Skip to Content
الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 29 مارس 2024 م

الكلمةُ الشَّهريةُ رقمُ: ١٦٠

[الحلقةُ الثالثةَ والعشرونَ]

[الجزءُ الثَّاني عَشَرَ الأخير]

قال الشَّيخُ عبدُ الحميدِ بنُ باديسَ ـ رحمه الله ـ:

«الأصلُ الثَّالثَ عَشَرَ
[شعور الراعي والرعية بالمسؤولية المشتركة بينهما]

شُعُورُ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ بِالمَسْؤُولِيَّةِ المُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمَا فِي صَلَاحِ المُجْتَمَعِ(٢)، وَشُعُورُهُمَا ـ دَائِمًا ـ بِالتَّقْصِيرِ فِي القِيَامِ بِهَا لِيَسْتَمِرَّا عَلَى العَمَلِ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ(٣)؛ فَيَتَوَجَّهَانِ بِطَلَبِ المَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ الرَّقِيبِ عَلَيْهِمَا.

وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: «أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ».

هَذَا مَا قَالَهُ وَنَفَّذَهُ أَوَّلُ خَلِيفَةٍ فِي الإِسْلَامِ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا(٤)؛ فَأَيْنَ مِنْهُ الأُمَمُ المُتَمَدِّنَةُ اليَوْمَ؟ فَهَلْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَنْطِقُ بِهَذَا مِنْ تَفْكِيرِهِ الخَاصِّ وَفَيْضِ نَفسِهِ الشَّخْصِيِّ؟ كَلَّا! بَلْ كَانَ يَسْتَمِدُّ ذَلِكَ مِنَ الإِسْلَامِ، وَيُخَاطِبُ المُسْلِمِينَ ـ يَوْمَ ذَاكَ ـ بِمَا عَلِمُوهُ وَمَا لَا يَخْضَعُونَ إِلَّا لَهُ وَلَا يَنْقَادُونَ إِلَّا بِهِ؛ وَهَلْ كَانَتْ هَذِهِ الأُصُولُ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الأُمَمِ فَضْلًا عَنِ العَمَلِ بِهَا؟ كَلَّا! بَلْ كَانَتِ الأُمَمُ غَارِقَةً فِي ظُلُمَاتٍ مِنَ الجَهْلِ وَالِانْحِطَاطِ، تَرْسُفُ فِي قُيُودِ الذُّلِّ وَالِاسْتِعْبَادِ تَحْتَ نِيرِ المُلْكِ وَنِيرِ الكَهَنُوتِ(٥)؛ فَمَا كَانَتْ هَذِهِ الأُصُولُ ـ وَاللهِ إِذَنْ ـ مِنْ وَضْعِ البَشَرِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْ أَمْرِ اللهِ الحَكِيمِ الخَبِيرِ(٦).

نَسْأَلُهُ ـ جَلَّ جَلَالُهُ ـ أَنْ يَتَدَارَكَنَا وَيَتَدَارَكَ البَشَرِيَّةَ كُلَّهَا بِالتَّوْفِيقِ لِلرُّجُوعِ إِلَى هَذِهِ الأُصُولِ الَّتِي لَا نَجَاةَ مِنْ تَعَاسَةِ العَالَمِ ـ اليَوْمَ ـ إِلَّا بِهَا(٧)».

عبد الحميد بن باديس
[«الآثار» (٣/ ٤٠١)، مجلَّة «الشِّهاب»: ج ١١، م ١٣، ص ٤٦٨ ـ ٤٧١
غُرَّة ذي القعدة ١٣٥٦ﻫ ـ جانفي ١٩٣٨م].

 



(١) «الآثار» (٣/ ٤٠١).

(٢) قد تقدَّم أنَّ على الإمامِ الحاكمِ واجباتٍ ومسؤوليَّاتٍ عُظمَى تتمثَّل في:

وظائفَ دِينيَّةٍ: مِنْ حفظِ الدِّينِ على أصولِهِ المُستقِرَّة وما أَجمعَ عليه سلفُ الأُمَّةِ، وحمايةِ حدودِه، والقيامِ بشعائرِه على الوجهِ المَرْضيِّ، ومعاقبةِ مُخالِفِيه، وجهادِ أعداءِ الدِّينِ، وجبايةِ أموالِ الزَّكاةِ والصَّدَقاتِ والفَيْءِ وما إلى ذلك.

