«التصفيف الثامن والثلاثون: الإيمان بالقَدَر (٢)» | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الثلاثاء 7 شوال 1445 هـ الموافق لـ 16 أبريل 2024 م

العقائد الإسلامية
مِنَ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

للشيخ عبد الحميد بنِ باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)

بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ

«التصفيف الثامن والثلاثون: الإيمان بالقَدَر (٢

السابع والخمسون: [فصل: القَدَر مكتوبٌ في اللوح المحفوظ]

وَكَمَا سَبَقَ قَدَرُ اللهِ لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهَا(١)، كَذَلِكَ كَتَبَهَا فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ قَبْلَ خَلْقِهَا(٢)؛ لِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى ـ: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ(٣) إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٢٢ لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ ٢٣[الحديد](٤)، وَلِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ(٥) رضي الله عنهما قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ(٦) قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ»» رَوَاهُ مُسْلِمٌ(٧).

 



(١) ما عليه أهلُ السنَّةِ والجماعةِ أنَّ الإيمان بالقَدَرِ لا يَتِمُّ إلَّا بتحقيقِ مَراتِبِه الأربعِ [انظر: «شفاء العليل» لابن القيِّم (١/ ١٣٣)، و«مَعارِج القَبول» للحَكَمي (٣/ ٩٢٠)]، وهي:

المرتبة الأولى: مرتبةُ العلمِ السابق، وهي الإيمانُ بأنَّ اللهَ قد عَلِم الأشياءَ كُلَّها قبل كونها، وعَلِمَ ما لم يكن لو كان كيفَ كان يكون جملةً وتفصيلًا. قال الحَكَميُّ ـ رحمه الله ـ في [«مَعارِج القَبول» (٣/ ٩٢٠)] عن هذه المرتبةِ: «الإيمانُ بعلمِ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ المُحيطِ بكُلِّ شيءٍ مِن الموجودات والمعدومات والمُمْكِنات والمستحيلات: فعَلِمَ ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأنه عَلِمَ ما الخَلْقُ عاملون قبل أَنْ يخلقهم، وعَلِمَ أرزاقَهم وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم في جميعِ حَرَكَاتِهم وسَكَنَاتِهم وشقاوتَهم وسعادتَهم، ومَنْ هو منهم مِنْ أهلِ الجنَّةِ ومَنْ هو منهم مِنْ أهلِ النار قبل أَنْ يخلقهم، ومِنْ قبلِ أَنْ يخلق الجنَّةَ والنار، عَلِمَ دِقَّ ذلك وجليلَه، وكثيرَه وقليلَه، وظاهِرَه وباطِنَه، وسِرَّه وعلانِيَتَه، ومَبْدأَهُ ومُنْتَهاهُ؛ كُلُّ ذلك بعلمه الذي هو صِفَتُه ومقتضى اسْمِه العليمِ الخبير، عالِمِ الغيبِ والشهادةِ علَّامِ الغيوب».

وعِلْمُ اللهِ صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ بالنقل والعقل، وعِلْمُ اللهِ ـ تعالى ـ أزَليٌّ بأزَليةِ ذاته، يعلم في الأزَلِ ما سيكونُ مِن دقيقِ الأمورِ وجليلِ الأشياءِ بمعلوماتٍ غيرِ مُتناهِيةٍ.

ويدلُّ على ذلك مِن الكتاب: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ[الحشر: ٢٢]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ[سبأ: ٣]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعۡرُجُ فِيهَا[سبأ: ٢؛ الحديد: ٤]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ ٣[الحديد]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ ٥٩[الأنعام]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿لِتَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عِلۡمَۢا ١٢[الطلاق]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿أَوَ لَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٠[العنكبوت].

أمَّا مِن السنَّةِ فمِنْ ذلك:

حديثُ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ أَوْلَادِ المُشْرِكِينَ فَقَالَ: «اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»» [أخرجه البخاريُّ في «القَدَر» (١١/ ٤٩٣) باب: اللهُ أَعْلَمُ بما كانوا عامِلين، ومسلمٌ في «القَدَر» (١٦/ ٢١١) بابُ مَعْنَى: كُلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرة].

وحديثُ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قال: «قَالَ رَجُلٌ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُعْرَفُ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟» قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: «فَلِمَ يَعْمَلُ العَامِلُونَ؟» قَالَ: «كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَوْ: لِمَا يُيَسَّرُ لَهُ»» [أخرجه البخاريُّ في «القَدَر» (١١/ ٤٩١) باب: جفَّ القَلَمُ على عِلْمِ الله، ومسلمٌ في «القَدَر» (١٦/ ١٩٨) بابُ كيفيةِ خَلْقِ الآدميِّ في بطنِ أمِّه].

وغيرُها مِنَ الآيات والأحاديثِ الكثيرةِ الدالَّةِ على أنَّ عِلْمَه ـ تعالى ـ مُحيطٌ بكُلِّ الأشياءِ وشاملٌ لجميعِ الكُلِّيَّات والجزئيَّات مُجْمَلِها ومُفصَّلِها، سواءٌ منها ما يَتعلَّقُ بأفعاله ـ سبحانه ـ أو أفعالِ عِبادِه، لا يُنْكِرُها إلَّا ضالٌّ أو مُعانِدٌ مُكابِرٌ كالفلاسفة والصابئة وغُلاةِ القَدَرية الذين يزعمون أنَّ الأمر أُنُفٌ، «أي: مُسْتَأْنَفٌ لم يَسْبِقْ به قَدَرٌ ولا عِلْمٌ مِن الله ـ تعالى ـ، وإنما يعلمه بعد وقوعه» [«شرح مسلم» للنووي (١/ ١٥٦)].

