلحةِ المَرجوَّةِ مِنَ المُحاسبَةِ ضَرَرٌ أو مَفسدةٌ أعظمُ؛ لأنَّ الغايةَ المُبتغاةَ مِنَ المُحاسبةِ إنَّما هي دفعُ المَفاسِدِ أو تَقليلُهَا وليس جَلْبَهَا وتَكثيرَها على ما تقرَّر مَقاصديًّا، مثلَ أن لا تكونَ المُحاسبةُ سببًا للتَّهْلكةِ ومحلًّا للفتنةِ: كأَنْ يترتَّبَ عليها سفكُ الدِّماءِ وانتهاكُ الأعراضِ والحُرماتِ وانتهابُ الأموالِ ونحوُها، فإنَّ هذه المَفاسدَ وغيرَها تزيدُ مِنَ الأضرارِ والفسادِ والشَّرِّ ما لا يَخفَى، وتُخرِجُ عقدَ الإمامةِ عن مُقتضاهُ، وتَنحرِفُ به عن مَرماهُ، وتَمنحُ للحاكمِ قُوَّةً يزدادُ بها استِعلاءً وغَطْرَسةً وتجبُّرًا، ولا شكَّ أنَّ المُحاسَبَةَ ـ عِندَئذٍ ـ لا يتحقَّقُ مقصودُها منها ولا غايتُها المنشودةُ، ولا تَترتَّبُ آثارُهَا المَرجوَّةُ مع وجودِ هذه المَفاسدِ لانعدامِ القُدرةِ اللَّازمةِ لإقامَتِهَا وفَرْضِهَا.

لذلك لا تجوز المُحاسبةُ ـ والحالُ هذه ـ لاختلالِ شرطِهَا المُتقدِّمِ، مع لزومِ السَّعيِ لتحصيلِ القُدرةِ المُرْغمةِ والرَّادعَةِ الَّتي تَتحقَّقُ بها المُحاسبَةُ بأدنى ضَررٍ وأقلِّ مَفسدةٍ مُمكنةٍ.

تنبيهٌ مهمٌّ:

إذا تقرَّر أنَّ الأُمَّةَ التي يُمثِّلها أهلُ الحَلِّ والعقد بناءً على الطَّريقِ الأوَّلِ مِنْ طُرُقِ انعقادِ الإمامَةِ الكُبرى، وهو الاختيار والبَيْعَةُ ـ كما تقدَّمَ ـ فإنَّه يترتَّبُ على حقِّ الأُمَّةِ لواحقُ عقدِ الإمامةِ مِنْ مُراقبةٍ ومُحاسبةٍ وعزلٍ (معاقبةٍ) بالضَّوابِطِ الشَّرعيَّةِ السَّابقةِ، غيرَ أنَّ الجديرَ بالتَّنبيهِ والمُلاحظةِ أنَّ جملةَ هذهِ اللَّواحِقِ لا ترقَى إلى مُستَوَى العملِ بها في الواقعِ ـ غالبًا ـ، بل هي مجرَّدُ أحكامٍ نظريَّةٍ بعيدةِ التَّطبيقِ مِنَ النَّاحيَةِ العَمَليَّةِ، لصُعوبةِ القيامِ بها وتَحقيقِها على وجهٍ يخلُو مِنَ المَفاسِدِ والشَّرِّ المُستطِيرِ وخاصَّةً في هذه الأزمنةِ؛ لأجلِ ذلك أمرَ أهلُ السُّنَّةِ بوُجُوبِ الطَّاعةِ في المَعرُوف ولو مع حصولِ الظُّلمِ مِنَ الأئمَّةِ، ومَنَعُوا الخُروجَ عليهم وقتالَهُم على ما ساقَهُ ابنُ تيميَّةَ [في «منهاجِ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ» (٣/ ٣٩٠)] حيث قال رحمه الله ـ في معرِضِ بيانِ أقوالِ أهلِ العلمِ في حُكمِ طاعةِ وليِّ الأمرِ الفاسقِ فيما يأمرُ بِهِ مِنْ عَدلٍ ـ ما نصُّه: «القولُ الثَّالثُ: هو الفَرْقُ بين الإمامِ الأعظمِ وبين غيرِه؛ لأنَّ ذلك لا يمكنُ عَزْلُهُ إذا فَسَقَ إلَّا بقتالٍ وفتنةٍ، بخلافِ الحاكمِ [أي: القاضي أو النائب] ونحوِه، فإنه يمكن عزلُهُ بدون ذلك، وهو فرقٌ ضعيفٌ، فإنَّ الحاكمَ إذا وَلَّاهُ ذُو الشَّوكَةِ لا يمكن عَزْلُهُ إلَّا بفتنةٍ، ومتى كان السَّعيُ في عزلِهِ مَفسدةً أعظمَ مِنْ مفسدَةِ بقائِهِ لم يَجُزِ الإتيانُ بأعظمِ الفسادَيْنِ لدفع أدناهما، وكذلك الإمامُ الأعظمُ، ولهذا كان المَشهورُ مِنْ مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ أنَّهم لا يَرونَ الخروجَ على الأئمَّةِ وقتالَهُم بالسَّيْفِ وإن كان فيهم ظُلْمٌ، كما دَلَّتْ على ذلك الأحاديثُ الصَّحيحةُ المُستفيضَةُ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم؛ لأنَّ الفسادَ في القتالِ والفتنةِ أعظمُ مِنَ الفسادِ الحاصلِ بظُلمِهم بدونِ قِتالٍ ولا فتنةٍ، فيُدفَعُ [وفي المطبوع: فلا يُدفَع، وهو تصحيفٌ] أعظمُ الفسادينِ بالتزامِ أدناهُمَا، ولعلَّهُ لا يكادُ يُعرَفُ طائِفَةٌ خرجَتْ على ذي سُلطانٍ إلَّا وكان في خروجها مِنَ الفسادِ ما هو أعظمُ مِنَ الفسادِ الَّذِي أزالته، واللهُ تعالى لم يأمُرْ بقتالِ كلِّ ظالمٍ وكلِّ باغٍ كيفما كان، ولا أَمَرَ بقتالِ الباغينَ ابتداءً، بل قال: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ[الحجرات: ٩]، فلم يأمُرْ بقتالِ الباغيةِ ابتداءً، فكيف يأمُرُ بقتالِ وُلَاةِ الأَمْرِ ابتداءً؟! وفي «صحيح مسلم» عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قالَ: «سَيَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُوُنَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، قالوا: أفلَا نُقاتِلُهم؟ قال: «لَا، مَا صَلَّوْا»؛ [سبق تخريجه]، فقد نهى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم عن قتالِهِم مع إخبارِهِ أنَّهم يأتون أُمُورًا مُنْكرَةً، فَدَلَّ على أنَّه لا يجوزُ الإنكارُ عليهم بِالسَّيفِ كما يراه مَنْ يُقاتِلُ وُلَاةَ الأَمْرِ مِنَ الخوارجِ والزَّيدِيَّةِ والمُعتزلةِ وطائفةٍ مِنَ الفقهاءِ وغيرِهم، وفي الصَّحيحينِ عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال لَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا»، قالوا: «فَمَا تَأْمُرُنَا يا رسولَ اللهِ؟» قال: «تُؤَدُّونَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ»؛ [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «المناقبِ» (٦/ ٦١٢) بابُ علاماتِ النُّبوَّةِ في الإسلامِ، وفي «الفِتَن» (١٣/ ٥) بابُ قولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا» (٧٠٥٢) ومسلمٌ في «الإمارة» (١٢/ ٢٣٢) باب وجوبِ الوفاءِ ببيعةِ الخليفةِ الأَوَّلِ فالأَوَّل]، فَقَدْ أخبرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أنَّ الأُمَرَاءَ يَظلِمونَ ويَفعلونَ أُمورًا مُنكَرةً، ومع هذا فأَمَرَنا أَنْ نُؤْتِيَهُم الحقَّ الَّذِي لهم ونسألَ اللهَ الحقَّ الذي لنا، ولم يأذَنْ في أخذِ الحقِّ بالقتالِ ولم يُرخِّصْ في تركِ الحقِّ الذي لهم، وفي الصَّحيحينِ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما عنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»؛ [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الأحكامِ» (١٣/ ١٢١) بابُ السَّمعِ والطَّاعةِ للإمامِ ما لم تكن معصيةً، ومسلمٌ في «الإمارة» (١٢/ ٢٤٠) بابُ وجوبِ مُلازمَةِ جماعةِ المُسلمينَ عند ظهورِ الفِتَنِ]، وفي لفظٍ: «فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» وَاللَّفظُ للبخاريِّ؛ [أخرجه البخاري في «الفتن» (١٣/ ٥) باب قولِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا»]، وقد تقدَّم قولُهُ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم لَمَّا ذَكَرَ أنَّهم: «لَا يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ» قال حذيفةُ: «كيفَ أَصنَعُ ـ يا رَسولَ اللهِ ـ إِنْ أَدْرَكْتُ ذلك؟» قالَ: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ»؛ [أخرجه مسلمٌ في «الفتن» (١٢/ ٢٣٧) بابُ وجوبِ ملازمةِ جماعةِ المسلمين عند ظُهورِ الفتنِ]، فهذا أمرٌ بالطَّاعَةِ مع ظُلمِ الأَمِيرِ».