وظائفَ سياسيَّةٍ: مِنْ حفظِ الأمنِ والنِّظامِ مِنَ الفوضَى والاضطرابِ، والذَّبِّ عن حُرُماتِ اللهِ، والدِّفاعِ عن دولةِ المُسلمينَ وبَيضتِهم ضِدَّ أعداءِ الإسلامِ، والقيامِ على أحوالِ العامَّةِ، والإشرافِ عليها بنفسه أو بأعوانه، وتعيينِ الأعوانِ والمُوظَّفين وَفْقَ معاييرِ الاختيارِ وشروطِه، ومُراقَبَتِهم ومُحاسَبَتِهم، وتسييرِ إدارةِ الأموالِ العامَّةِ وَفْقَ المَصلحةِ مِنْ غيرِ سَرَفٍ ولا تقتيرٍ، وإقامةِ العدلِ والإنصافِ بين النَّاسِ، والعِنايةِ بأمنِ عيشهم ومَسالِكِ رِزقِهم، والحفاظِ على حقوقِ الرعيَّة مِنَ الإتلافِ والتَّضييعِ كما سَبَق بيانُه؛ [انظر: «الأحكام السلطانيَّة» للماوردي (٤٠)، «الأحكام السلطانيَّة» لأبي يعلى (٢٧)، «تحرير الأحكام» لابن جماعة (٦٥)].

فإذا قام الإمامُ الحاكمُ بهذه الوظائفِ المَنوطةِ بِهِ والمُسنَدةِ إليه، وأدَّى حقوقَ الرعيَّة على الوجهِ المَطلوبِ، فقَدْ قادَ الأُمَّةَ إلى الكمالِ وأسمَى الغاياتِ؛ ولا يكون ذلك إلَّا مِنْ شعوره بهذه المَسؤوليَّةِ الثَّقيلةِ المُلقاةِ على عاتقِهِ؛ وبقدر ذلك تشعرُ الرَّعيَّةُ بالامتنانِ تُجاهَ صلاحِ الإمامِ الحاكمِ وتَفانِيهِ في خدمةِ الدِّينِ والأُمَّةِ، فَتُؤدِّي إليه حقوقَهُ الواجبةَ عليها التي هي مسؤولةٌ أمامَ الله عنها، مِنَ الطَّاعة كاملةً في غيرِ معصيةٍ، ومِنَ النُّصرةِ والولاءِ التَّامَّيْنِ ما لم يأمر بمعصيةٍ؛ فلا طاعةَ له فيها لِمَا تقدَّم مِنَ النُّصوصِ النَّبويَّةِ الآمرةِ بطاعة الحاكمِ بالمَعروفِ سواءٌ عَدَلَ أو جارَ، وأنَّ حقَّه لا يسقطُ لتضييعِهِ حقَّ الرَّعيَّةِ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ»؛ [مُتَّفَقٌ عليه: سبق تخريجه]؛ قال المَاورديُّ ـ رحمه الله ـ [في «الأحكام السلطانيَّة» (٤٢)] في فصلِ: «واجباتِ الأمَّة نحوَ الخليفة»: «وإذا قام الإمامُ بما ذكَرْناه مِنْ حقوقِ الأُمَّةِ فقَدْ أدَّى حقَّ اللهِ تعالى فيما لهم وعليهم، ووَجَب له عليهم حقَّان: الطَّاعةُ والنُّصرةُ».

