Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



الكلمة الشهرية رقم: ٢٥

أوليات الداعية إلى الله

السؤال:

ما رأيُكم فيمَنْ لا يفرِّق بين الجزائر وإنجلترا أو أيِّ بلدٍ أوربيٍّ كافرٍ، ولَمَّا يُسأل: هل يجوز السفرُ إلى بلاد الكفر؟ فيجيب: أين أنت الآنَ؟

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فلقد رَاجَ ـ في الآونةِ الأخيرة ـ على أَلْسِنَةِ مَنْ وَصَفَهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم ﺑ: «حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ»(١) نفيُ التفريق بين الجزائر وسائِرِ بلدان الكفر، حتَّى إذا سُئِلَ أحَدُهم عن السفر إلى بلاد الكفر فيجيب ـ مِنْ غيرِ تُؤَدةٍ ولا تَرَوٍّ ـ: «أين أنتَ الآنَ؟» أو «بصَّرك اللهُ، وهل يُوجَدُ فَرْقٌ بين بلدان الكفر؟ الكفرُ مِلَّةٌ واحدةٌ»، ونحو ذلك مِنْ أساليب التعبير التي تتصدَّع لها القلوبُ المؤمنة، وتَفْزَعُ منها النفوسُ المطمئِنَّة، وهكذا ـ على حينِ غفلةٍ مِنْ أهلها ـ تتسرَّب بضائعُ الشُّبُهات والأفكارِ مِنَ الأغمار(٢)، ويُنَفِّقون سِلْعَتَهم ولو بالحَلِفِ الكاذب، واللهُ المستعان.

إنَّ أَوَّلَ اهتمامات الداعية إلى الله تعالى وأَعْظَمَها حَمْلُ الناسِ على إفراد الله تعالى بالعبادة وتركِ الشرك، وإقامةِ السُّنَّة ونَبْذِ البدعة، وهو المنهج الشرعيُّ في جميعِ رسالات المُرْسَلين، قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ[النحل: ٣٦]؛ فهذا السبيلُ الحقُّ الذي ينبغي أَنْ يَبْذُل فيه الداعيةُ جُهْدَهُ، ويَستفرِغَ طَاقَتَهُ ووَقْتَه لهدايةِ الناس إلى الصراط المستقيم، على منهج أهل السُّنَّة الذين يعرفون الحقَّ ويرحمون الخَلْقَ، لا سبيلُ التشويش بالشُّبُهات والتضليل، وحَمْلِ الناس على التكفير ثمَّ التفجير والتدمير.

إنَّ التسويةَ بين الجزائر وبين غيرها مِنْ بلدان الكفر: كإنجلترا وفرنسا وألمانيا هي تسويةٌ مع ظهورِ فارقٍ شاسعٍ بين بلادٍ تَدِينُ بالإسلامِ وأخرى لا تدين إلَّا بالشرك، وقراءةُ مَضامِينِ هذه العباراتِ تشدُّ بالَ العاقلِ وتَصْرِفُ نَظَرَه إلى أهل «التكفير بالعموم» أو «التكفير الجماعيِّ»، الذين يُجانِبون في مُعتقَدِهم أصولَ أهلِ السُّنَّة والجماعة: فيكفِّرون أهلَ القِبْلة بمُطْلَقِ المعاصي والكبائر، ويرَوْن أنَّ الأعمالَ داخلةٌ في مُسمَّى الإيمان، وأَنَّها شرطٌ في بقائه؛ فمَنْ فَعَلَ معصيةً مِنَ الكبائر خَرَجَ عن الإيمان؛ ذلك لأنَّ الإيمانَ عندهم كالجُمْلة الواحدة لا يتبعَّضُ؛ فإِنْ ذَهَبَ بعضُه ذَهَبَ كُلُّه؛ فيزول ـ بالتالي ـ الإيمانُ جملةً بالمعاصي؛ فيخرج العاصي مِنْ دائرته إلى الكفر؛ فهذا هو أصلُ مُعتقَدِ الخوارج.