قال ابنُ أبي العِزِّ ـ رحمه الله ـ في [«شرح الطحاوية» (٣٠٥)]: «وقد ضَلَّ في هذا الموضعِ خلائقُ مِن المُشْرِكين والصابئين والفلاسفةِ وغيرِهم ممَّن يُنْكِرُ عِلْمَه بالجزئيات أو بغيرِ ذلك؛ فإنَّ ذلك كُلَّه ممَّا يدخل في التكذيبِ بالقَدَر».

ومذهبُ غُلاةِ القَدَرية انْدَثَرَ لِتَهافُتِه وعدَمِ مُوافَقتِه للفطرة السليمة، غيرَ أنه خَلَفَ مِنْ بَعْدِهم خَلْفٌ مِن القَدَرية المُعْتَزِلةِ ومَن سايَرَهم في عقيدتهم؛ فإنَّ هؤلاء ـ وإِنْ كانوا يُقِرُّون بتَقَدُّمِ عِلْمِ الله بالأشياءِ قبل وقوعها ـ إلَّا أنهم يُنْكِرون عمومَ المشيئةِ والخَلْق، ويرَوْن أنَّ العبد هو الخالقُ لفِعْلِه، المُوجِدُ له بمَشيئتِه الكاملةِ وقدرتِه التامَّة، وأنَّ مشيئته وقدرتَه مُسْتَقِلَّتان عن إرادةِ الله وقدرتِه غيرُ تابعتَيْن لهما ـ كما تَقَدَّمَ ـ.

قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ في [«الفتح» (١/ ١١٩)]: «وقد حَكَى المُصنِّفون في المَقالاتِ ـ عن طوائفَ مِن القَدَريةِ ـ إنكارَ كونِ البارئِ عالمًا بشيءٍ مِن أعمالِ العباد قبل وقوعِها منهم، وإنما يَعْلَمُها بعد كونها. قال القرطبيُّ وغيرُه: قد انقرض هذا المذهبُ ولا نعرفُ أَحَدًا يُنْسَبُ إليه مِن المتأخِّرين، قال: والقَدَريةُ ـ اليومَ ـ مُطْبِقون على أنَّ اللهَ عالمٌ بأفعالِ العباد قبل وقوعها، وإنما خالَفُوا السلفَ في زَعْمِهم بأنَّ أفعالَ العبادِ مقدورةٌ لهم وواقعةٌ منهم على جهةِ الاستقلال، وهو ـ مع كونه مذهبًا باطلًا ـ أَخَفُّ مِن المذهب الأوَّل».

(٢) ففي جملةِ سياقِ كلامِ المُصنِّفِ ـ رحمه الله ـ بيانٌ للمرتبةِ الثانيةِ مِن مَراتِبِ القَدَرِ وهي مرتبةُ الكتابة، والتي لها ارتباطٌ وثيقٌ بذِكْرِ اللوحِ المحفوظِ والقلمِ.

ومُعْتَقَدُ أهلِ السنَّةِ والجماعة ـ في مَرْتَبةِ الكتابةِ ـ هو الإيمانُ بأنَّ الله ـ تعالى ـ قد كَتَبَ مَقاديرَ الأشياءِ كُلَّها في اللوحِ المحفوظ؛ فما يحدث في الكونِ شيءٌ إلَّا قد عَلِمَهُ اللهُ ـ تعالى ـ وكَتَبَه قبل كونه وحدوثه.

قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«شفاء العليل» (١/ ١٦٧)]: «وأَجْمَعَ الصحابةُ والتابعون وجميعُ أهلِ السنَّةِ والحديثِ أنَّ كُلَّ كائنٍ إلى يومِ القيامة فهو مكتوبٌ في أمِّ الكتاب، وقد دَلَّ القرآنُ على أنَّ الربَّ ـ تَبارَكَ وتعالى ـ كَتَبَ في أمِّ الكتابِ ما يفعله وما يقوله، فكَتَبَ في اللوحِ أفعالَه وكلامَه».

ويدلُّ على أنَّ اللهَ كَتَبَ القرآنَ الكريمَ في اللوحِ المحفوظِ، كما كَتَبَ عِلْمَ الكائناتِ قبلَ وجودِها، وأعمالَ العبادِ قبل أَنْ يعملوها، وذلك قبل خَلْقِ السمواتِ والأرض: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿بَلۡ هُوَ قُرۡءَانٞ مَّجِيدٞ ٢١ فِي لَوۡحٖ مَّحۡفُوظِۢ ٢٢[البروج]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧٠[الحج]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ ٦١[يونس].

والكتابُ المُبينُ هو اللوحُ المحفوظُ وهو أمُّ الكتابِ وهو الذِّكْرُ وهو الزُّبُر؛ فهذه الأسماءُ مُترادِفةٌ تدلُّ على معنَى كتابةِ اللهِ ما سَبَقَ عِلْمُه به مِن مَقاديرِ الخَلْقِ قبل وجودها:

فقَدْ جاءَ لفظُ الزُّبُرِ بمَعْنَى الكتابِ في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَكُلُّ شَيۡءٖ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ ٥٢ وَكُلُّ صَغِيرٖ وَكَبِيرٖ مُّسۡتَطَرٌ ٥٣[القمر]. قال السعديُّ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (٩٧٦)]: «﴿وَكُلُّ شَيۡءٖ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ ٥٢﴾ أي: كُلُّ ما فَعَلوه مِن خيرٍ وشرٍّ مكتوبٌ عليهم في الكُتُبِ القَدَرية. ﴿وَكُلُّ صَغِيرٖ وَكَبِيرٖ مُّسۡتَطَرٌ ٥٣﴾ أي: مُسَطَّرٌ مكتوبٌ. وهذا حقيقةُ القضاءِ والقَدَر، وأنَّ جميعَ الأشياءِ كُلِّها قد عَلِمَها اللهُ ـ تعالى ـ، وسطَّرها عنده في اللوحِ المحفوظ؛ فما شاءَ اللهُ كان، وما لم يَشَأْ لم يكن».