والشُّعورُ بتحمُّلِ المَسؤوليَّةِ المُشترَكةِ بين الرَّاعي والرَّعيَّةِ هو ما يدفعُ إلى التَّعاونِ الجادِّ بينهما على إصلاحِ المُجتمَع وتطهيرِه مِنَ الفسادِ بحسَبِ الطَّاقة والوُسعِ، عملًا بقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ[المائدة: ٢]، وبقوله تعالى: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ[التوبة: ٧١]؛ إذ إنَّ صلاح المُجتمَع الإسلاميِّ يكمن في كونِهِ مبنيًّا على العقيدةِ الإسلاميَّةِ الصَّحيحةِ التي مِنْ شأنها تقويةُ الرِّباطِ الإيمانيِّ الأَخويِّ في المُجتمَع ـ مِنْ جهةٍ ـ لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ[الحُجُرات: ١٠]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ»؛ [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «المظالم والغصب» (٥/ ٩٧) باب: لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يُسْلِمُه، ومسلمٌ في «البِرِّ والصِّلَة والآداب» (١٦/ ١٣٤) بابُ تحريم الظلم، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما]، ومِنْ شأنِها اجتثاثُ العَصَبيَّةِ المَمقوتةِ، وإزالةُ آثارِها مِنَ التَّفاخُرِ بالأنسابِ والأحسابِ والتَّناصُرِ في الحقِّ والباطلِ ونحوِ ذلك مِنْ جهةٍ ثانيةٍ؛ فالعقيدةُ الإسلاميَّةُ السَّليمةُ ـ إذن ـ تُلغي هذه العصبيَّةَ المَذمومةَ وتجعلُ تقوى اللهِ هي ميزانَ الرُّقِيِّ وأساسَ التَّفاضُلِ بين النَّاسِ؛ وعليه فإنَّ العقيدةَ الإسلاميَّةَ هي الرَّكيزةُ الأساسيَّةُ لبناءِ النِّظامِ الاجتماعيِّ الإسلاميِّ القائمِ على مُراعاة الأخلاقِ والقِيَمِ، وتطهيرِ المُجتمعِ مِنَ القبائحِ والرَّذائلِ، والالتزامِ بالعدلِ والإحسانِ، والاهتمامِ بالأُسرةِ والعِنايةِ بها باعتبارها الخلِيَّةَ الأُولى للمجتمعِ مِنْ مراعاةِ أحوالِ الزَّوجين وحقوقِهما، وحقوقِ الآباءِ على أولادِهما، والمَسؤوليَّاتِ القائمةِ في هذا البابِ، وحقوقِ الصِّغار، ومسائلِ الطَّلاقِ والنَّفقات، وغيرِها مِنَ المَسائلِ الدَّاخلةِ فيما يُعرَف بالأحوالِ الشَّخصيَّةِ.

فالحاصلُ: أنَّ المُجتمعَ الصَّالحَ هو ما كان قائمًا على العقيدةِ السَّليمةِ وعلى معاني الإسلامِ وأخلاقِهِ، وسائرًا على منهجه القويمِ الذي تُنفَّذُ فيه أحكامُ اللهِ وشرعُهُ؛ وإقامةُ هذا المُجتمعِ مسؤوليَّةٌ وأمانةٌ مُشترَكةٌ بين الرَّاعي والرَّعيَّةِ يُسألون عنها يومَ المَعادِ.

(٣) الشُّعورُ بالتَّقصيرِ بعد عملٍ جادٍّ ودَؤوبٍ واجتهادٍ في الامتثال هو سِمَةُ الصَّالحين مِنْ هذه الأُمَّة ودأبُهم، وهو إحدى طُرُقِ إصلاح النَّفسِ بالمُراقبةِ والمُحاسبةِ وتأديبِها وتزكِيَتِها وتجنيبِها كُلَّ ما يُدسِّيها ويُدنِّسها لقوله تعالى: ﴿وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠[الشمس]، فيحاسِبُ نَفْسَه على الإخلالِ بالمَسؤوليَّاتِ والتَّفريطِ في استكمالِ المهمَّات، ويلومُها على التَّقصيرِ في إنكارِ المُنكَرات والتَّراخي عن فعلِ الخَيراتِ، فيُلزِمُها بالتَّقوى وينهاها عن السُّوء والهوى، وعن الرُّكونِ إلى الكسلِ والبطالةِ والإخلادِ إلى الرَّاحةِ، وذلك بإكراهها ومجاهدتها على العملِ الصَّالحِ والدَّوامِ عليه والاجتهادِ فيه؛ وفي كُلِّ الأحوالِ فلا بدَّ أَنْ يحصلَ النَّقصُ والخطأُ ـ مهما كان ـ لأنَّ البشرَ مجبولون عليهما، فالكمالُ لله وَحْدَه، والعصمةُ لمَنْ عَصَمه اللهُ تعالى.