أمَّا أهلُ السُّنَّة والجماعة فلا يُكفِّرون بمُطلَق المعاصي وإِنْ كانوا يرَوْن أنَّ العمل شرطٌ في صحَّة الإيمان بل حقيقة فيه، ويُسَمُّون أهلَ القِبْلة مسلمين مؤمنين وإِنْ كانوا عُصاةً ما داموا بما جاء به النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم مؤمنين، وله بكُلِّ ما قال وأَخبرَ مُصدِّقين؛ ذلك لأنَّ الإيمانَ عند أهل السُّنَّة يتبعَّضُ؛ فإذا ذَهَبَ بعضُهُ لم يذهب كُلُّه؛ فيبقى مع العاصي مُطْلَقُ الإيمانِ لا الإيمانُ المطلَقُ؛ ويشهد لذلك حديثُ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه: «مَنْ شَهِدَ أَنْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى صَلَاتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا؛ فَهُوَ المُسْلِمُ: لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَى المُسْلِمِ»(٣)، وفي روايةٍ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا؛ فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ؛ فَلَا تُخْفِرُوا اللهَ فِي ذِمَّتِهِ»(٤)، أي: لا تغدروا اللهَ في ذِمَّته، ولا تخونوه في عهده، ولا تتعرَّضوا لحَقِّه مِنْ مالِه ودَمِه وعِرْضه(٥).

وفي الحديث دليلٌ على تحريم «التكفير الجماعيِّ» أو «بالعموم»، وإنَّما أمورُ الناسِ محمولةٌ على الظاهر؛ فمَنْ أَظْهَرَ شعارَ الإسلامِ أُجْرِيَتْ عليه أحكامُ أهله ما لم يظهر منه خلافُ ذلك: كأَنْ يُكذِّب بشيءٍ ممَّا جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم صحيحًا ثابتًا، أو يَستحِلَّ ما حَرَّمَهُ اللهُ تعالى، ونحو ذلك؛ إذ إنَّ «مَنْ ثَبَتَ إِسْلَامُهُ بِيَقِينٍ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ، بَلْ لَا يَزُولُ إِلَّا بَعْدَ إِقَامَةِ الحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ»(٦)؛ لذلك كان مِنْ أصول أهلِ السُّنَّةِ: عدَمُ جواز الشهادة بالكفر والنِّفاق على أَحَدٍ مِنْ أهل القِبْلة ما لم يظهر منه ذلك، وردُّ سرائرهم إلى الله تعالى؛ ذلك لأنَّا أُمِرْنا بالحكم بالظاهر، ونُهِينَا عن الظنِّ واتِّباعِ ما ليس لنا به علمٌ، قال تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ[الحُجُرات: ١٢]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡ‍ُٔولٗا ٣٦[الإسراء].

فمِنْ عيوبِ أهلِ البِدَع تكفيرُ بعضِهم بعضًا، ومِنْ مَحاسِنِ أهلِ السُّنَّة أنَّهم يُخطِّئون ولا يُكفِّرون أَحَدًا مِنْ أهلِ القِبلة بكُلِّ ذَنْبٍ، بل الأُخوَّةُ الإيمانيَّةُ ثابتةٌ مع المعاصي.

وإذا أَظْهَرَ البلدُ شِعارَ الدِّين: مِنَ النُّطقِ بالشهادتين، ورفعِ الأذان فيه، وإقامةِ صلاة الجماعة والجُمُعة والأعياد، ومَكَّن أهلَهُ مِنْ أدائها وأداءِ سائِرِ الشعائر الأخرى: مِنَ الهدي الظاهريِّ، وإيتاءِ الزكاة، وتنظيمِ مَناسِكِ الحجِّ، ورَفْعِ شِعارِ الأضاحي وغيرِها، أصالةً وبأمانٍ على وجه الشمول والعموم مِنْ غيرِ صدودٍ عنها، لا مُعاهَدةً أو اتِّفاقًا وتَبَعًا؛ فإنَّ ذلك البلدَ معدودٌ مِنْ ديار الإسلام عند أهل السُّنَّة، لا دارَ كُفْرٍ كما رَأَتْه المعتزلةُ؛ ففي حديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا؛ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ»(٧).

ومنه يظهر عَوَارُ مَنْ لم يُفرِّقْ بين البَلَدَيْن، وينهدم بنيانُ مَنْ أجاز الهِجرةَ إلى بلدان الكفر والضلال بدعوى عدَمِ وجودِ دارِ إسلامٍ، وإرادةَ الْتماسِ دليلٍ شرعيٍّ لهم مِنَ الهجرة الأولى إلى الحبشة يُوافِق هواهُمُ استِنادًا إلى خُلُوِّ المرحلة المكِّيَّة مِنْ دار الإسلام.