ويُطْلَقُ لفظُ الذِّكْرِ على الكتابة كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ ١٠٥[الأنبياء]. قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«شفاء العليل» (١/ ١٦١)]: «فالزَّبورُ ـ هنا ـ: جميعُ الكُتُبِ المُنْزَلةِ مِن السماء، لا تختصُّ بزَبورِ داود عليه السلام، والذِّكْرُ: أمُّ الكتابِ الذي عند الله، والأرضُ: الدنيا، وعِبادُه الصالحون: أُمَّةُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم. هذا أَصَحُّ الأقوالِ في هذه الآيةِ ... والكتابُ الأوَّلُ قد أُطْلِقَ عليه الذِّكْرُ في قولِ النبيِّ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم في الحديث المُتَّفَقِ على صحَّته: «كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ» [أخرجه البخاريُّ في «التوحيد» (١٣/ ٤٠٣) باب: ﴿وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَآءِ[هود: ٧]، ﴿وَهُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ ١٢٩[التوبة]، مِن حديثِ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه]. فهذا هو الذِّكْرُ الذي كُتِبَ فيه أنَّ الدنيا تَصيرُ لأمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ تعالى عليه وسلَّم».

وقد يأتي الكتابُ السابقُ لأعمالهم قبل وجودهم بلفظِ: «إمامٍ مبينٍ» كما جاء في قوله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ ١٢[يس].

قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«شفاء العليل» (١/ ١٦٢)]: «فجَمَعَ بين الكتابَيْن: الكتابِ السابقِ لأعمالهم قبل وجودِهم والكتابِ المُقارِنِ لأعمالهم»، ثمَّ قال: «والمقصودُ أنَّ قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ ١٢[يس] ـ وهو اللوحُ المحفوظُ، وهو أمُّ الكتاب، وهو الذِّكْرُ الذي كَتَبَ فيه كُلَّ شيءٍ ـ يَتضمَّنُ كتابةَ أعمالِ العِبادِ قبل أَنْ يعملوها، والإحصاءُ في الكتابِ يَتضمَّنُ عِلْمَه بها، وحِفْظَه لها، والإحاطةَ بعدَدِها، وإثباتَها فيه».

كما يُطْلَقُ لفظُ «أمِّ الكتاب» على الكتابة في قوله ـ تعالى ـ: ﴿حمٓ ١ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ ٢ إِنَّا جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَٰنًا عَرَبِيّٗا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ٣ وَإِنَّهُۥ فِيٓ أُمِّ ٱلۡكِتَٰبِ لَدَيۡنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ٤[الزخرف]، وفي قوله ـ تعالى ـ: ﴿يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ ٣٩[الرعد].

إلى غيرِ ذلك مِنَ الآيات القرآنية التي يقرن اللهُ فيها بين إثباتِ العلم والكتاب، أو يذكر كُلًّا على حِدَةٍ، وكتابُه ـ تعالى ـ مِن عِلْمِه.

ومِنْ خلالِ هذه الآياتِ تظهر ـ بوضوحٍ ـ علاقةُ مَرْتَبَةِ الكتابة بذِكْرِ اللوحِ المحفوظِ مِن جهةٍ، كما تَرْتبِطُ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ بذِكْرِ القلم، وهو الذي خَلَقَه اللهُ وكَتَبَ به ـ في اللوحِ المحفوظ ـ مَقاديرَ الأشياءِ كُلَّها.

ويدلُّ على ذلك: ما رواهُ أبو داود في «سُنَنه» (٥/ ٧٦) أنَّ عُبادةَ بنَ الصامتِ رضي الله عنه قال لِابْنِهِ: «يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: «اكْتُبْ»، قَالَ: «رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟» قَالَ: «اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»». يَا بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي»» [والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (٣/ ١٤٨) وفي «تخريجِ أحاديثِ الطحاوية» (٢٩٤) و«ظِلال الجنَّة» (١/ ٤٨، ٥٠)].

وروى ابنُ أبي عاصمٍ في «السنَّة» (١/ ٤٩) عن عبد الله بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ ـ تَعَالَى ـ: القَلَمُ، فَأَخَذَهُ بِيَمِينِهِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ»، قَالَ: «فَكَتَبَ الدُّنْيَا وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ عَمَلٍ مَعْمُولٍ بِرٍّ أَوْ فُجُورٍ، رَطْبٍ أَوْ يَابِسٍ؛ فَأَحْصَاهُ عِنْدَهُ فِي الذِّكْرِ»، فَقَالَ: «اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿هَٰذَا كِتَٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيۡكُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّا كُنَّا نَسۡتَنسِخُ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٢٩[الجاثية]؛ فَهَلْ تَكُونُ النُّسْخَةُ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟»» [والحديثُ حسَّنه الألبانيُّ في «الظلال» (١/ ٥٠)].

وقد ساقَ ابنُ أبي عاصمٍ في «السنَّة» (١/ ٤٨ ـ ٥٢) جملةً مِنَ الأحاديث الصحيحةِ في بابِ «ذِكْرِ القَلَمِ أنَّه أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ ـ تعالى ـ وما جَرَى به القلمُ».

وهذه الأحاديثُ الصحيحةُ تدلُّ على القلمِ الذي كَتَبَ اللهُ به مَقاديرَ الخلائقِ كُلَّها في اللوحِ المحفوظ، غيرَ أنه قد ثَبَتَتْ أحاديثُ أُخَرُ تدلُّ على أنَّ للمَقاديرِ أقلامًا غيرَ القَلَمِ الأوَّل الذي هو أَفْضَلُ الأقلامِ وأَجَلُّها، فمِنْ هذه الأحاديثِ:

حديثُ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما قال: «جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الآنَ، فِيمَا العَمَلُ اليَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟» قَالَ: «لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ»» [أخرجه مسلمٌ في «القَدَر» (١٦/ ١٩٧) بابُ كيفيةِ خَلْقِ الآدميِّ في بطنِ أمِّه].

وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: «يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ»» [أخرجه الترمذيُّ في «صفة القيامة» (٤/ ٦٦٧) باب (٥٩). قال الترمذيُّ: «حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ». والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «ظلال الجنَّة» (١/ ١٣٨) و«شرح الطحاوية» (٢٩٧) و«صحيح الترمذي» (٢/ ٦١٠)].

والأقلام التي دلَّتْ عليها السنَّةُ الثابتةُ أربعةٌ ذَكَرَها ابنُ أبي العِزِّ ـ رحمه الله ـ في [«شرح الطحاوية» (٢٩٧)] وهي:

«القلم الأوَّل: العامُّ الشاملُ لجميعِ المخلوقات، وهو الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُه مع اللوح.

القلم الثاني: خَبَرُ خَلْقِ آدَمَ عليه السلام، وهو قَلَمٌ عامٌّ ـ أيضًا ـ لكِنْ لبني آدَمَ. وَرَدَ في هذا آياتٌ تدلُّ على أنَّ اللهَ قَدَّرَ أعمالَ بني آدَمَ وأرزاقَهم وآجالَهم وسعادتَهم، عقيبَ خَلْقِ أبيهم.

القلم الثالث: حين يُرْسَلُ المَلَكُ إلى الجنينِ في بطنِ أُمِّه، فيَنْفُخُ فيه الروحَ، ويُؤْمَرُ بأربعِ كلماتٍ: يكتب «رِزْقَه، وأَجَلَه، وعَمَلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ» كما وَرَدَ ذلك في الأحاديثِ الصحيحة.

القلم الرابع: الموضوعُ على العبدِ عند بلوغه، الذي بأيدي الكِرامِ الكاتبين، الذين يكتبون ما يفعله بنو آدَمَ، كما وَرَدَ ذلك في الكتاب والسنَّة».

قلت: فمِنَ الكتاب: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنَّ عَلَيۡكُمۡ لَحَٰفِظِينَ ١٠ كِرَامٗا كَٰتِبِينَ ١١ يَعۡلَمُونَ مَا تَفۡعَلُونَ ١٢[الانفطار]. وأمَّا الوارد في السنَّةِ فقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ» [أخرجه أبو داود في «الحدود» (٤/ ٥٦٠) بابٌ في المجنون يَسْرِقُ أو يُصيبُ حَدًّا، والترمذيُّ في «الحدود» (٤/ ٣٢) بابُ ما جاءَ فيمَنْ لا يجب عليه الحدُّ، وابنُ ماجه في «الطلاق» (١/ ٦٥٩) بابُ طلاق المعتوه والصغيرِ والنائم، مِن حديثِ عليٍّ رضي الله عنه. ووَرَدَ مِن حديثِ عائشة وأبي قَتادةَ رضي الله عنهما. واللفظُ لابن ماجه مِن حديثِ عائشة. والحديثُ صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (١/ ٦٥٩) و«الإرواء» (٢/ ٥ ـ ٦)].

هذا، والإيمانُ بأنَّ اللهَ كَتَبَ في اللوحِ المحفوظِ مَقاديرَ الخَلْقِ يدخل فيه خمسةُ تَقاديرَ:

الأوَّل: التقدير الأَزَليُّ: وهو الإيمانُ بأنَّ اللهَ قد عَلِمَ الأشياءَ كُلَّها قبل كونِها وقَدَّرَها قبل خَلْقِ السماوات والأرضِ بخمسين ألفَ سنةٍ عندما خَلَقَ اللهُ ـ تعالى ـ القلمَ. ويدلُّ عليه: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٢٢ لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡ[الحديد: ٢٢ ـ ٢٣]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ فِيٓ إِمَامٖ مُّبِينٖ ١٢[يس]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧٠[الحج].

كما يدلُّ عليه:

حديثُ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وفيه: «كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ» [تَقدَّمَ تخريجه قريبًا، انظر: الرابط].

وحديثُ عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»، قَالَ: «وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ»» [وسيأتي تخريجه، انظر: الرابط].

الثاني: التقدير العُمُريُّ الأوَّل (يومَ الميثاق): وهو التقدير الثاني مِن تقاديرِ الكتابةِ حين أخَذَ اللهُ الميثاقَ على بني آدَمَ كما دلَّ عليه قولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِيٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ ١٧٢ أَوۡ تَقُولُوٓاْ إِنَّمَآ أَشۡرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةٗ مِّنۢ بَعۡدِهِمۡۖ أَفَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ١٧٣ وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ وَلَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ١٧٤[الأعراف].

ويُؤكِّدُ معنى الآيةِ ـ أنَّ اللهَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِن صُلْبه وصُلْبِ أولاده وهُمْ في صُوَرِ الذَّرِّ، فأَخَذَ عليهم الميثاقَ أنه خالِقُهم، فاعترفوا بذلك وقَبِلوا ـ الأحاديثُ التالية:

حديثُ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «أَخَذَ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ـ المِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ ـ يَعْنِي: عَرَفَةَ ـ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ فَتَلَا قَالَ: ﴿أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَٰذَا غَٰفِلِينَ ١٧٢[الأعراف] إِلَى آخِرِ الآيَةِ» [أخرجه أحمد (١/ ٢٧٢)، والنسائيُّ في «السنن الكبرى» (١٠/ ١٠٢)، والحاكم (٢/ ٥٤٤)، والبيهقيُّ في «الأسماء والصفات» (٣٢٦)، وابنُ أبي عاصمٍ في «السنَّة» (١/ ٨٩). قال الحاكم: «صحيحُ الإسناد» ووافَقَه الذهبيُّ. انظر: «السلسلة الصحيحة» (٤/ ١٥٨) و«ظلال الجنَّة» (١/ ٨٩) كلاهما للألباني].

وحديثُ أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «خَلَقَ اللهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ، فَضَرَبَ كَتِفَهُ اليُمْنَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ كَأَنَّهُمُ الذَّرُّ، وَضَرَبَ كَتِفَهُ اليُسْرَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمُ الحُمَمُ؛ فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَمِينِهِ: «إِلَى الجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي»، وَقَالَ لِلَّذِي فِي كَفِّهِ اليُسْرَى: «إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي»» [رواهُ أحمد وابنُه في «زوائد المسند» (٦/ ٤٤١). وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٧٧)].

وحديثُ عبدِ الرحمن بنِ قَتادة السُّلَميِّ رضي الله عنه قال: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ أَخَذَ الخَلْقَ مِنْ ظَهْرِهِ وَقَالَ: «هَؤُلَاءِ فِي الجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي»»، قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ: «يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَلَى مَاذَا نَعْمَلُ؟» قَالَ: «عَلَى مَوَاقِعِ القَدَرِ»» [أخرجه أحمد (٤/ ١٨٦)، والحاكم (١/ ٣١)، وقال: «صحيحٌ» ووافَقَه الذهبيُّ. انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (١/ ٧٧)].

والأحاديثُ في ذلك كثيرةٌ.

الثالث: التقدير العُمُريُّ الثاني: وهو التقدير الثالث مِن تَقاديرِ الكتابة، يكون عند تخليقِ النطفة في الرَّحِم، فيُكْتَبُ ذكورتُها وأنوثتُها، وأجَلُها وعَمَلُها، وشقاوتُها وسعادتُها، ورِزْقُها وجميعُ ما هو لاقٍ؛ فلا يُزادُ فيه ولا يُنْقَصُ منه. ويدلُّ عليه: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى[الحج: ٥]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ جَعَلَكُمۡ أَزۡوَٰجٗاۚ وَمَا تَحۡمِلُ مِنۡ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلۡمِهِۦۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٖ وَلَا يُنقَصُ مِنۡ عُمُرِهِۦٓ إِلَّا فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ١١[فاطر]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ [النجم: ٣٢]، ونحوُها مِن الآيات.

كما يدلُّ عليه: حديثُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» [رواهُ البخاريُّ في «التوحيد» (١٣/ ٤٤٠) بابُ قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٧١[الصافَّات]، ومسلمٌ في «القَدَر» (١٦/ ١٩٠) بابُ كيفيةِ خَلْقِ الآدميِّ في بطنِ أمِّه].

ومِن ذلك ـ أيضًا ـ: حديثُ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «وَكَّلَ اللهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، فَيَقُولُ: «أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ»، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ: «أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأَجَلُ؟» فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ» [أخرجه البخاريُّ في «القَدَر» (١١/ ٤٧٧) بابٌ، ومسلمٌ في «القَدَر» (١٦/ ١٩٥) بابُ كيفيةِ خَلْقِ الآدميِّ في بطنِ أمِّه].

الرابع: التقدير الحوليُّ: وهو ما يُقدِّرُ اللهُ ـ تعالى ـ في ليلةِ القَدْر كُلَّ ما يكون في السَّنَة إلى مثلها. ويدلُّ عليه قولُه ـ تعالى ـ: ﴿حمٓ ١ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ ٢ إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ٣ فِيهَا يُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِيمٍ ٤ أَمۡرٗا مِّنۡ عِندِنَآۚ إِنَّا كُنَّا مُرۡسِلِينَ ٥[الدخان]، والمقصودُ بالليلةِ المُبارَكةِ في الآيةِ هي ليلةُ القَدْرِ لقوله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ ١[القَدْر]، وقد أخبر اللهُ ـ تعالى ـ أنَّ لهذه الليلةِ قَدْرًا وشَرَفًا مع ما فيها مِن التقدير: ففيها يُفْرَقُ كُلُّ أمرٍ حكيمٍ ويُفْصَلُ ويُبْرَمُ؛ فهي ليلةُ الحُكْمِ والتقدير، وبيَّن السعديُّ ـ رحمه الله ـ أنها ليلةُ القَدْرِ التي هي خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ، وأنَّ في تلك الليلةِ الفاضلةِ التي نَزَلَ فيها القرآنُ يُفْرَقُ كُلُّ أمرٍ حكيمٍ ويُفْصَلُ ويُمَيَّزُ، ويُكْتَبُ كُلُّ أمرٍ قَدَريٍّ وشرعيٍّ حَكَمَ اللهُ به، ثمَّ قال ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (٩٠٩)]: «وهذه الكتابةُ والفرقانُ الذي يكون في ليلةِ القَدْرِ أَحَدُ الكتاباتِ التي تُكْتَبُ وتُميَّزُ فتُطابِقُ الكتابَ الأوَّل الذي كَتَبَ اللهُ به مَقاديرَ الخلائقِ وآجالَهم وأرزاقَهم وأعمالهم وأحوالهم، ثمَّ إنَّ الله ـ تعالى ـ قد وكَّل ملائكةً تَكْتُبُ ما سيجري على العبدِ وهو في بطنِ أُمِّه، ثمَّ وكَّلهم بعد وجوده إلى الدنيا، وكَّل به كِرامًا كاتبين، يكتبون ويحفظون عليه أعمالَه، ثمَّ إنه ـ تعالى ـ يُقدِّرُ في ليلةِ القَدْر ما يكون في السَّنَة، وكُلُّ هذا مِن تمامِ عِلْمِه وكمالِ حكمته وإتقانِ حِفْظِه واعتنائه ـ تعالى ـ بخَلْقه».

وقد ورَدَتْ آثارٌ كثيرةٌ وشهيرةٌ عن الصحابةِ وأئمَّةِ التفسير مِن تابِعِيهم بإحسانٍ تدلُّ على أنَّ الله ـ تعالى ـ يُقدِّرُ أَمْرَ السَّنَةِ كُلِّها في ليلةِ القَدْر، فيفصلُ مِنَ اللوحِ المحفوظ إلى كُتُبِه أَمْرَ السَّنَةِ وما يكون فيها مِن الآجال والأعمال والأرزاق وغيرِها إلى السَّنَةِ القابلة [انظر: «شفاء العليل» لابن القيِّم (١/ ١٠٩)، و«مَعارِج القَبول» للحَكَمي (٣/ ٩٣٧)].

الخامس: التقدير اليوميُّ: وهو سَوْقُ المَقاديرِ إلى المَواقيتِ التي قُدِّرَتْ لها فيما سَبَقَ؛ فهو تأويلُ المقدورِ على العبد وإنفاذُه فيه في الوقت الذي سَبَقَ أنه يَنالُهُ فيه، لا يَتقدَّمُه ولا يَتأخَّرُه. ويدلُّ عليه قولُه ـ تعالى ـ: ﴿يَسۡ‍َٔلُهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٖ ٢٩[الرحمن]. قال السعديُّ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (٩٧٨)]: «وهو ـ تعالى ـ: ﴿كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٖ ٢٩﴾: يُغْني فقيرًا، ويَجْبُرُ كسيرًا، ويُعْطي قومًا ويمنع آخَرين، ويُميتُ ويُحْيي، ويرفع ويخفض، لا يَشْغلُهُ شأنٌ عن شأنٍ، ولا تُغْلِطُه المَسائلُ، ولا يُبْرِمُه إلحاحُ المُلِحِّين، ولا طولُ مسألةِ السائلين... وهذه الشئونُ التي أخبر أنه ـ تعالى ـ كُلَّ يومٍ هو في شأنٍ، هي تَقاديرُه وتدابيرُه التي قدَّرَها في الأَزَلِ وقَضَاهَا، لا يَزال ـ تعالى ـ يُمْضِيها ويُنْفِذُها في أوقاتها التي اقتضَتْه حكمتُه».

«ثمَّ هذا التقديرُ اليوميُّ تفصيلٌ مِن التقدير الحوليِّ، والحوليُّ تفصيلٌ مِن التقدير العمريِّ عند تخليقِ النطفة، والعمريُّ تفصيلٌ مِن التقدير العمريِّ الأوَّلِ يومَ الميثاق، وهو تفصيلٌ مِن التقدير الأَزَليِّ الذي خطَّه القلمُ في الإمام المُبين، والإمامُ المُبينُ هو مِن عِلْمِ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ، وكذلك مُنْتهى المَقاديرِ في آخِرِيَّتها إلى علمِ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ؛ فانْتَهَتِ الأوائلُ إلى أوَّليَّته، وانْتَهَتِ الأواخرُ إلى آخِرِيَّته، ﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلۡمُنتَهَىٰ ٤٢[النجم]» [«مَعارِج القَبول» للحَكَمي (٣/ ٩٣٩)].

انظر تفصيلَ التقاديرِ الخمسة في: «شفاء العليل» لابن القيِّم (١/ ٥٥ وما بعدها)، «مَعارِج القَبول» للحَكَمي (٣/ ٩٢٨ ـ ٩٤٠).

المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة: وهي الإيمانُ بمَشيئتِه الشاملةِ لكُلِّ حادثٍ وقدرتِه التامَّةِ عليه، «وليس في الوجود مُوجِبٌ ومُقْتَضٍ إلَّا مَشيئةَ اللهِ وَحْدَه؛ فما شاءَ كان وما لم يَشَأْ لم يكن، هذا عمودُ التوحيدِ الذي لا يقوم إلَّا به، والمسلمون مِن أوَّلهم إلى آخِرِهم مُجْمِعون على أنه ما شاءَ اللهُ كان وما لم يَشَأْ لم يكن» [«شفاء العليل» لابن القيِّم (١/ ١٧١)].

ومَعْنَى هذه العبارةِ: أنَّ ما شاءَ اللهُ كونَه فهو كائنٌ بقدرته لا مَحالةَ لقوله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّمَآ أَمۡرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيۡ‍ًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٨٢[يس]، وقولِه ـ تعالى ـ: ﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٢٦[آل عمران]؛ فتَجْتَمِعُ مشيئةُ اللهِ وقدرتُه فيما كان وسيكون.

وما لم يَشَإِ اللهُ ـ تعالى ـ لم يكن؛ لعَدَمِ مشيئةِ الله ـ تعالى ـ إيجادَه، لا لعدمِ قدرةِ الله ـ تعالى ـ عليه؛ ولهذا قال ـ تعالى ـ: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًا[يونس: ٩٩]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَأٓتَيۡنَا كُلَّ نَفۡسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ مِنِّي لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ ١٣[السجدة]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ ٢٥٣[البقرة]، وغيرُها مِن الآياتِ الدالَّةِ على أنَّ السبب في عَدَمِ وجودِ الشيءِ هو عَدَمُ مَشيئةِ اللهِ إيَّاهُ لا لعَجْزِه عنه؛ فاللهُ ـ تعالى ـ مُنَزَّهٌ عن العجز والنقص، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعۡجِزَهُۥ مِن شَيۡءٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَلِيمٗا قَدِيرٗا ٤٤[فاطر]؛ فهو ـ سبحانه ـ القادرُ على كُلِّ شيءٍ أرادَهُ، لا يَعْتَرِيهِ عَجْزٌ ولا يَعْترِضُهُ نَصَبٌ ولا فتورٌ، وتَفْترِقُ مَشيئةُ اللهِ وقدرتُه فيما لم يكن ولا هو كائنٌ [انظر: «مَعارِج القَبول» للحَكَمي (٣/ ٩٤٠)].

ويدلُّ على هذه المرتبةِ مِن السنَّة:

حديثُ عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما أنه سَمِع رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» [أخرجه مسلمٌ في «القَدَر» (١٦/ ٢٠٣ ـ ٢٠٤) بابُ تصريفِ الله ـ تعالى ـ القلوبَ كيف يَشاءُ].

حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ»، وَلْيَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ؛ إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لَا مُكْرِهَ لَهُ» [أخرجه البخاريُّ في «التوحيد» (١٣/ ٤٤٨) بابٌ في المَشيئةِ والإرادة، ومسلمٌ في «الذِّكْر والدعاء والتوبة والاستغفار» (١٧/ ٧) بابُ العزمِ في الدعاء ولا يَقُلْ: إِنْ شئتَ].

والنصوصُ الشرعية كثيرةٌ جدًّا في إثباتِ مَشيئةِ الله ـ تعالى ـ وقدرتِه؛ فلا يكون ما في السماوات والأرض مِن حركةٍ أو سكونٍ إلَّا بمَشيئةِ الله ـ تعالى ـ النافذةِ وقدرته الشاملة، ولا يكون في مُلْكه ما لا يَشاءُ ولا يُريدُ [انظر: «شفاء العليل» لابن القيِّم (١/ ١٧١ ـ ١٩٢وراجِعْ صفةَ الإرادةِ والمَشيئةِ المُطْلَقةِ وتوحيدَ الربوبية في: «إمتاع الجليس» (٧٧) و«تحفة الأنيس» (٣٩، ٦٤، ٩٢، ١١٢) كلاهما للمؤلِّف].

المرتبة الرابعة: مرتبة الخَلْق والتكوين والإيجاد: «وهو الإيمان بأنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ خالِقُ كُلِّ شيءٍ؛ فهو خالِقُ كُلِّ عاملٍ وعَمَلِه، وكُلِّ مُتحرِّكٍ وحركتِه، وكُلِّ ساكنٍ وسكونه، وما مِن ذَرَّةٍ في السماوات ولا في الأرض إلَّا واللهُ ـ سبحانه وتعالى ـ خالِقُها وخالِقُ حركتها وسكونها» [«مَعارِج القَبول» للحَكَمي (٣/ ٩٤٠)].

قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ عن هذه المرتبةِ في [«شفاء العليل» (١/ ١٩٣)]: «وهذا أمرٌ مُتَّفَقٌ عليه بين الرُّسُل صلَّى اللهُ تعالى عليهم وسلَّم، وعليه اتَّفَقَتِ الكُتُبُ الإلهيةُ والفِطَرُ والعقول والاعتبار».

ويدلُّ عليه: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ فَٱعۡبُدُوهُۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٞ ١٠٢[الأنعام]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ ٩٦[الصافَّات]، وغيرُها مِن نصوص الكتابِ والسنَّةِ التي تَقَدَّمَ ذِكْرُها وبَسْطُها في فصول التوحيد العلميِّ (توحيد الربوبية) [انظر: «تحفة الأنيس» للمؤلِّف (٣٩، ٦٤، ٩٢، ١١٢)].

(٣) وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآ﴾ أي: نَخْلُقَها، وقد اختلف العُلَماءُ في عَوْدِ الضمير: هل هو عائدٌ على الأَنْفُسِ لقُرْبها منه، أو عائدٌ على الأرض، أو عائدٌ على المُصيبة؟ والأَحْسَنُ عَوْدُه على الخليقة والبَرِيَّةِ لدلالةِ الكلام عليها، ويكونُ معنى الآيةِ: أي: مِن قبلِ أَنْ نَخْلُقَ الخليقةَ ونَبْرَأَ النَّسَمة. قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«شفاء العليل» (١/ ٥٩)]: «والتحقيقُ أَنْ يُقالَ: هو عائدٌ على البَرِيَّة التي تَعُمُّ هذا كُلَّه، ودَلَّ عليه السياقُ وقولُه: ﴿نَّبۡرَأَهَآ﴾؛ فيَنْتَظِمُ التقاديرَ الثلاثةَ انتظامًا واحدًا» [انظر: «تفسير ابنِ كثير» (٤/ ٣١٣)، «أضواء البيان» للشنقيطي (٧/ ٨١٤)].

(٤) ففي الآيةِ إخبارُ اللهِ ـ تعالى ـ عن عِلْمِه السابقِ بالأشياءِ قبل كونها وأنه قدَّرَها في خَلْقِه قبل أَنْ يخلق الخليقةَ، وأنَّ عمومَ المَصائِبِ في الأرض مِن القحط والجدب والجوائح، وفي الأَنْفُسِ مِن الأمراض والأوبئة والموت، فكُلُّها كُتِبَتْ في اللوح المحفوظِ صغيرُها وكبيرُها قبل خَلْقِ الناس ووجودِ المَصائِبِ، وأنَّ قضاء اللهِ وقَدَرَه المكتوبَ واقعٌ لا مَحالةَ؛ ذلك لأنَّ عِلْمَ الله ـ تعالى ـ بالأشياءِ قبل كونها وكتابتَه لها طِبْقَ ما يُوجَدُ في حينِها سهلٌ على الله ـ تعالى ـ يَسيرٌ عليه؛ لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. قال السعديُّ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (٩٩٢ ـ ٩٩٣)]: «وهذا أمرٌ عظيمٌ لا تُحيطُ به العقولُ بل تَذْهَلُ عنده أَفْئِدةُ أولي الألباب، ولكنَّه على الله يسيرٌ، وأَخْبَرَ اللهُ عبادَه بذلك لأَجْلِ أَنْ تَتقرَّرَ هذه القاعدةُ عندهم، ويَبْنُوا عليها ما أصابَهم مِن الخير والشرِّ: فلا يأسَوْا ويحزنوا على ما فَاتَهم ممَّا طَمَحَتْ له أَنْفُسُهم وتَشَوَّفوا إليه؛ لِعِلْمِهم أَنْ يكون ذلك مكتوبًا في اللوح المحفوظ، لا بُدَّ مِن نفوذه ووقوعه؛ فلا سبيلَ إلى دَفْعِه، ولا يفرحوا بما آتاهم اللهُ فَرَحَ بَطَرٍ وأَشَرٍ؛ لِعِلْمِهم أنهم ما أَدْرَكوه بحَوْلهم وقوَّتهم، وإنما أدركوه بفضلِ الله ومَنِّه؛ فيَشْتغِلُوا بشُكْرِ مَن أَوْلى النِّعَمَ ودَفَعَ النِّقَمَ؛ ولهذا قال: ﴿وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ ٢٣[الحديد]، أي: مُتكبِّرٍ فظٍّ غليظٍ، مُعْجَبٍ بنَفْسه، فخورٍ بنِعَمِ الله، يَنْسِبُها إلى نَفْسِه، وتُطْغِيهِ وتُلْهِيهِ».

قلت: والمُصنِّفُ ـ رحمه الله ـ استدلَّ بهذه الآيةِ لبيانِ مرتبةِ الكتابةِ في اللوح المحفوظ، مع الإشارة إلى مَراتبِ القَدَرِ الأخرى التي مَن لم يُؤْمِنْ بها لم يُؤْمِنْ بالقَدَر وهو ركنٌ عظيمٌ مِن أركان الإيمان؛ فالآيةُ دلَّتْ على عِلْمِ الله السابقِ بالأشياء قبل كونها، وما كَتَبَه اللهُ في اللوح المحفوظ مِن مَقاديرِ الخَلْقِ بالتقدير الأَزَليِّ، وما تَضمَّنَتْه مِنْ مرتبتَيِ المَشيئةِ والخَلْق؛ فما شاءَ اللهُ كان وما لم يَشَأْ لم يكن.

(٥) هو أبو محمَّدٍ عبدُ الله بنُ عمرو بنِ العاص بنِ وائلٍ القُرَشيُّ السَّهْميُّ، صاحِبُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وابنُ صاحِبِه، كان اسْمُه: العاصَ، فلمَّا أَسْلَمَ غيَّره النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لعبدِ الله، كان رضي الله عنهما مِن أفاضلِ الصحابةِ ومِن العُبَّاد المُجْتَهِدين، وأَحَدَ العبادلةِ المُحدِّثين المُكْثِرين، أَسْلَمَ قبل أبيه، وهاجَرَ بعد سنةٍ، وشَهِد بعضَ المَغازي، وشَهِدَ مع أبيه فُتُوحَ الشام، وكانَتْ معه الرايةُ يوم اليرموك. قال عنه الذهبيُّ ـ رحمه الله ـ: «له مَناقِبُ وفضائلُ، ومَقامٌ راسخٌ في العلم والعمل، حَمَلَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم علمًا جمًّا». تُوُفِّي رضي الله عنهما بمصر سنة (٦٥ﻫ) على الصحيح عن اثنتين وسبعين سنةً.

انظر ترجمته في: «المَعارف» لابن قُتَيْبة (٢٨٦)، «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٥/ ١١٦)، «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم (١٦٣)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٣/ ٩٥٦)، «أُسْد الغابة» لابن الأثير (٣/ ٢٣٣)، «الحُلَّة السِّيَراء» لابن الأبَّار (١/ ١٧)، «سِيَر أعلام النبلاء» (٣/ ٧٩) و«دُوَل الإسلام» (١/ ٥٠) كلاهما للذهبي، «تهذيب التهذيب» (٥/ ٣٣٧) و«الإصابة» (٢/ ٣٥١) كلاهما لابن حجر، «الرياض المستطابة» للعامري (١٩٦)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ٧٣).

(٦) وفي نسخة: «م.ف»: «كَتَب اللهُ مَقاديرَ الأشياءِ أي: الخلائق...».

(٧) أخرجه مسلمٌ في «القَدَر» (١٦/ ٢٠٣) بابُ حِجَاج آدَمَ وموسى عليهما السلام بلفظ: «قال: وعَرْشُه على الماء»، والآجُرِّيُّ في «الشريعة» (١٧٣)، ونَقَله ابنُ كثيرٍ في «التفسير» (٤/ ٣١٤) عن «صحيح مسلمٍ».

وأخرجه الترمذيُّ في «القَدَر» (٤/ ٤٥٨) باب (١٨)، وأحمد في «مسنده» (٢/ ١٦٩) بدونِ هذه الزيادةِ في آخِرِه.

والحديث دلَّ على أنَّ اللهَ قدَّر المَقاديرَ على العِبادِ قبل أَنْ يخلق السماواتِ والأرضَ ـ كما تَقدَّمَ مُفصَّلًا ـ.

كما دلَّ الحديثُ ـ أيضًا ـ على أنَّ العرش هو أوَّلُ المخلوقاتِ وهو سابقٌ على خَلْقِ القلم، وهو المذهبُ الراجحُ مِن أقوالِ أهل العلم، واختارَهُ ابنُ تيمية وابنُ القيِّم وابنُ كثيرٍ وابنُ أبي العِزِّ وابنُ حجرٍ وغيرُهم، ونَسَبه ابنُ كثيرٍ وابنُ حجرٍ إلى الجمهور [انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٨/ ٢١٣)، «شفاء العليل» (١/ ٥٥) و«اجتماع الجيوش الإسلامية» (٢٥٣) كلاهما لابن القيِّم، «مختصر الصواعق المُرْسَلة» للموصلي (٢/ ٣٢٣)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١/ ٩)، «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (٢٩٥)، «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٢٨٩)].