لذلك كان حَرِيًّا بكُلٍّ مِنَ الرَّاعي والرَّعيَّةِ أَنْ يَشكُرَ ربَّه على نِعَمِه وتوفيقِه لإنجازِ عملِه في حدودِ طاقتِهِ ووُسْعِهِ، مع رجاءِ قَبولِ سعيِهِ وعملِهِ واجتهادِهِ، والخوفِ مِنْ نِقمَتِه وإبطالِ مجهودِهِ وسعيِهِ، ثمَّ عليه الإقبالُ على اللهِ الرَّقيبِ عليه بالاستغفارِ والذِّكرِ والدُّعاءِ مع حُسنِ الظَّنِّ به سبحانه؛ فإنَّ ذلك يُعَدُّ مِنَ الأدبِ مع اللهِ تعالى، فبقَدْرِ ما يتأدَّب المُسلمُ مع اللهِ تعالى تَعلو مكانتُهُ وترتفعُ منزلتُهُ وتسمو درجتُهُ وتعظمُ كرامتُه، ويكون محطَّ رحمتِه وغُفرانه ونَعْمائِهِ.

(٤) قوله: «مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا» أي: بالتقريب، لأنَّ المُدَّةَ ـ بالتَّحديد ـ أقلُّ مِنْ ذلك بالنَّظر إلى أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه بُويِعَ بالخلافة بعد وفاة النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم في ربيعٍ الأوَّل سَنَةَ: (١١ﻫ)، وتاريخُ هذا المَقال حين كتابته أو نشرِه: غُرَّةُ ذي القعدة ١٣٥٦ﻫ، وبينهما: ١٣٤٥ سَنَةً، وهي أقلُّ مِنْ أربعةَ عَشَرَ قرنًا.

(٥) قوله: «نِير المُلك ونير الكَهَنوت» هو ظلمُ المُلوك ورجال الدِّين وشِدَّتُهم.

ويُطلَقُ على رجال الدِّينِ: الكَهَنوتُ عند اليهود والنَّصارى ونحوِهم؛ لأنَّ الدِّينَ في الفكر الغربيِّ ـ بشتَّى مذاهبِهِ ودياناتِهِ ـ يعني: العبادةَ المَصحوبةَ بالرَّهبنَةِ أو الوحشيَّةِ؛ [انظر: «المُعجَم الوسيط» (٢/ ٨٠٣)، «مُعجَم المناهي اللفظية» لبكر أبو زيد (٢٨٠)].

والمَعلومُ أنَّ غالبَ الشُّعوبِ القديمةِ كانت خاضعةً تَرْسُفُ في أغلالِ سُلطتين: سلطةٍ دِينيَّةٍ في يد الكَهَنةِ ورجالِ الدِّينِ، وسلطةٍ دنيويَّةٍ بِيَد المُلوكِ، فإذا فَسَد العلماءُ والعُبَّادُ وانحرف الملوكُ اجتمع الشَّرُّ، كما قال ابنُ المبارك ـ رحمه الله ـ:

وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا المُلُوك *** وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا

(٦) إنَّ شريعةَ الإسلامِ التي تندرج تحتها الأصولُ العامَّةُ للولاية تختلف اختلافًا جوهريًّا عن القانون الرُّومانيِّ للإمبراطوريَّةِ الشَّرقيَّةِ الذي ادُّعِيَ ـ كذبًا ـ أنَّ الشَّريعةَ الإسلاميَّةَ تأثَّرَتْ به، وهذا ـ بلا شكٍّ ـ دعوَى باطلةٌ لا أساسَ لها مِنَ الصِّحَّة، يُكذِّبُها أنَّ التَّشريعَ والفقهَ الإسلاميَّ نَشَأ نشأةً استقلاليَّةً مُستمدًّا مِنْ مَصادِرَ نصِّيَّةٍ مِنَ الكتاب والسُّنَّة، وأخرى اجتهاديَّةٍ وَفْقَ قواعدَ أصوليَّةٍ دقيقةٍ تبيِّن المنهجَ الصَّحيح للاستنباط بمراعاةِ مقاصدِ التَّشريعِ.