وعجبي لا ينقطع من فئةٍ من المنظِّرين أرادوا حَصْرَ تطبيق المرحلة المكِّيَّة التي كان فيها المسلمون مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم مُستضعَفِين في أوَّلِ الإسلام في الهجرة إلى الحبشة تمسُّكًا بانتفاءِ دارِ الإسلام ذلك الوقت، تركوا العملَ بحُكْمِ المرحلة المكِّيَّة في عصمةِ دمِ الكافر العصمةَ الأصليَّة؛ إذ دَمُ الآدميِّ معصومٌ فلا يُقْتَل إلَّا بحقٍّ، وقد كان المسلمون ممنوعين قبل الهجرةِ مِنِ ابتداء القتال، وكان ابتداءُ قتلِ الكُفَّار المُتَّفَقِ على تكفيرهم مُحرَّمًا، وهو مِنْ قَتْلِ النفس بغير حقٍّ؛ فمِنْ بابٍ أَوْلَى العملُ بهذه المرحلةِ في حقِّ المؤمن العاصي أو المُشتبَهِ فيه غيرِ المُتَّفَقِ على كُفْرِه! فَلِمَ تركوا العملَ بآيات الصبر والصفح عمَّنْ يُؤذي اللهَ ورسولَه في حالة الضَّعف، وبآيات القتال في حالة القُوَّة جمعًا بين الأدلَّة، وهو أَوْلَى مِنَ النَّسخ المحتمَل والترجيح، لانتفاء التعارض بين أحكام المرحلتين؟!

وأصلُ التكفير الجماعي نابعٌ مِنِ اعتقاد الخوارج الذين جَعَلُوا «الحاكميَّةَ» شرطًا في الإيمان ومعنًى للتوحيد، أي: أنَّ معنَى: «لا إله إلَّا الله» ـ في زعمِهم ـ: «لا حاكميَّةَ إلَّا لله»، وقد انتشرَتْ هذه الدعوةُ التي ابتدعَ مفهومَها ومُسمَّاها المفكِّرُ الحركيُّ: سيِّد قطب، وهي مؤلَّفةٌ بين عقيدة الإماميَّة(٨) والبَيْهَسِيَّةِ(٩)؛ وتفسيرُ «لا إلهَ إلَّا الله» ﺑ «الحاكميَّة لله» مُخالِفٌ لتفسير السلف لها ـ بلا ريبٍ ـ ومعناها عند السلف: «لا معبودَ بحقٍّ إلَّا اللهُ»، لقوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلۡبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ ٦٢[الحج]، وقولِه تعالى: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗاۖ[النساء: ٣٦]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦[الذاريات]، وتفسيرُ السلفِ الصالحِ لها هو التفسيرُ الوحيد الذي لا يصحُّ تفسيرٌ غيرُه، وهو إخلاصُ العبادةِ لله وَحْدَهُ لا شريكَ له، ويدخل فيها تحكيمُ الشريعة، قال تعالى: ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ[البيِّنة: ٥].

ولا يخفى أنَّ التوحيدَ رأسُ التشريع، وهو مِنْ أَوَّليَّات الدعوةِ إلى الله تعالى، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣[الشورى]، وهو حكمٌ أَوَّلِيٌّ بما أَنْزَلَ اللهُ؛ إذ إنَّ أَوَّلَ ما أوصى به الرُّسُلَ والأنبياءَ نَزْعُ عوالقِ الشرك مِنْ صدور المتشبِّثين به، وتطهيرُ أرض الله ومَساجِدِه مِنْ أدران الأوثان والأضرحة، وإبعادُ فتنة القبور والمَشاهِدِ عنها؛ فسبيلُ الدعوةِ إلى الله يبدأ مِنَ التوحيد أَوَّلًا وقبل كُلِّ شيءٍ، ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨[يوسف]، والمرادُ بالآية: الدعوةُ إلى توحيد الله وإخلاصِ العبادة له لا شريكَ له، وفي حديث مُعاذٍ رضي الله عنه قال له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم لمَّا بَعَثَه إلى اليمن: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ؛ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ...»، الحديث(١٠).