والحقيقةُ أنَّ مِنَ العبث أَنْ نقارن الشَّريعةَ الإسلاميَّةَ ذاتَ المَصدرِ الإلهيِّ الرَّبَّانيِّ بالقوانينِ الوضعيَّةِ التي نشأَتْ مِنْ أعرافِ النَّاسِ وما انتهى إليه الإنسانُ بعقلِه القاصرِ مِنْ خلالِ تجاربه وممارستِهِ ومُعالجتِهِ لشؤونِ الحياةِ أو ما اجتمعَ عنده مِنَ الأوضاعِ المُتوارَثةِ التي تَواضَع أسلافُهُ واصطلحوا عليها مِنْ جهةِ نظرَتِهم القاصرةِ التي هي عُرضةٌ للخطإ، أو اقتبسوها مِنْ شرائع الأنبياء السابقة أو ضاهَوْها بها؛ ذلك لأنَّ شريعةَ الإسلامِ مصدرُها الوحيُ الإلهيُّ، فكُلُّ أحكامِها مُستمَدَّةٌ مِنَ الكتاب والسُّنَّة أو مُستلهَمةٌ مِنْ مقاصدِ التَّشريعِ وأسرارِهِ، فهي المَصدرُ الذي يتميَّزُ بالعِصمةِ ويتمتَّعُ بالقداسةِ في النُّفوسِ، ويتَّسِمُ بالصِّبغة الدِّينيَّةِ، ويتَّصفُ بالثَّباتِ والعمومِ والشُّمولِ، ويصلحُ لكُلِّ زمانٍ ومكانٍ دون حاجةٍ إلى استدراكٍ أو استكمالٍ، فلا يقبلُ التَّغييرَ والتَّبديلَ والتَّكميلَ، ويرمي إلى تهذيبِ سُلوكِ الإنسانِ مع خالِقِهِ ومع الأفرادِ والجماعةِ، إذ هو مصدرٌ مبنيٌّ على الدِّينِ والأخلاقِ، ونطاقُ جزائِهِ أوسعُ لأنَّهُ مقرونٌ بجزاءٍ دُنيويٍّ وأخرويٍّ؛ وهذه المَعالمُ تختلف اختلافًا أساسيًّا عن القانونِ الرُّومانيِّ بل عن كافَّةِ القوانين الوضعيَّة السَّابقةِ واللَّاحقةِ.

(٧) هذا دعاءُ المُصنِّفِ ـ رحمه الله ـ عند ختمِ أصولِ الولاية العامَّة في الإسلام مستخرَجةً مِنْ خُطبةِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، وفيه سؤالُ الله عزَّ وجلَّ أَنْ يتداركَ البشريَّةَ كُلَّها بالتَّوفيق للرُّجوع إلى هذه الأصولِ التي كان عليها الرَّعيلُ الأوَّلُ، والإقرارُ بأنَّه لا نجاةَ للبشريَّةِ مِنْ تعاسةِ العالَمِ ـ اليومَ ـ إلَّا بإقامتها والعمل بها.

وأصولُ الولاية هذه وإِنْ كانت لها أهمِّيَّتُها وخطورتُها إلَّا أنَّ العبارةَ ـ عندي ـ غيرُ سديدةٍ؛ لأمرين:

الأوَّل: أنَّه دعا اللهَ أن يتداركَ البشريَّةَ كُلَّها بالتَّوفيقِ وهذا غيرُ سليمٍ؛ إذِ المَعلومُ أنَّه لا يحصل التوفيق لجميع البشرية قَدَرًا، وأنَّ غير المُتَّقينَ مِنَ المُخالِفين إنَّما حَصَلوا على هدايةٍ ناقصةٍ غيرِ نافعةٍ، وهي هدايةُ بيانٍ لا توفيقٍ؛ لعدمِ توفيقِهِم للعملِ بمُقتضاها؛ ذلك «لأنَّ الهدايةَ نوعان: هدايةُ البيانِ وهدايةُ التَّوفيقِ؛ فالمُتَّقون حَصَلَتْ لهم الهدايتان، وغيرُهم لم تحصل لهم هدايةُ التَّوفيقِ، وهدايةُ البيانِ بدون توفيقٍ للعمل بها ليسَتْ هدايةً حقيقيَّةً تامَّةً»؛ [«تفسير السِّعديِّ» (٢٩)].

الثاني: ولأنَّ المَعلومَ ـ عقدًا ـ أنَّ مَدارَ السَّعادةِ والشَّقاءِ للبشريَّة في الدُّنيا والآخرةِ إنَّما هو على توحيد الألوهيَّة والعبادة الذي هو أصلُ الأصولِ كُلِّها وأساسُ الأعمال، فلا نجاةَ ولا فلاحَ ولا سعادةَ إلَّا بهذا التَّوحيد، وماذا يُغني تطبيقُ أصولِ الولاية ونظامِ الحُكم في الإسلام ـ في الصُّورةِ ـ إذا لم يكن التَّحكيمُ للهِ في ألوهيَّتِه وعبادتِه؟ «وهو الذي خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ لأَجْلِه، وشَرَعَ الجهادَ لإقامَتِه، وجَعَلَ الثَّوابَ الدُّنيويَّ والأُخْرَوِيَّ لمَنْ قامَ به وحقَّقه، والعقابَ لمَنْ تَرَكَه، وبه يحصل الفرقُ بين أهل السَّعادةِ القائمين به وأهلِ الشَّقاوة التَّاركين له»؛ [«الحق الواضح» للسعدي (١١١)]؛ وفي هذا السِّياق قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ [في «مَدارِج السَّالكين» (٣/ ٣٩٧)] عن حقِّ اللهِ الواجبِ على العبيدِ ما نصُّه: «وهو التَّوحيدُ الذي دَعَتْ إليه الرُّسُلُ، ونَزَلَتْ به الكُتُبُ، وعليه الثَّوابُ والعقابُ، والشَّرائعُ كُلُّها تفاصيلُه وحقوقُه، وهو توحيدُ الإلهيَّةِ والعبادةِ، وهو الذي لا سعادةَ للنُّفوسِ إلَّا بالقيام به علمًا وعملًا وحالًا، وهو أَنْ يكون اللهُ وَحْدَهُ أَحَبَّ إلى العبدِ مِنْ كُلِّ ما سِواهُ، وأَخْوَفَ عنده مِنْ كُلِّ ما سِواهُ، وأَرْجَى له مِنْ كُلِّ ما سِواهُ؛ فيَعبُدُه بمَعاني الحبِّ والخوفِ والرَّجاء بما يُحِبُّه هو ويَرْضاهُ، وهو ما شَرَعَهُ على لسانِ رسوله، لا بما يُريدُ العبدُ ويَهْواهُ؛ وتلخيصُ ذلك في كلمتين: «إيَّاك أُريدُ بما تُريدُ»؛ فالأُولى: توحيدٌ وإخلاصٌ، والثانية: اتِّباعٌ للسُّنَّةِ وتحكيمٌ للأمر»؛ [وانظر: «الحلل الذهبية» للمؤلِّف (٥٦٧)].

فهذا جهدُ المُقِلِّ في شرحِ متنِ «أصول الولاية في الإسلام مِنْ خُطبة الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه» للشَّيخ الإمام عبدِ الحميد بنِ باديس ـ رحمه الله ـ؛ وقد فرغتُ مِنْ تحريرِ مسوَّدتِه ـ بعون الله ومِنَّتِه وتوفيقِه ـ بتاريخ: ١٧ مِنْ شهر رمضانَ المُعظَّمِ مِنْ سَنَةِ ١٤٤٢ﻫ الموافق ﻟ ٢٩ أفريل ٢٠٢١م؛ فما أَصَبْتُ فيه مِنْ شرحي هذا فذلك فضلٌ مِنَ الله وحدَه، وما زللتُ فيه ـ نتيجةَ اجتهادٍ فاتَتْني فيه الإصابةُ أو لفهمٍ قاصرٍ ـ فمِنْ نفسي ومِنَ الشَّيطان، واللهُ ورسولُه منه بريئان؛ وأستغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليه، فهو أهلُ التَّقوى وأهلُ المَغفرةِ.

والحمدُ لله ربِّ العالَمِين أوَّلًا وآخِرًا، وصلَّى اللهُ على محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.