هذا؛ وينبني على تفسير كلمة التوحيد بالحاكمية: تكفيرُ الداعي للحاكم الذي يُخالِفُ الحُكْمَ بما أَنْزَلَ اللهُ مُطْلَقًا، وتكفيرُ رعيَّته على حدٍّ سواءٍ ولو كانوا مُنْكِرين على الحاكم بقلوبهم وألسنتهم؛ وفسادُ هذا الاعتقادِ ظاهرٌ؛ لأنَّ تفسيرَ كلمةِ التوحيد بالحاكميَّة قاصرٌ على جزءٍ مِنْ توحيد الربوبيَّة، كما يَلْزَم مِنِ هذا تفسير إخراجُ توحيدِ الإلهيَّة وكثيرٍ مِنَ الأصول والأركان كالصلاة وغيرِها مِنَ الحكم بما أَنْزَلَ اللهُ تعالى ومِنْ عُرَى الدِّينِ الذي شَرَعَ المولى عزَّ وجلَّ؛ فمثلُ هذا الاشتراطِ ناقصٌ ومُخالِفٌ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا: الحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ: الصَّلَاةُ»(١١).

وباختصارٍ، فإنَّ ترويج بضائعِ الشُّبُهات والأوهامِ مِنْ أَصاغِرِ القوم حُدَثَاءِ الأسنانِ الذين همُّهم التزعُّمُ على الرَّعاعِ والتصدُّرُ على الأتباع يؤدِّي ـ بطريقٍ أو بآخَرَ ـ إلى مَسالِكِ التهلكة والرَّدَى وطريقِ الغواية والهوى، وصَدَقَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم حيث قال: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُلْتَمَسَ العِلْمُ عِنْدَ الأَصَاغِرِ»(١٢)، وعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَتَاهُمُ العِلْمُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم وَمِنْ أَكَابِرِهِمْ؛ فَإِذَا أَتَاهُمُ العِلْمُ مِنْ قِبَلِ أَصَاغِرِهِمْ فَذَاكَ حِينَ هَلَكُوا»(١٣).

فبمقدارِ ما يكون الداعيةُ إلى الله ـ في أداء رسالته وقيامه بواجبه ـ قريبًا مِنْ منهج الأنبياء في دعوتهم وإصلاحهم بمقدارِ ما تُؤْتي دعوتُه أُكُلَها بإذن ربِّها، وتنتهج التربيةُ الوجهةَ الصحيحة، ويتجسَّدُ في أرض الواقعِ نورُ الإسلام المصفَّى، وبمقدارِ ما يبتعد عن مشكاة النُّبُوَّةِ يَحلُّ الظلامُ، وتنتشرُ البدعةُ، ويكثرُ رُوَّادُ الضلالة.

ولله دَرُّ مَنْ قال: «إنها ستكون أمورٌ مُشْتبِهَاتٌ؛ فعليكم بالتُّؤَدة؛ فإنَّكَ أَنْ تكون تابعًا في الخيرِ خيرٌ مِنْ أَنْ تكون رأسًا في الشرِّ»(١٤).

واللهَ تعالى نسألُ أَنْ يَعْصِمَنَا مِنَ الزَّلَلِ والضلالة، وأَنْ يوفِّقَ الأُمَّةَ ـ حاكمًا ومحكومًا ـ لاتِّباعِ الحقِّ ونُصرَتِه وموالاةِ أهله، ويَهْدِيَ المُخاصِمين للحقِّ المُعانِدين لأهله إلى صراطه المستقيم، ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ١٣٥[النساء].

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٨ مِنَ المحرَّم ١٤٢٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٦ جانفي ٢٠٠٨م

 



(١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «المناقب» بابُ علاماتِ النبوَّة في الإسلام (٣٦١١)، ومسلمٌ في «الزكاة» (١٠٦٦)، مِنْ حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه.

(٢) الأغمار: جَمْع غُمْرٍ، بالضمِّ، وهو الجاهل الغِرُّ الذي لم يجرِّبِ الأمورَ. [انظر: «لسان العرب» لابن منظور (٥/ ٣٢)].

(٣) أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» بابُ فضلِ استقبال القِبْلة (٣٩٣) مِنْ حديثِ أنس ابنِ مالكٍ رضي الله عنه.

(٤) أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» بابُ فضلِ استقبال القِبْلة (٣٩١) مِنْ حديثِ أنس ابنِ مالكٍ رضي الله عنه.

(٥) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١/ ٤٩٦)، «مرقاة المفاتيح» للقاري (١/ ١٥٩).

(٦) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٢/ ٤٦٦).

(٧) أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» بابُ فضلِ استقبال القِبْلة (٣٩٢) مِنْ حديثِ أنس ابنِ مالكٍ رضي الله عنه.

(٨) الإمامية: فِرْقةٌ مِنْ فِرَق الروافض مِنَ الشيعة، يعتقدون بأنَّ عليًّا رضي الله عنه هو الإمام، وأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم نصَّ على إمامته نصًّا صريحًا ونصَّ كُلُّ إمامٍ على مَنْ بعده: الحسن والحسين رضي الله عنهما وتسعة أئمَّةٍ مِنْ وَلَدِ الحسين؛ لذلك سُمُّوا بالاثني عشرية، وقد ساقوا في ذلك أحاديثَ موضوعةً وأدلَّةً ضعيفةً، وانْقَسَمُوا على مَرِّ الزمان إلى طوائفَ، لهم عقائدُ فاسدةٌ وشركياتٌ ظاهرةٌ، وبغضٌ شديدٌ للصحابة رضي الله عنهم، وغُلُوٌّ في أئمَّتهم ورَفْعُهم لهم فوق مَقامِ الأنبياء، واستحلال الكذب بدعوى التقيَّة ومَثالِبُ أخرى. [انظر: «الفَرْق بين الفِرَق» للبغدادي (٣٨)، «المِلَل والنِّحَل» للشهرستاني (١/ ٢١٨)، «منهاج السُّنَّة النبوية» لابن تيمية (١/ ٤)].

(٩) البَيْهَسِيَّةُ: فِرْقةٌ مِنْ كِبار فِرَق الخوارج، تُنْسَبُ إلى أبي بَيْهَسٍ هَيْصَمِ بنِ عامرٍ (أو ابنِ جابرٍ)، لهم مُعْتَقَداتٌ فاسدةٌ منها: القول بقتلِ أهل القِبْلة وأَخْذِ أموالهم، وتَرْك الصلاة إلَّا خَلْفَ مَنْ تعرف، والشهادة على الدار بالكفر، وأنَّ صاحِبَ الكبيرةِ إِنْ كان فيها حَدٌّ فإنه لا يكفر حتَّى يُرْفَع إلى الإمام؛ فإذا أقام عليه الحدَّ فحينئذٍ يكفر؛ والبيهسيةُ فِرَقٌ متعدِّدةٌ، والعوفيةُ منهم يرَوْنَ أنه إذا كَفَرَ الإمامُ فقَدْ كَفَرَتِ الرعيَّةُ: الغائبُ منهم والشاهد. [انظر: «مقالات الإسلاميِّين» للأشعري (١٨١)، «الفَرْق بين الفِرَق» للبغدادي (٨٧)، «المِلَل والنِّحَل» للشهرستاني (١/ ١٦٩)].

(١٠) أخرجه البخاريُّ في «الزكاة» بابُ أَخْذِ الصدقة مِنَ الأغنياء وتُرَدُّ في الفقراء حيث كانوا (١٤٩٦) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(١١) أخرجه أحمد في «مسنده» (٢٢١٦٠) مِنْ حديثِ أبي أمامة الباهليِّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٥٠٧٥).

(١٢) أخرجه الطبرانيُّ في «الكبير» (٢٢/ ٣٦١) وفي «الأوسط» (٨/ ١١٦) مِنْ حديثِ أبي أُمَيَّةَ الجُمَحِيِّ رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٢/ ٣٠٩) رقم: (٦٩٥).

(١٣) أخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (١١/ ٢٤٦)، والطبرانيُّ في «الكبير» (٩/ ١١٤) وفي «الأوسط» (٧/ ٣١١)، وابنُ المبارَك في «الزهد» (١/ ٢٨١)، بألفاظٍ مُتقارِبةٍ، مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه موقوفًا. قال الهيثميُّ في «مَجْمَع الزوائد» (١/ ٣٤٩): «رجالُه موثوقون»، وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٢/ ٣١٠).

(١٤) أخرجه البيهقيُّ في «شُعَب الإيمان» (٧/ ٢٩٧) عن عبد الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه.