«التصفيف الثاني والأربعون: الإيمان بالملائكة عليهم السلام» | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م

العقائد الإسلامية
مِنَ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

للشيخ عبد الحميد بنِ باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)

بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ

«التصفيف الثاني والأربعون: الإيمان بالملائكة عليهم السلام(١)»

الثَّانِي وَالسِّتُّونَ: [بيان حقيقة الملائكة وصفاتهم وأعمالهم]:

المَلَائِكَةُ مَخْلُوقُونَ مِنَ النُّورِ(٢)، لَا يُوصَفُونَ بِذُكُورَةٍ وَلَا بِأُنُوثَةٍ(٣)، مُيَسَّرُونَ لِلطَّاعَاتِ، مَعْصُومُونَ مِنَ المَعَاصِي، مُسَخَّرُونَ بِإِذْنِ اللهِ فِي شُؤُونِ الخَلْقِ وَتَدْبِيرِ الكَوْنِ، وَحِفْظِ العِبَادِ وَكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ، أُمَنَاءُ عَلَى الوَحْيِ فِي حِفْظِهِ وَتَبْلِيغِهِ(٥)؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا(٦) قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقَتِ المَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ(٧)، وَلِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى ـ: ﴿وَجَعَلُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ إِنَٰثًاۚ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ سَتُكۡتَبُ شَهَٰدَتُهُمۡ وَيُسۡ‍َٔلُونَ ١٩[الزخرف](٨)، ﴿وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسۡتَحۡسِرُونَ ١٩ يُسَبِّحُونَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفۡتُرُونَ ٢٠[الأنبياء]، ﴿وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّآفُّونَ ١٦٥ وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ ١٦٦[الصافَّات](٩)، ﴿لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ ٢٧ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ ٢٨[الأنبياء]، ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ۩ ٥٠[النحل](١٠)، ﴿فَٱلۡمُقَسِّمَٰتِ أَمۡرًا ٤[الذاريات: ٤]، ﴿فَٱلۡمُدَبِّرَٰتِ أَمۡرٗا ٥[النازعات]، ﴿إِن كُلُّ نَفۡسٖ لَّمَّا عَلَيۡهَا حَافِظٞ ٤[الطارق]، ﴿لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ[الرعد: ١١]، ﴿وَإِنَّ عَلَيۡكُمۡ لَحَٰفِظِينَ ١٠ كِرَامٗا كَٰتِبِينَ ١١ يَعۡلَمُونَ مَا تَفۡعَلُونَ ١٢[الانفطار]، ﴿عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٞ ١٧ مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ ١٨[ق]، ﴿فِي صُحُفٖ مُّكَرَّمَةٖ ١٣ مَّرۡفُوعَةٖ مُّطَهَّرَةِۢ ١٤ بِأَيۡدِي سَفَرَةٖ ١٥ كِرَامِۢ بَرَرَةٖ ١٦[عَبَسَ]، ﴿إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيمٞ ٧٧ فِي كِتَٰبٖ مَّكۡنُونٖ ٧٨ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ ٧٩[الواقعة]، ﴿فَٱلۡمُلۡقِيَٰتِ ذِكۡرًا ٥ عُذۡرًا أَوۡ نُذۡرًا ٦[المُرْسَلات]، ﴿ٱللَّهُ يَصۡطَفِي مِنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلٗا وَمِنَ ٱلنَّاسِ[الحج: ٧٥](١١).

 


(١) في نسخة: «م.ف»: «عليهم الصلاة والسلام».

الملائكة: جَمْعُ مَلَكٍ، وقد اخْتُلِفَ في أصلِ اشتقاقِ تسميتهم، وما عليه عامَّةُ أهلِ اللغةِ والتفسيرِ أنَّ اشتقاقَ اسْمِ «الملائكة» مِنَ «الألوكة» وهي الرسالة، وهذا القولُ أَقْرَبُ مِن جهةِ اللغةِ وأَصْوَبُ مِن جهةِ المعنى، وقد سمَّى اللهُ ـ تعالى ـ ملائكتَه بالرُّسُل في آياتٍ كثيرةٍ منها: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ ٧٧[هود]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿قَالَ فَمَا خَطۡبُكُمۡ أَيُّهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ[الحِجْر: ٥٧؛ الذاريات: ٣١]، وزِيدَتِ الهاءُ في الملائكةِ إمَّا تأكيدًا لتأنيثِ الجمع، ومثلُه الصَّلادِمَة، والصَّلادِمُ: الخيلُ الشِّدَادُ، ووَاحِدُها: صِلْدِمٌ، وإمَّا للمُبالَغةِ مثل: علَّامةٍ ونسَّابةٍ، [انظر: «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (١٢٢٩)، «لسان العرب» لابن منظور (١٣/ ١٨٥)، «تفسير القرطبي» (١/ ٢٦٢)، «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٣٠٦)].

والإيمان بالملائكةِ عليهم السلامُ هو الركنُ الثاني مِنْ أركانِ الإيمانِ الستَّةِ التي لا يصحُّ إيمانُ عبدٍ ولا يُقْبَل منه إلَّا بتحقيقه، وقَدْ جاء هذا الأصلُ مرتَّبًا بعد الإيمان بالله ـ تعالى ـ في قوله ـ تعالى ـ: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦ[البقرة: ٢٨٥]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا سأله جبريلُ عليه السلام عن الإيمان: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» [سبق تخريجه].

ولعلَّ الحكمةَ مِنْ تقديمِ المصنِّفِ الإيمانَ بالقَدَرِ على هذا الأصلِ تكمن في أنَّ الإيمان بالقَدَرِ داخلٌ في الإيمانِ بالله ـ سبحانه ـ وهو مِنْ جملةِ ما استأثر اللهُ بعِلْمِه؛ فناسَبَ تقديمَه على فصلِ الإيمان بالملائكة.

هذا، وقد دلَّ الكتابُ والسنَّةُ وإجماعُ المسلمين على وجوب الإيمان بالملائكة إجمالًا، وهو فرضُ عينٍ يجب تعلُّمُه واعتقادُه.

والإيمانُ المُجْمَلُ بالملائكةِ يتضمَّن المعانيَ التالية:

١ ـ الإقرارَ بوجودهم على وجهِ الحقيقة لا المجاز؛ فالإيمانُ بهم ولو لم نُشاهِدْهم هو مِنَ الإيمان بالغيب، وقد رأى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعضَ الملائكةِ على صورته الحقيقية، ورآهم الأنبياءُ والصحابةُ والصالحون وهُمْ مُتشكِّلون بصورة البشر ـ كما سيأتي ـ [انظر: (ص )].

٢ ـ إنزالَهُم مَنازِلَهُم التي أَنْزَلَهُم اللهُ، وإثباتَ أنهم ـ كسائِرِ خَلْقِه مِنَ الإنس والجنِّ ـ عِبادُ الله، مأمورون ومُكلَّفون، وأنَّ الله أَكْرَمَهم ورَفَعَ مَقامَهم عنده، وفضَّلَ بعضَهم على بعضٍ، وهُمْ رُسُلُ اللهِ إلى خَلْقِه بما يَشاءُ مِنْ وحيٍ أو غيرِه، وهُمْ لا يَقْدِرون إلَّا على ما يُقْدِرُهم اللهُ ـ تعالى ـ عليه، والموتُ جائزٌ عليهم، ولكنَّ الله جَعَلَ لهم أمَدًا بعيدًا فلا يتوفَّاهم حتَّى يبلغوه، كما أنهم لا يملكون لأَنْفُسهم ولا لغيرهم شيئًا مِنْ دونِ الله؛ لذلك فلا يجوز أَنْ يُصْرَف لهم شيءٌ مِنْ أنواعِ العبادة، ولا أَنْ يُوصَفُوا بشيءٍ مِنْ صفات الربوبية ـ كما تَدَّعِيهِ النصارى وتزعمه ـ.

٣ ـ الإقرار بما يَثْبُتُ في حقِّهم في الكتاب والسنَّة؛ فما ثَبَتَ مُجْمَلًا وَجَبَ الإيمانُ به إجمالًا، وما ثَبَتَ في حَقِّهم مفصَّلًا وَجَبَ الإيمانُ به تفصيلًا؛ فلا يُوصَفون إلَّا بما وَصَفَهم به اللهُ، ولا يُسَمَّوْنَ إلَّا بما سمَّاهم به خالِقُهم ـ سبحانه ـ في كتابه أو سنَّةِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم كجبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، ومالكٍ، والمُنْكَر والنكير وغيرِهم؛ بل يجب الإيمانُ بما وَصَفَهم اللهُ به وسَمَّاهم، دون ما لم يُسَمِّ لنا: كتسميةِ مَلَكِ الموتِ عزرائيلَ ـ مثلًا ـ فلا أَصْلَ له في السنَّةِ الصحيحة، قال ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في [«البداية والنهاية» (١/ ٤٧)]: «وأمَّا مَلَكُ الموتِ فليس بمُصَرَّحٍ باسْمِه في القرآنِ ولا في الأحاديث الصحاح، وقد جاء تسميتُه في بعضِ الآثار بعزرائيل»؛ لذلك لا ينبغي تسميةُ مَلَكِ الموتِ بهذا الاسْمِ لعدَمِ ثبوته، [انظر متضمَّناتِ الإيمان بالملائكة في: «شُعَب الإيمان» للبيهقي (١/ ٢٩٦)، «إغاثة اللهفان» لابن القيِّم (٢/ ١٢٥)، «الحبائك في أخبار الملائك» للسيوطي (٩)].

فهذا الإيمانُ بالملائكة إجمالًا، وكُلَّما عَلِمَ العبدُ بتفاصيلِ ما يتعلَّق بهذا الأصلِ أو بغيره لَزِمَه مِنَ الإيمانِ بحَسَبِ ما حَصَّلَ مِنَ التفاصيل، وازدادَ إيمانُه بقَدْرِ ما بَلَغه منها.

ونصوصُ القرآنِ والسنَّةِ مملوءةٌ بذِكْرِ الملائكةِ ومَراتِبِهم وأصنافهم وأخبارِهم وأحوالهم مع الله ـ تعالى ـ ومع الناسِ، وبيانِ أعمالهم المُخْتلِفة، سواءٌ تَعَلَّقَتْ بالكون أو بالإنسان ـ كما سيأتي [انظر: (ص )] ـ إجمالًا وتفصيلًا. ولبيانِ عِظَمِ منزلتهم قَرَنَ اللهُ شهادتَهم بشهادته في قوله ـ تعالى ـ: ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ[آل عمران: ١٨]، كما جَعَلَ اللهُ ـ سبحانه ـ البِرَّ لا يُنالُ إلَّا بالإيمان بهم مقرونًا بأمورٍ أخرى وَرَدَ ذِكْرُها في قوله ـ تعالى ـ: ﴿لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ[البقرة: ١٧٧].

وعليه، فمَنْ أَنْكَرَ وجودَ الملائكةِ أصلًا أو تَأوَّلَ الملائكةَ بأَخْيِلَةِ القوى العقليةِ والنفسيةِ بمعنَى: أَنْ لا وجودَ لأعيانهم في الخارج، وإنما هي في الأذهانِ؛ فهو مُكذِّبٌ لله ولرسوله، وقد حَكَمَ اللهُ بكفرِ مَنْ أَنْكَرَ وجودَهم وجَعَلَ الكفرَ بهم كفرًا به، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ١٣٦[النساء].

(٢) جاء في حديثِ عائشة رضي الله عنها الآتي التصريحُ بأنَّ الله خَلَقَ الملائكةَ مِنْ نورٍ، وهذا النورُ ـ في حَدِّ ذاته ـ مخلوقٌ كما ثَبَتَ في «صحيح مسلم» (١٧/ ١٣٣) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: «خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ العَصْرِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فِي آخِرِ الخَلْقِ، فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ».

فخَلَقَ اللهُ ـ تعالى ـ مادَّةَ النور ـ أوَّلًا ـ ثمَّ خَلَقَ منها الملائكةَ، كما خَلَقَ اللهُ ـ تعالى ـ مادَّةَ النارِ ثمَّ خَلَقَ الجنَّ منها، وخَلَقَ اللهُ مادَّةَ الطينِ ـ أيضًا ـ ثمَّ خَلَقَ منها آدَمَ عليه السلام.

وإذا كانَتِ النصوصُ الشرعيةُ فصَّلَتْ في مادَّةِ خَلْقِ الجنِّ والإنسِ كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ كَٱلۡفَخَّارِ ١٤ وَخَلَقَ ٱلۡجَآنَّ مِن مَّارِجٖ مِّن نَّارٖ ١٥[الرحمن]، وقولِه ـ تعالى ـ: ﴿وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن صَلۡصَٰلٖ مِّنۡ حَمَإٖ مَّسۡنُونٖ ٢٦ وَٱلۡجَآنَّ خَلَقۡنَٰهُ مِن قَبۡلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ ٢٧[الحِجْر]، وغيرِها مِنَ الآياتِ المُفَصِّلةِ ـ خاصَّةً في خَلْقِ آدَمَ ومادَّةِ خَلْقِه وزَمَنِ خَلْقِه ـ فإنَّ النصوصَ الحديثية اكتفَتْ بذِكْرِ النور المخلوقِ: مادَّةِ خَلْقِ الملائكة.

وما وَرَدَ مِنْ رواياتٍ تحدَّثَتْ بنوعٍ مِنَ التفصيل عن مادَّةِ خَلْقِ الملائكةِ فهي غيرُ ثابتةٍ، ولا يجوز اعتقادُها ولا الاحتجاجُ بها، فمِنْ ذلك: ما رُوِيَ عن عبد الله بنِ عمرِو بنِ العاص رضي الله عنهما قال: «خَلَقَ اللهُ الملائكةَ مِنْ نورِ الذراعين والصدر»، وما رُوِيَ عن عِكْرِمةَ قال: «خُلِقَتِ الملائكةُ مِنْ نورِ العِزَّة، وخُلِقَ إبليسُ مِنْ نار العِزَّة»؛ فهاتان الروايتان وغيرُهما ضعيفةٌ لا تقوى على الاحتجاجِ والعملِ بها، قال الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ في [«السلسلة الصحيحة» (١/ ٢/ ١٩٧) رقم: (٤٥٩)]: «هذا كُلُّه مِنَ الإسرائيليات التي لا يجوز الأخذُ بها؛ لأنها لم تَرِدْ عن الصادقِ المصدوقِ صلَّى الله عليه وسلَّم».

أمَّا مِنْ حيث زمنُ خَلْقِ الملائكةِ فالثابتُ ـ قطعًا ـ في القرآنِ الكريم أنَّ الملائكة خُلِقوا قبل آدَمَ عليه السلام؛ فقَدْ أَخْبَرَ اللهُ ـ تعالى ـ أنه أَعْلَمَ ملائكتَه بأنه سيجعلُ خليفةً في الأرض، وهو آدَمُ عليه السلام، ثمَّ أَمَرَهم بعد خَلْقِه أَنْ يسجدوا له في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗ[البقرة: ٣٠]، ثمَّ قال: ﴿وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ[البقرة: ٣٤]. وهذه الآيةُ وغيرُها وإِنْ دلَّتْ على تَقَدُّمِ خَلْقِ الملائكةِ على خَلْقِ آدَمَ عليه السلام، لكِنْ لم تُبَيِّنْ ـ بالتحديد ـ زَمَنَ خَلْقِهم؛ فكان ذلك غيبًا، والواجبُ الإيمانُ بكُلِّ ما ثَبَتَ بالنصوص الصحيحةِ والوقوفُ عند مدلولها مِنْ غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ، وعدَمُ التكلُّف والتنقيرِ فيما لا دليلَ عليه مِنَ الكتاب والسنَّة.

(٣) في نسخة: «م.ف»: «لا يُوصَفون بالذكورة ولا بالأنوثة» بالتعريف.

(٤) بَدَأَ المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ بذِكْرِ بعضِ الصفات الخَلْقية للملائكة: فهُمْ عبادُ الرحمنِ، جنسٌ مُسْتقِلٌّ لا يُوصَفُ بذكورةٍ ولا أنوثةٍ، وهُمْ باقون على أصلِ خِلْقَتِهم، يخلق اللهُ كُلَّ واحدٍ منهم بذاته فلا يَتزاوجون ولا يَتناسلون، وقد أَنْكَرَ اللهُ ـ تعالى ـ على المشركين أَشَدَّ الإنكارِ زَعْمَهم أنَّ الملائكة إناثٌ وأنهم بناتُ الله، وعِبَادتَهم لهم مِنْ دونِ الله ـ تعالى ـ فقال: ﴿فَٱسۡتَفۡتِهِمۡ أَلِرَبِّكَ ٱلۡبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلۡبَنُونَ ١٤٩ أَمۡ خَلَقۡنَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ إِنَٰثٗا وَهُمۡ شَٰهِدُونَ ١٥٠ أَلَآ إِنَّهُم مِّنۡ إِفۡكِهِمۡ لَيَقُولُونَ ١٥١ وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ ١٥٢ أَصۡطَفَى ٱلۡبَنَاتِ عَلَى ٱلۡبَنِينَ ١٥٣ مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ ١٥٤[الصافَّات]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَجَعَلُواْ لَهُۥ مِنۡ عِبَادِهِۦ جُزۡءًاۚ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَكَفُورٞ مُّبِينٌ ١٥ أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخۡلُقُ بَنَاتٖ وَأَصۡفَىٰكُم بِٱلۡبَنِينَ ١٦ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحۡمَٰنِ مَثَلٗا ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٌ ١٧ أَوَ مَن يُنَشَّؤُاْ فِي ٱلۡحِلۡيَةِ وَهُوَ فِي ٱلۡخِصَامِ غَيۡرُ مُبِينٖ ١٨ وَجَعَلُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ إِنَٰثًاۚ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ سَتُكۡتَبُ شَهَٰدَتُهُمۡ وَيُسۡ‍َٔلُونَ ١٩ وَقَالُواْ لَوۡ شَآءَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَا عَبَدۡنَٰهُمۗ مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ ٢٠[الزخرف: ١٥ ـ ٢٠]. قال القرطبيُّ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (١٦/ ٧٢)] عند هذه الآيةِ: «والمقصودُ: إيضاحُ كَذِبِهم وبيانُ جَهْلِهم في نسبةِ الأولاد إلى الله ـ سبحانه ـ ثمَّ في تَحَكُّمِهم بأنَّ الملائكةَ إناثٌ وهُمْ بناتُ الله، وذِكْرُ العبادِ مَدْحٌ لهم، أي: كيف عَبَدوا مَنْ هو في نهايةِ العبادة؟ ثمَّ كيف حَكَموا بأنهم إناثٌ مِنْ غيرِ دليلٍ؟».

وفضلًا عن هذه الصفةِ الخَلْقية التي ذَكَرَها المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ فإنه يمكن إضافةُ صفاتٍ خَلْقيةٍ أخرى للملائكة ـ باختصارٍ ـ إتمامًا للفائدة، وتظهر فيما يلي:

أوَّلًا: ضخامة خِلْقَةِ الملائكة وعِظَمُ أجسامهم وقوَّتِهم:

لم يخلقِ اللهُ ـ تعالى ـ الملائكةَ على درجةٍ واحدةٍ في الخَلْق والمقدار، ولكِنْ خَلَقَهم على صُوَرٍ عظيمةٍ مُناسِبةٍ لأعمالهم الموكولةِ إليهم، وقد وَصَفَ اللهُ ـ تعالى ـ ملائكةَ النارِ بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ٦[التحريم]، وقال ـ تعالى ـ في شأنِ جبريلَ عليه السلام: ﴿عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ ٥ ذُو مِرَّةٖ فَٱسۡتَوَىٰ ٦[النجم]، وقال: ﴿إِنَّهُۥ لَقَوۡلُ رَسُولٖ كَرِيمٖ ١٩ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلۡعَرۡشِ مَكِينٖ ٢٠[التكوير]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم واصفًا له: «رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ» [أخرجه مسلمٌ في «الإيمان» (٣/ ٨) بابُ معنَى قولِ الله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَقَدۡ رَءَاهُ نَزۡلَةً أُخۡرَىٰ ١٣[النجم]، والترمذيُّ في «تفسير القرآن» (٥/ ٢٦٢) باب: ومِنْ سورة الأنعام، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها].

ـ وقال صلَّى الله عليه وسلَّم في وَصْفِ حَمَلةِ العرش: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ» [أخرجه أبو داود في «السنَّة» (٥/ ٩٦) بابٌ في الجهمية، مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٧٢) برقم: (١٥١)].

ـ وممَّا يدلُّ على قوَّتِهم ـ أيضًا ـ: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ ٨٢[هود]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿قَالَ فَمَا خَطۡبُكُمۡ أَيُّهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٣١ قَالُوٓاْ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمٖ مُّجۡرِمِينَ ٣٢ لِنُرۡسِلَ عَلَيۡهِمۡ حِجَارَةٗ مِّن طِينٖ ٣٣ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلۡمُسۡرِفِينَ ٣٤[الذاريات].

ـ ومِنْ ذلك: عِظَمُ قوَّةِ مَلَكِ الجبال الذي قال للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَنَا مَلَكُ الجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ» [وهما جبلان بمكَّةَ يحيطان بها]، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» [أخرجه البخاريُّ في «بدء الخَلْق» (٦/ ٣١٢) باب: إذا قال أحَدُكم: «آمين»، ومسلمٌ في «الجهاد والسِّيَر» (١٢/ ١٥٤) بابُ ما لَقِيَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ أَذَى المُشْرِكين والمُنافِقين، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها].

ثانيًا: أجنحة الملائكةِ وعِظَمُ سرعتهم وحُسْنُ منظرهم:

خَلَقَ اللهُ ـ تعالى ـ للملائكة أجنحةً على اختلافِ أعدادها مِنْ مَلَكٍ لآخَرَ، وهي أجنحةٌ جميلةٌ ذاتُ ألوانٍ قويَّةٍ كألوان الدُّرِّ والياقوت، تطير بها ما بين السماءِ والأرض بسرعةٍ هائلةٍ لا تُقاسُ بمقاييسِ البشر، وتَحُفُّ بها طَلَبةَ العلمِ وأَهْلَ الذِّكْرِ في مَجالِسِهم، قال ـ تعالى ـ: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١[فاطر].

ـ وقد «رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا سَدَّ الأُفُقَ، يَسْقُطُ مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ وَالدُّرِّ وَاليَاقُوتِ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ» [أخرجه أحمد في «مسنده» ـ ت. شاكر ـ (٥/ ٢٨٢)، مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه. قال أحمد شاكر: «إسنادُه صحيحٌ»، وجوَّد إسنادَه ابنُ كثيرٍ في «البداية والنهاية» (١/ ٤٤)].

ـ وفي حديثِ أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ للهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ»، قَالَ: «فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» [أخرجه البخاريُّ في «الدَّعَوات» (١١/ ٢٠٨) بابُ فضلِ ذِكْرِ الله عزَّ وجلَّ، ومسلمٌ في «الذِّكْرِ والدعاء والتوبة» (١٧/ ١٤) بابُ فضلِ مَجالِسِ الذِّكْر].

ـ وفي حديثِ صَفْوانَ بنِ عَسَّالٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ» [أخرجه أحمد في «مسنده» (٤/ ٢٣٩). والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «الجامع الصغير» (٢/ ١٦٦) رقم: (١٩٥٢)].

أمَّا صورةُ خِلْقَتِهم فجميلةٌ وكريمةٌ على عَكْسِ صورةِ الشياطين، قال اللهُ ـ تعالى ـ عن جبريلَ عليه السلام: ﴿ذُو مِرَّةٖ فَٱسۡتَوَىٰ ٦[النجم]، أي: قويٌّ وحَسَنُ المنظر، وقال ـ تعالى ـ في حَقِّ يوسفَ عليه السلام لمَّا رأَتْه النسوةُ: ﴿فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ ٣١[يوسف]، ولا يَزال الناسُ يُشبِّهون الجميلَ مِنَ البشرِ بالمَلَكِ.

ثالثًا: عدَمُ حاجةِ الملائكة للأكل والشرب والنكاح:

والملائكة لا يحتاجون إلى طعامٍ ولا شرابٍ ولا نكاحٍ؛ لأنَّ أجسامهم مُركَّبةٌ تركيبًا لا يقبل الطعامَ والشراب وغيرَهما، بخلافِ الجنِّ والإنس، وهو أَمْرٌ أَطْبَقَ عليه العلماءُ، وقد نَقَلَ الفخرُ الرازيُّ ـ رحمه الله ـ هذا الإجماعَ في [تفسيره «مفاتيح الغيب» (١/ ٩٠)] بما نصُّه: «اتَّفقوا على أنَّ الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا يَنْكِحون، .. وأمَّا الجنُّ والشياطين فإنهم يأكلون ويشربون، .. وأيضًا فإنهم يتوالدون»، ونَقَلَ السيوطيُّ ـ رحمه الله ـ في [«الحبائك» (٢٦٤)] عنه ذلك ـ أيضًا ـ.

ويدلُّ على ذلك ما أَخْبَرَ اللهُ به مِنْ أنَّ الملائكة الذين دخلوا على إبراهيمَ عليه السلام في صورةِ بَشَرٍ لمَّا رأى أَيْدِيَهم لم تَمْتَدَّ إلى الطعام الذي قدَّمه لهم أَوْجَسَ منهم خيفةً فطَمْأَنُوه بالكشف عن حقيقتهم، قال ـ تعالى ـ: ﴿هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ ٢٤ إِذۡ دَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَقَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞ قَوۡمٞ مُّنكَرُونَ ٢٥ فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ فَجَآءَ بِعِجۡلٖ سَمِينٖ ٢٦ فَقَرَّبَهُۥٓ إِلَيۡهِمۡ قَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ ٢٧ فَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ ٢٨[الذاريات]، وقال في آيةٍ أخرى: ﴿فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۚ قَالُواْ لَا تَخَفۡ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطٖ ٧٠[هود].

رابعًا: قدرة الملائكة على التشكُّل والتمثُّل:

مَنَحَ اللهُ ـ تعالى ـ الملائكةَ قدرةً على التشكُّل بغيرِ أشكالهم التي خُلِقوا عليها، والتصوُّرِ بغيرِ طبيعتهم الأصلية، وقَدْ وَرَدَتْ نصوصٌ شرعيةٌ كثيرةٌ تدلُّ على قدرة الملائكة في التمثُّل للأنبياء وغيرِ الأنبياء، وتارةً بصورةٍ جميلةٍ وأخرى غيرِ جميلةٍ، وأنها لا تتمثَّل إلَّا في صورة الذكور فقط؛ فمِنْ ذلك إرسالُ اللهِ ـ تعالى ـ إلى إبراهيم عليه السلام ملائكةً في صورةِ بَشَرٍ لم يعرفهم حتَّى كشفوا عن أَنْفُسهم، قال ـ تعالى ـ: ﴿هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ ٢٤ إِذۡ دَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَقَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞ قَوۡمٞ مُّنكَرُونَ ٢٥[الذاريات]، ثمَّ حَلُّوا ضيوفًا على لوطٍ عليه السلام فضَاقَ صَدْرُه وخافَ عليهم مِنْ قومِه الفاحشةَ والأذى حيث جاؤوه «في صورةِ شبابٍ حِسانٍ امتحانًا واختبارًا حتَّى قامَتْ على قومِ لوطٍ الحجَّةُ وأخَذَهم اللهُ أَخْذَ عزيزٍ مُقْتدِرٍ» [«البداية والنهاية» لابن كثير (١/ ٤٠)]، وقال تعالى ـ أيضًا ـ: ﴿وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ ٧٧ وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ ٧٨[هود].

ومِنْ ذلك إرسالُ اللهِ ـ تعالى ـ جبريلَ الروحَ الأمينَ إلى مريمَ عليها السلام وتَمَثُّلُه بصورةِ البشرِ، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَرۡيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتۡ مِنۡ أَهۡلِهَا مَكَانٗا شَرۡقِيّٗا ١٦ فَٱتَّخَذَتۡ مِن دُونِهِمۡ حِجَابٗا فَأَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرٗا سَوِيّٗا ١٧ قَالَتۡ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّٗا ١٨ قَالَ إِنَّمَآ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَٰمٗا زَكِيّٗا ١٩[مريم].

وقد تتشكَّلُ الملائكةُ لغيرِ الأنبياء كما في قصَّةِ مريمَ عليها السلامُ المتقدِّمةِ، أو كما في حديثِ قصَّةِ الأبرصِ والأقرع والأعمى مِنْ بني إسرائيلَ الذين أراد اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فبَعَثَ إليهم مَلَكًا في صورةِ بَشَرٍ، [أخرجه البخاريُّ في «أحاديث الأنبياء» (٦/ ٥٠٠) بابُ حديثِ أَبْرَصَ وأَعْمَى وأَقْرَعَ في بني إسرائيل، ومسلمٌ في «الزهد» (١٨/ ٩٧)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه]، والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ اكتفيتُ بإيرادِ بعضِها.

خامسًا: عِلْمُ الملائكةِ وكلامُهم وانتفاءُ المَلَلِ عنهم.

للملائكة علمٌ وفيرٌ، يعلمون الأشياءَ بالتلقِّي المُباشِرِ مِنَ الله ـ تعالى ـ بخلافِ الإنسان الذي يُميِّزُه اللهُ بقدرةِ التعرُّف على الأشياء واكتشافِ سنن الكون، ومِنَ العلم الذي علَّمَه اللهُ إيَّاهم عِلْمُ الكتابةِ كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنَّ عَلَيۡكُمۡ لَحَٰفِظِينَ ١٠ كِرَامٗا كَٰتِبِينَ ١١ يَعۡلَمُونَ مَا تَفۡعَلُونَ ١٢[الانفطار].

ومِنْ صفاتِ الملائكة الذاتيةِ: الكلامُ، وهو صفةٌ مُلازِمةٌ لهم ولو في حالِ تَمَثُّلهم بصورة الآدميِّ، ويتكلَّمون بكلامٍ مسموعٍ، يفهمون ويعقلون ـ كما تَقَدَّمَ ـ ويُكلِّمُ بعضُهم بعضًا، ويُكَلِّمون الناسَ بحَسَبِ لُغاتِهم مِنْ غيرِ حاجةٍ إلى ترجمانٍ في الدنيا، كما يسألونهم في قبورهم أو عند البشارة والنذارة يومَ القيامة، ويُسلِّمون على أهل الجنَّة ويُبشِّرون أهلَ النارِ بالعذاب، ويُكلِّمون الفريقين بحَسَبِ مَقامِهم في الجنَّة أو النار؛ ويدلُّ على ذلك نصوصٌ كثيرةٌ نكتفي منها بقوله ـ تعالى ـ: ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٣٠[البقرة]، وقولِه ـ تعالى ـ: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ ٢٣[سبأ].

والملائكة عليهم السلام يعبدون ربَّهم ويطيعونه ويُنفِّذون أوامِرَه بلا ضعفٍ ولا تَعَبٍ ولا كَلَلٍ ولا مَلَلٍ، وقَدْ وَصَفَهم اللهُ ـ تعالى ـ بأنهم: ﴿يُسَبِّحُونَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفۡتُرُونَ ٢٠[الأنبياء]، أي: لا يَضْعُفون، وقال تعالى ـ أيضًا ـ: ﴿فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُۥ بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمۡ لَا يَسۡ‍َٔمُونَ۩ ٣٨[فُصِّلَتْ]، أي: لا يَمَلُّون.

هذه ـ في الجملةِ ـ الصفاتُ الخَلْقيةُ للملائكة عليهم السلام، والمصنِّفُ ـ رحمه الله ـ لم يتعرَّضْ للصفاتِ الخُلُقية التي تَتَّصِفُ بها الملائكةُ إلَّا مِنْ جهةِ بعضِ الآيات التي استدلَّ بها ـ رحمه الله ـ، ويمكن أَنْ نُجْمِلَ الصفاتِ الخُلُقيةَ فيما يلي:

أوَّلًا: صفة الكرم والبِرِّ: فالملائكةُ جامعون لأنواع الخير والشرف والفضل، مُحْسِنون في عباداتهم، مُطيعون ربَّهم، لا يَعْصون ربَّهم فيما أَمَرَهم ويفعلون ما يُؤْمَرون، مُحِبُّون لأهل الإيمان والتوحيد ومُحْسِنون لهم بدُعائهم واستغفارِهم لهم وشفاعتِهم لأهل التوحيد يومَ القيامة ونحوِ ذلك.

ويدلُّ على تلك الصفاتِ: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ ٢٦ لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ ٢٧[الأنبياء]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿بِأَيۡدِي سَفَرَةٖ ١٥ كِرَامِۢ بَرَرَةٖ ١٦[عَبَسَ: ١٥ ـ ١٦]، أي: القرآن الكريم بأيدي الملائكة لأنهم سُفَرَاءُ اللهِ إلى رُسُله وأنبيائه، ووَصَفَ اللهُ ـ تعالى ـ هؤلاءِ الملائكةَ بأنهم كِرامٌ بَرَرَةٌ، «أي: خَلْقُهم كريمٌ حَسَنٌ شريفٌ، وأخلاقُهم وأفعالهم بارَّةٌ طاهرةٌ كاملةٌ» [«تفسير ابنِ كثير» (٤/ ٤٧١)]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ ـ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ ـ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ ـ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ ـ لَهُ أَجْرَانِ» [رواهُ البخاريُّ في «التفسير» (٨/ ٦٩١)، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين وقَصْرِها» (٦/ ٨٤) بابُ حافِظِ القرآن، وأحمد في «مسنده» (٦/ ٤٨)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها، واللفظُ لأحمد].

ثانيًا: صفة الحياء: ومِنْ خُلُقِ الملائكةِ: تَمَتُّعُهم بالحياء الذي يمنع صاحِبَه مِنْ ركوبِ الآثام واقترافِ المعاصي والذنوب، والحياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمان؛ ويدلُّ على اتِّصافِهم بخُلُقِ الحياءِ ما رواهُ مسلمٌ عن عائشة رضي الله عنها، وفيه أنها قالت للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «.. ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ؟» فَقَالَ: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ المَلَائِكَةُ» [أخرجه مسلمٌ في «فضائل الصحابة» (١٥/ ١٦٨) بابُ فضائلِ عثمانَ رضي الله عنه].

قال النوويُّ ـ رحمه الله ـ في [«شرح مسلم» (١٥/ ١٦٩)]: «وفيه فضيلةٌ ظاهرةٌ لعثمانَ، وجلالتُه عند الملائكةِ، وأنَّ الحياءَ صفةٌ جميلةٌ مِنْ صفات الملائكة».

ثالثًا: صفة التواضع للحقِّ والخَلْق: ومِنْ خُلُقِ الملائكة الكِرامِ اتِّصافُهم بالتواضع للحقِّ والخَلْقِ دون تكبُّرٍ أو استعلاءٍ؛ ويدلُّ عليه قولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَلَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسۡتَحۡسِرُونَ ١٩[الأنبياء]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيُسَبِّحُونَهُۥ وَلَهُۥ يَسۡجُدُونَۤ۩ ٢٠٦[الأعراف]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا ١٧٢[النساء].

ومِنْ تَواضُعِهم للخَلْقِ: محبَّتُهم لعِبادِ الله ودُعاؤُهم واستغفارُهم لهم والإحسانُ إليهم ـ كما سيأتي ـ [انظر: (ص )].

(٥) بعد ذِكْرِ صفةِ الملائكة الخَلْقيةِ شَرَعَ المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ في بيانِ الحكمةِ مِنْ خَلْقِ الملائكة وما وَكَّلَهم اللهُ به مِنْ أعمالٍ عِظامٍ يقومون بها تعبُّدًا لله ـ تعالى ـ:

فالحكمةُ مِنْ خَلْقِ الملائكةِ الكِرامِ هي عِبادةُ الله ـ سبحانه ـ؛ فهُمْ عبيدُه كسائرِ الخَلْقِ، أَكْرَمهم اللهُ بعبادته وطاعتِه، وحَفِظَهم اللهُ بفعلِ المأمور وعَصَمَهم مِنْ ركوب المحظور، وفَطَرَهم على العبادات الموكولةِ إليهم وجَبَلَهم عليها؛ فهُمْ مُيسَّرون للطاعات مطبوعون عليها، لا يَعْصُون أَمْرَ اللهِ ولا يُخالِفونه، ويفعلون ما يأمرهم به مُطيعين مُسْتجيبين؛ وبذلك يستقيم أَمْرُ العالَمِ العلويِّ والسفليِّ، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ ٢٦ لَا يَسۡبِقُونَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ وَهُم بِأَمۡرِهِۦ يَعۡمَلُونَ ٢٧ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ ٢٨ ۞وَمَن يَقُلۡ مِنۡهُمۡ إِنِّيٓ إِلَٰهٞ مِّن دُونِهِۦ فَذَٰلِكَ نَجۡزِيهِ جَهَنَّمَۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّٰلِمِينَ ٢٩[الأنبياء]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ٦[التحريم].

هذا، وقد دلَّتِ النصوصُ الشرعيةُ على أنَّ عبادةَ الملائكةِ أنواعٌ: فمنها عباداتٌ محضةٌ، وعباداتٌ أخرى مُتمثِّلةٌ في أعمالٍ عِظامٍ تَتوافَقُ مع ما وَهَبَهم اللهُ مِنْ فائقِ القوَّةِ الجسدية ـ التي يتمتَّعون بها ـ ما لا يطيقها الآدميُّ، لا تنقطع أعمالُهم بانقطاع الدنيا وانتهائها ـ كما هو شأنُ الجنِّيِّ والإنسيِّ ـ بل تبقى أعمالُ الملائكةِ مُسْتمِرَّةً يومَ القيامةِ ـ كما سيأتي إيضاحُه ـ [انظر: (ص )].

أوَّلًا: عبادات الملائكة المحضة:

أمَّا العبادات المحضةُ التي يَتعبَّد بها الملائكةُ ربَّهم فتنقسم إلى:

أ. عباداتٍ قلبيةٍ: فمنها: الخوفُ والخشية؛ فالملائكة الكِرامُ على علمٍ كبيرٍ بربِّهم وعلى قَدْرٍ كبيرٍ مِنْ تعظيمه لقُرْبِهم منه؛ لذلك كانَتْ قلوبُهم خائفةً وَجِلةً منه، وخاشيةً مُشْفِقةً، قال اللهُ ـ تعالى ـ مُخْبِرًا عن حالِ ملائكته: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ[النحل: ٥٠]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ[سبأ: ٢٣]، وقال تعالى ـ أيضًا ـ: ﴿يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يَشۡفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرۡتَضَىٰ وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ ٢٨[الأنبياء]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ مِنۡ خِيفَتِهِۦ[الرعد: ١٣].

وممَّا يدلُّ ـ مِنَ السنَّةِ ـ على شدَّةِ خوفِ الملائكة مِنْ ربِّهم:

ـ حديثُ جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِالمَلَإِ الأَعْلَى وَجِبْرِيلُ كَالحِلْسِ البَالِي مِنْ خَشْيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» [أخرجه الطبرانيُّ في «المعجم الأوسط» (٥/ ٦٤)، وابنُ أبي عاصمٍ في «السنَّة» (١/ ٢٧٦). والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «ظلال الجنَّة» (١/ ٢٧٦) وفي «السلسلة الصحيحة» (٥/ ٣٦٢)].

ـ وعن عبد الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: «إِذَا تَكَلَّمَ بِالوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَلْصَلَةً كَصَلْصَلَةِ الحَدِيدِ عَلَى الصَّفْوَانِ؛ فَيَفْزَعُونَ فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا وَظَنُّوا أَنَّهُ أَمْرُ السَّاعَةِ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ تَنَادَوْا: «مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟» قَالُوا: «الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ»» [أخرجه أبو داود في «السنَّة» (٥/ ١٠٥) بابٌ في القرآن، مرفوعًا، وعلَّقه البخاريُّ في «التوحيد» (١٣/ ٤٥٢) بابُ قولِ الله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ..[سبأ: ٢٣] موقوفًا، واللفظُ لأبي الشيخ في «العظمة» (٢/ ٤٦٤). وإسنادُه صحيحٌ، قال الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٣/ ٢٨٣): «والموقوف ـ وإِنْ كان أَصَحَّ مِنَ المرفوع؛ ولذلك علَّقه البخاريُّ في «صحيحه» (٩/ ١١٣) (مطبعة الفجالة) ـ فإنه لا يُعِلُّ المرفوعَ؛ لأنه لا يُقالُ مِنْ قِبَلِ الرأيِ كما هو ظاهرٌ، لاسيَّما وله شاهدٌ مِنْ حديثِ أبي هريرة مرفوعًا نحوَه»].

ب. عباداتٍ قوليةٍ:

منها الذِّكْرُ والتسبيح والاستغفار والدعاء؛ فالملائكة الكِرامُ يذكرون اللهَ كثيرًا، وأَفْضَلُ ذِكْرِهم تسبيحُ اللهِ ـ تعالى ـ، وهو تسبيحٌ دائمٌ غيرُ مُتوقِّفٍ ولا مُنْقطِعٍ، ولا يَلْحَقهم في تسبيحهم لله مَلَلٌ ولا كَلَلٌ ولا سآمةٌ؛ ويدلُّ على ذلك نصوصٌ كثيرةٌ منها: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرۡنَ مِن فَوۡقِهِنَّۚ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِمَن فِي ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَآ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٥[الشورى]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ[البقرة: ٣٠]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَلَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَنۡ عِندَهُۥ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَلَا يَسۡتَحۡسِرُونَ ١٩ يُسَبِّحُونَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفۡتُرُونَ ٢٠[الأنبياء]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿فَإِنِ ٱسۡتَكۡبَرُواْ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُۥ بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمۡ لَا يَسۡ‍َٔمُونَ۩ ٣٨[فُصِّلَتْ].

وقد يأتي التسبيحُ مقرونًا بالدعاء لأهل الأرض والاستغفارِ لهم كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَيۡءٖ رَّحۡمَةٗ وَعِلۡمٗا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ ٧ رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٨ وَقِهِمُ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِۚ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ يَوۡمَئِذٖ فَقَدۡ رَحِمۡتَهُۥۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٩[غافر]؛ ولذلك سُمُّوا بالمُسَبِّحين لكثرةِ تسبيحهم ولحُبِّهم له كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّآفُّونَ ١٦٥ وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ ١٦٦[الصافَّات]؛ فاللهُ ـ سبحانه ـ اختارَ لهم أَفْضَلَ الذِّكْرِ وأحَبَّ الكلامِ إليه.

ـ فعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: «أَيُّ الكَلَامِ أَفْضَلُ؟» قَالَ: «مَا اصْطَفَى اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ» [أخرجه مسلمٌ في «الذِّكْر والدعاء والتوبة والاستغفار» (١٧/ ٤٨) بابُ فضلِ: «سبحان اللهِ وبحَمْدِه»].

ـ وفي حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ» [أخرجه البخاريُّ في «التوحيد» (١٣/ ٥٣٧) بابُ قولِ الله ـ تعالى ـ: ﴿وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ[الأنبياء: ٤٧]، ومسلمٌ في «الذِّكْر والدعاء والتوبة والاستغفار» (١٧/ ١٩) بابُ فضلِ التهليل والتسبيح والدعاء].

ومِنَ العبادات القوليةِ ـ أيضًا ـ: دعاءُ الملائكةِ الكِرامِ لجميعِ المؤمنين دعاءً عامًّا بالخير والرحمة والهداية إلى النور مع الاستغفار لهم؛ قال ـ تعالى ـ: ﴿هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيۡكُمۡ وَمَلَٰٓئِكَتُهُۥ لِيُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَحِيمٗا ٤٣[الأحزاب]، والمرادُ بالصلاةِ مِنَ الملائكة هو: بمعنى الدعاءِ للناسِ والاستغفارِ لهم، [انظر: «تفسير القرطبي» (١٤/ ١٩٨)، «تفسير ابنِ كثير» (٣/ ٤٩٦)].

كما أنَّ الملائكة الكِرامَ تدعو للمؤمنين بالخير والرحمةِ دعاءً خاصًّا لأصحاب الأعمال الصالحة:

ـ كدُعائهم لطالبِ العلم ومُعلِّمِه؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ» [أخرجه الترمذيُّ في «العلم» (٥/ ٥٠) بابُ ما جاء في فضلِ الفقه على العبادة، مِنْ حديثِ أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الترمذي» برقم: (٢٦٨٥)].

وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «.. وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالحِيتَانُ فِي جَوْفِ المَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ..» الحديث [أخرجه أبو داود في «العلم» (٤/ ٥٧) بابُ الحثِّ على طلبِ العلم، والترمذيُّ في «العلم» (٥/ ٤٨) بابُ ما جاء في فضلِ الفقه على العبادة، وابنُ ماجه في «المقدِّمة» (١/ ٨١) بابُ فضلِ العلماء والحثِّ على طلبِ العلم، مِنْ حديثِ أبي الدرداء رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الترمذي» (٢٦٨٢)].

ـ ودعاء الملائكة الكِرامِ لمُنْتظِرِ الصلاةِ في المسجد ولِلَّذين يَصِلُون الصفوفَ ويَسُدُّون الفُرَجَ ودعاؤهم للصفوف الأولى؛ ويدلُّ على ذلك قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «المَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ»» [أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» (١/ ٥٣٨) بابُ الحَدَثِ في المسجد، ومسلمٌ في «المساجد ومَواضِعِ الصلاة» (٥/ ١٦٦) بابُ فضلِ صلاة الجماعة وانتظارِ الصلاة، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه].

وفي روايةٍ أخرى أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَا يَزَالُ العَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي مُصَلَّاهُ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، وَتَقُولُ المَلَائِكَةُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ» حَتَّى يَنْصَرِفَ أَوْ يُحْدِثَ» [أخرجه مسلمٌ في «المساجد» (٥/ ١٦٦) بابُ فضلِ الصلاة المكتوبة في الجماعة، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه].

ـ وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ، وَمَنْ سَدَّ فُرْجَةً رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً» [أخرجه ابنُ ماجه في «إقامة الصلاة» (١/ ٣١٨) بابُ إقامة الصفوف، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها. وإسنادُه صحيحٌ، انظر: «السلسلة الصحيحة» (٦/ ١/ ٧٢) رقم: (٢٥٣٢) و«صحيح ابنِ ماجه» (١/ ٢٩٦) رقم: (٨٢١) كلاهما للألباني].

ـ وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ» [أخرجه ابنُ ماجه في «إقامة الصلاة» (١/ ٣١٩) بابُ فضلِ الصفِّ المتقدِّم، مِنْ حديثِ البَراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنهما. انظر: «صحيح ابنِ ماجه» (١/ ٢٩٧) رقم: (٨٢٣)]. وفي روايةِ أبي داود: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الأُوَلِ» [أخرجها أبو داود في «الصلاة» (١/ ٤٣٢) مِنْ حديثِ البَراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنهما. انظر: «صحيح أبي داود» للألباني (١/ ١٩٧) رقم: (٦٦٤)].

ومِنَ الأعمال الصالحةِ التي تدعو الملائكةُ الكِرامُ بالخير لمَنْ عَمِلَها: المُنْفِقُ مالَه في سبيل الله، والمتسحِّرُ، والمصلِّي على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومَنْ عادَ مريضًا. ويدلُّ على ذلك:

ـ قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا»، وَيَقُولُ الآخَرُ: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»» [أخرجه البخاريُّ في «الزكاة» (٣/ ٣٠٤) بابُ قولِ الله ـ تعالى ـ: ﴿فَأَمَّا مَنۡ أَعۡطَىٰ وَٱتَّقَىٰ ٥..[الليل]، ومسلمٌ في «الزكاة» (٧/ ٩٥) باب: كُلُّ نوعٍ مِنَ المعروف صدقةٌ، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه].

ـ وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى المُتَسَحِّرِينَ» [أخرجه الطبرانيُّ في «المعجم الأوسط» (٦/ ٢٨٧)، وابنُ حِبَّان في «صحيحه» ـ موارد الظمآن ـ (٢٢٢)، وأبو نُعَيمٍ في «حلية الأولياء» (٨/ ٣٢٠)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما. والحديث حسَّنه الألبانيُّ بمجموعِ طُرُقه، انظر: «السلسلة الصحيحة» (٤/ ٢١٢) رقم: (١٦٥٤)].

ـ وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلَائِكَةُ مَا صَلَّى عَلَيَّ؛ فَلْيُقِلَّ العَبْدُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِيُكْثِرْ» [أخرجه ابنُ ماجه في «إقامة الصلاة» (١/ ٢٩٤) بابُ الصلاةِ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، مِنْ حديثِ عامِرِ بنِ ربيعةَ رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «صحيح ابنِ ماجه» (١/ ٢٧٣) رقم: (٧٤٩)].

ـ وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا عَادَ الرَّجُلُ أَخَاهُ المُسْلِمَ مَشَى فِي خِرَافَةِ الجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِنْ كَانَ غُدْوَةً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ كَانَ مَسَاءً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ» [أخرجه أبو داود في «الجنائز» (٣/ ٤٧٥) بابٌ في فضلِ العيادة، وابنُ ماجه في «الجنائز» (١/ ٤٦٣) بابُ ما جاء في ثوابِ مَنْ عادَ مريضًا، وأحمد في «مسنده» (١/ ٨١)، مِنْ حديثِ عليٍّ رضي الله عنه. والحديث إسنادُه صحيحٌ. انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (٣/ ٣٥٣) رقم: (١٣٦٧)].

فالحاصل: أنَّ عباداتِ الملائكةِ الكِرامِ القوليةَ كثيرةٌ تتمثَّل في: الذِّكْرِ والتسبيح والاستغفار والدعاء ـ أيضًا ـ والتأمينِ والسلام واللعنِ ونحوِ ذلك، وذِكْرُ بعضِها يُنْبِئُ عن كُلِّها، وإلَّا ففي هذا الموضوعِ أحاديثُ كثيرةٌ أخرى ثابتةٌ، المَقامُ لا يَسَعُ ذِكْرَها جميعًا.

ج. عباداتٍ فعليةٍ: منها: الصلاةُ وهيئاتُها مِنْ قيامٍ واصطفافٍ وركوعٍ وسجودٍ.

وقد تَقَدَّمَ أنَّ المراد بالصلاة مِنَ الملائكةِ: الدعاءُ إذا تَعَلَّقَ بالأذكار، وهي الصلاةُ العامَّةُ، أمَّا الصلاةُ الخاصَّةُ بهم فهي في البيت المعمور، لا تأتي بها الملائكةُ فعلًا إلَّا مرَّةً واحدةً، لا يَعْلَمُ حقيقتَها ولا كيفيَّتَها، ولا يُحْصي عدَدَهم إلَّا خالِقُهم، وقد صحَّ ذلك في «حديثِ الإسراء»: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «.. فَرُفِعَ لِي البَيْتُ المَعْمُورُ، فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ: «هَذَا البَيْتُ المَعْمُورُ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ»» [أخرجه البخاريُّ في «بدء الخَلْق» (٦/ ٣٠٢) بابُ ذِكْرِ الملائكة، ومسلمٌ في «الإيمان» (٢/ ٢٠٩) بابُ الإسراءِ برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه].

ومِنْ هيئات الصلاة الخاصَّةِ بالملائكة في مَقامِ العبادة: القيامُ والاصطفافُ للصلاة؛ فقَدْ أَقْسَمَ اللهُ بالملائكة الصافَّاتِ بين يديه ـ سبحانه وتعالى ـ؛ فهي تَقِفُ في السماء صفوفًا في العبادة والطاعةِ كصفوف الخَلْق في الدنيا، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَٱلصَّٰٓفَّٰتِ صَفّٗا ١[الصافَّات]، كما يدلُّ عليه ما حَكَاهُ اللهُ عنهم بقوله: ﴿وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّآفُّونَ ١٦٥[الصافَّات].

وهذا المعنى مِنَ القيام والاصطفافِ جاء مبيَّنًا في حديثِ حُذَيْفةَ بنِ اليَمانِ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ المَلَائِكَةِ..» الحديث [أخرجه مسلمٌ في «المساجد ومَواضِعِ الصلاة» (٥/ ٤)].

وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ المَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟» فَقُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ تَصُفُّ المَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟» قَالَ: «يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» [أخرجه مسلمٌ في «الصلاة» (٤/ ١٥٢) باب السكون في الصلاة، مِنْ حديثِ جابر بنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما].

وفي الحديث دلالةٌ واضحةٌ على أنَّ صفوف الملائكةِ في الصلاة تكون بهذه الصفةِ، [انظر: «شرح مسلم» للنووي (٤/ ١٥٤)، «فتح الباري» لابن رجب (٦/ ٢٦٨)].

ومِنْ هيئات صلاةِ الملائكة ـ أيضًا ـ: الركوعُ والسجودُ، ويدلُّ عليه قولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن دَآبَّةٖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ ٤٩[النحل]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيُسَبِّحُونَهُۥ وَلَهُۥ يَسۡجُدُونَۤ۩ ٢٠٦[الأعراف]. ومِنَ السنَّة:

ـ حديثُ العَلاءِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال يومًا لجُلَسائِه: «هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟» قَالُوا: «وَمَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللهِ؟» قَالَ: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ؛ إِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ، وَقَالَتِ المَلَائِكَةُ: ﴿وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّآفُّونَ ١٦٥ وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ ١٦٦[الصافَّات]» [أخرجه محمَّد بنُ نصرٍ المروزيُّ في «تعظيم الصلاة» (١/ ٢٦١)].

ـ وحديثُ حكيمِ بنِ حِزامٍ رضي الله عنه قال: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ: «تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟» قَالُوا: «مَا نَسْمَعُ مِنْ شَيْءٍ»، قَالَ: «إِنِّي لَأَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءِ، وَمَا تُلَامُ أَنْ تَئِطَّ؛ وَمَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ»» [أخرجه الطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (٣/ ٢٠)، وأبو نُعَيْمٍ في «الحلية» (٢/ ٢١٧)، والبزَّار في «مسنده» (٨/ ١٧٧)، والطحاويُّ في «مُشْكِل الآثار» (٣/ ١٦٧). والحديث إسنادُه صحيحٌ، انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (٢/ ٣٥١) رقم: (٨٥٢)].

وهذه النصوصُ المتقدِّمةُ تدلُّ على مَقاماتِ عبادةِ الملائكة عند ربِّها؛ فما مِنْ مَلَكٍ في السماوات إلَّا له مَوْضِعٌ معلومٌ ومَقامٌ مخصوصٌ يَتعبَّد فيه لله ـ تعالى ـ على ما أَمَرَه به ربُّه لا يَتجاوَزُه ولا يَتعدَّاه، وهو المعنى الذي حَكَاهُ ربُّ العِزَّةِ والجلالِ عنهم بقوله: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلَّا لَهُۥ مَقَامٞ مَّعۡلُومٞ ١٦٤ وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّآفُّونَ ١٦٥ وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ ١٦٦[الصافَّات].

ثانيًا: أعمال الملائكة الكرام:

فقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ الله ـ تعالى ـ خَلَقَ الملائكةَ ووَكَلَ لهم القيامَ بأعمالٍ عِظامٍ في مُخْتَلَفِ شئون الخَلْقِ وتدبيرِ الكون المُشاهَدِ وغيرِ المُشاهَدِ تعبُّدًا لله ـ تعالى ـ بطاعته؛ فتلك الأعمالُ تَتناسَبُ مع ما وَهَبَهم اللهُ مِنْ قوَّةٍ جسديةٍ فائقةٍ، ولهم ـ إِذَنْ ـ أعمالٌ تَتعلَّقُ بالكون أي: العالَمِ العلويِّ والسفليِّ، وأعمالٌ أخرى تَتعلَّقُ بالإنسان باعتباره آدَميًّا.

(١) ـ أعمال الملائكةِ المتعلِّقةُ بالكون:

ويمكن أَنْ نُعَدِّدَ ـ باختصارٍ ـ بعضَ أعمال الملائكة الكِرامِ فيما يُوكَل إليهم في مُخْتَلَفِ شئون العالَمِ العلويِّ والسفليِّ، سواءٌ في الدنيا وما نُشاهِدُه، أو فيما يَغيب عنَّا مِنْ أمور الدنيا والآخرة، فمِنْ ذلك:

أ ـ الملائكة الموكَّلون بحملِ العرش (حَمَلة العرش):

فاللهُ ـ تعالى ـ خَلَقَ ملائكةً مِنْ جملةِ خَلْقِه يحملون عَرْشَه، وآخَرين حول عَرْشِه، وَصَفَهم اللهُ ـ تعالى ـ بالتسبيحِ بحمده والدعاءِ لمَنْ في الأرض بقوله ـ تعالى ـ: ﴿ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَيۡءٖ رَّحۡمَةٗ وَعِلۡمٗا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ ٧[غافر].

وحَمَلةُ العرشِ ـ مِنْ حيث عدَدُهم ـ على اختلافٍ، وهُمْ ثمانيةُ ملائكةٍ يومَ القيامةِ لظاهِرِ قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَٱلۡمَلَكُ عَلَىٰٓ أَرۡجَآئِهَاۚ وَيَحۡمِلُ عَرۡشَ رَبِّكَ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ ثَمَٰنِيَةٞ ١٧[الحاقَّة].

ب ـ ملائكةٌ موكَّلون بالجنَّة والنار (خَزَنَةُ الجنَّة والنار):

ـ أمَّا خَزَنةُ الجنَّة فهُمْ ملائكةٌ مُوكَّلون بالجنَّة يَعْمُرُونها ويُعِدُّونها لأهلها، ويتلقَّوْنَ المؤمنين بالتحيَّة عند دخولهم الجنَّةَ، والتهنئةِ على ما حَصَلَ لهم مِنَ الله مِنَ التقريب والإنعام والإقامة في دار السلام؛ ويدلُّ على ذلك: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَا سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمۡ طِبۡتُمۡ فَٱدۡخُلُوهَا خَٰلِدِينَ ٧٣[الزُّمَر]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَدۡخُلُونَ عَلَيۡهِم مِّن كُلِّ بَابٖ ٢٣ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ ٢٤[الرعد].

ـ وأمَّا خَزَنةُ النار فهُمْ ملائكةٌ مُوكَّلون بالنار يتلقَّوْنَ الكافرين بالتبشير بها حالَ دخولهم لها، ويلومونهم على تَرْكِهم لطاعةِ الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتۡ أَبۡوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمۡ خَزَنَتُهَآ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَتۡلُونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِ رَبِّكُمۡ وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنۡ حَقَّتۡ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٧١ قِيلَ ٱدۡخُلُوٓاْ أَبۡوَٰبَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ فَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِينَ ٧٢[الزُّمَر]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ٱلۡغَيۡظِۖ كُلَّمَآ أُلۡقِيَ فِيهَا فَوۡجٞ سَأَلَهُمۡ خَزَنَتُهَآ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَذِيرٞ ٨ قَالُواْ بَلَىٰ قَدۡ جَآءَنَا نَذِيرٞ فَكَذَّبۡنَا وَقُلۡنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ كَبِيرٖ ٩[المُلْك]، ونحوهما مِنَ الآيات.

وهؤلاء ملائكةُ العذابِ لهم صفاتُ الغلظةِ وطباعُ الشدَّةِ والمنظرُ المُخيفُ الذي يَليقُ بأهل النار ويبعث في نفوسهم الحزنَ العميقَ والخوفَ الشديدَ، وهُمْ تسعةَ عَشَرَ مَلَكًا لقوله تعالى: ﴿عَلَيۡهَا تِسۡعَةَ عَشَرَ ٣٠[المدَّثِّر]، ومعهم خَلْقٌ لا يُحْصيهم إلَّا اللهُ ـ تعالى ـ ﴿وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ[المدَّثِّر: ٣١]، وقال الله ـ تعالى ـ عن صفاتِهم الغليظة: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ٦[التحريم].

ج ـ ملائكةٌ مُوكَّلون بالجبال والقَطْر والنبات والأرزاق:

فقَدْ تَقدَّمَ أنَّ الله أَرْسَلَ مَلَكَ الجبالِ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَسْتَأْمِرُه ليُطْبِقَ على أهلِ مكَّةَ الأخشبين، [انظر: (ص)]، كما أنَّ الله ـ تعالى ـ وكَّل بالسحاب والقَطْرِ ملائكةً تزجر السحابَ وتَسوقُه إلى الأرض التي أَمَرَهم اللهُ بها، فتسقي أرضًا دون أرضٍ وبلدًا دون بلدٍ، وهُمُ المَعْنِيُّون بقوله ـ تعالى ـ: ﴿فَٱلزَّٰجِرَٰتِ زَجۡرٗا ٢[الصافَّات][انظر: «تفسير ابنِ كثير» (٤/ ٢)، «فتح القدير» للشوكاني (٤/ ٣٨٦)]، وقد ثَبَتَ مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم سُئِلَ عن الرعد فقال: «مَلَكٌ مِنَ المَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، مَعَهُ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ اللهُ» فَقَالُوا: «فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي نَسْمَعُ؟» قَالَ: «زَجْرُهُ بِالسَّحَابِ إِذَا زَجَرَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَيْثُ أُمِرَ» [أخرجه الترمذيُّ في «تفسير القرآن» (٥/ ٢٩٤) باب: ومِنْ سورة الرعد، وأحمد في «مسنده» ـ ط. شاكر ـ (٤/ ١٦١)، والطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (١٢/ ٤٥) وفي «الدعاء» (٣٠٥)، وأبو الشيخ في «العظمة» (٤/ ١٢٧٩). قال أحمد شاكر: «إسنادُه صحيحٌ»، وحسَّنه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٤/ ٤٩١) رقم: (١٨٧٢)].

وميكائيلُ مُوكَّلٌ بالقَطْر والنبات، وقد جاء التصريحُ به في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم سأل جبريلَ: «عَلَى أَيِّ شَيْءٍ مِيكَائِيلُ؟» قَالَ: «عَلَى النَّبَاتِ وَالقَطْرِ» [أخرجه ابنُ أبي شيبة في «العرش وما رُوِي فيه» (٤٦٢)، والطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (١١/ ٣٧٩)، وأبو الشيخ في «العظمة» (٢/ ٧٠١)، والبيهقيُّ في «شُعَب الإيمان» (١/ ٣١٥). وإسنادُه صحيحٌ لشواهده، انظر: تحقيقَ محمَّد بنِ خليفة التميميِّ على كتاب «العرش وما رُوِي فيه» (٤٦٢)].

وضِمْنَ هذا السياقِ يقول ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في [«البداية والنهاية» (١/ ٤٦)]: «وميكائيلُ مُوكَّلٌ بالقَطْرِ والنباتِ اللَّذَيْنِ يخلق منهما الأرزاقَ في هذه الدار، وله أعوانٌ يفعلون ما يأمرهم به بأَمْرِ ربِّه، يُصرِّفون الرياحَ والسحابَ كما يشاء الربُّ جلَّ جلالُه، وقد روينا أنه ما مِنْ قطرةٍ تنزل مِنَ السماءِ إلَّا ومعها مَلَكٌ يُقَرِّرُها في موضعها مِنَ الأرض».

هذه بعضُ الأعمالِ العظيمةِ التي وَكَّل اللهُ ملائكتَه للقيام بها في الكون، بل لهم أعمالٌ جليلةٌ أخرى تزيد على ذلك بكثيرٍ، وهي مُتنوِّعةٌ، تُدَبِّرُ أَمْرَ العالَمِ العلويِّ والسفليِّ بإذنِ الله وبمشيئته وأَمْرِه، وتُباشِرُ تلك الأعمالَ تعبُّدًا لله ـ تعالى ـ، وهذا المعنى أَفْصَحَ عنه ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«إغاثة اللهفان» (٢/ ١٢٥)] بقوله: «وكُلُّ حركةٍ في السماوات والأرض: مِنْ حركات الأفلاك والنجوم والشمس والقمر، والرياحِ والسحاب، والنباتِ والحيوان، فهي ناشئةٌ عن الملائكةِ المُوكَّلين بالسماوات والأرض، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿فَٱلۡمُدَبِّرَٰتِ أَمۡرٗا ٥[النازعات]، وقال: ﴿فَٱلۡمُقَسِّمَٰتِ أَمۡرًا ٤[الذاريات]، وهي الملائكةُ عند أهل الإيمان وأتباعِ الرُّسُل عليهم السلام، وأمَّا المُكذِّبون للرُّسُلِ المُنْكِرون للصانع فيقولون: هي النجوم»، ثمَّ قال ـ رحمه الله ـ: «.. وقد دلَّ الكتابُ والسنَّةُ على أصناف الملائكة، وأنها مُوكَّلةٌ بأصناف المخلوقات، وأنه ـ سبحانه ـ وكَّل بالجبال ملائكةً، ووَكَّلَ بالسحابِ والمطر ملائكةً، ووكَّلَ بالرَّحِم ملائكةً تُدبِّرُ أَمْرَ النطفةِ حتَّى يَتِمَّ خَلْقُها، ثمَّ وكَّل بالعبد ملائكةً لحِفْظِه، وملائكةً لحِفْظِ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكَّل بالموت ملائكةً ووكَّل بالسؤال في القبر ملائكةً، ووكَّل بالأفلاك ملائكةً يُحرِّكونها، ووكَّل بالشمس والقمر ملائكةً، ووكَّل بالنار وإيقادِها وتعذيبِ أهلها وعمارتِها ملائكةً، ووكَّل بالجنَّةِ وعمارتِها وغِراسِها وعَمَلِ الأنهار فيها ملائكةً؛ فالملائكةُ أَعْظَمُ جنودِ الله ـ تعالى ـ .. ومنهم ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذاب، وملائكةٌ قد وُكِّلوا بحَمْلِ العرش، وملائكةٌ قد وُكِّلوا بعمارةِ السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غيرِ ذلك مِنْ أصناف الملائكة التي لا يُحْصِيها إلَّا اللهُ ـ تعالى ـ؛ ولفظُ «المَلَكِ» يُشْعِرُ بأنه رسولٌ مُنَفِّذٌ لأمرِ غيره؛ فليس لهم مِنَ الأمر شيءٌ، بلِ الأمرُ كُلُّه لله الواحدِ القهَّار..» [بتصرُّف].

(٢). أعمال الملائكةِ المتعلِّقةُ بالإنسان:

ومِنْ أَهَمِّ أعمال الملائكةِ المتعلِّقةِ بالإنسان:

أ ـ ملائكةٌ مُوكَّلةٌ بتدبيرِ أَمْرِ النطفة في الرَّحِم: مِنْ تخليقٍ ونقلٍ مِنْ طورٍ إلى آخَرَ وتصويرٍ وما إلى ذلك؛ ويدلُّ عليه حديثُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؛ فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا» [وقد تَقَدَّمَ في فصول القَدَر].

ب ـ ملائكةٌ مُوكَّلةٌ بكتابة أعمال الإنسان مِنَ الحسنات والسيِّئات: وقد جَعَلَهم اللهُ تعالى كِرامًا يحفظون أعمالَ الإنسانِ وأقوالَه ويكتبونها في صُحُفٍ حقيقيةٍ يقرأها الإنسانُ في الآخرة، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنَّ عَلَيۡكُمۡ لَحَٰفِظِينَ ١٠ كِرَامٗا كَٰتِبِينَ ١١ يَعۡلَمُونَ مَا تَفۡعَلُونَ ١٢[الانفطار]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿إِذۡ يَتَلَقَّى ٱلۡمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٞ ١٧ مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ ١٨[ق]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرٞ فِيٓ ءَايَاتِنَاۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ ٢١[يونس]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿أَمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّا لَا نَسۡمَعُ سِرَّهُمۡ وَنَجۡوَىٰهُمۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيۡهِمۡ يَكۡتُبُونَ ٨٠[الزخرف]، وغير ذلك مِنَ الآياتِ الدالَّةِ على مُلازَمةِ الملائكةِ الكرامِ الكاتبين للإنسان، يكتبون كُلَّ أفعاله القلبيةِ وأقوالِه وجوارحِه كتابةً حقيقيةً تظهر يومَ القيامة في صُحُفٍ حقيقيةٍ، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا ١٣ ٱقۡرَأۡ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفۡسِكَ ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكَ حَسِيبٗا ١٤[الإسراء].

ج ـ ملائكةٌ مُوكَّلةٌ بإحاطةِ الإنسان وحِفْظِه ممَّا يضرُّه مِنَ الحوادث والأسواء والأعداء يتعاقبون فيه: وذلك في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيقوم بعضُهم بخلافةِ بعضٍ في حماية الإنسان، حتَّى إذا جاء القَدَرُ الذي قُدِّرَ له خَلَّتْ عنه الحَفَظَةُ وتركَتْه؛ فأصابَهُ ما شاءَ اللهُ أَنْ يُصيبَه، قال ـ تعالى ـ: ﴿لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ ١١[الرعد]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَيُرۡسِلُ عَلَيۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ ٦١[الأنعام]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿إِن كُلُّ نَفۡسٖ لَّمَّا عَلَيۡهَا حَافِظٞ ٤[الطارق]، ومِنَ السنَّةِ قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ وَصَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ ـ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ ـ: «كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟» فَيَقُولُونَ: «تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»» [أخرجه البخاريُّ في «مواقيت الصلاة» (٢/ ٣٣) بابُ فضلِ صلاة العصر، ومسلمٌ في «المساجد ومَواضِعِ الصلاة» (٥/ ١٣٣) بابُ فضلِ صلاتَيِ الصبح والعصرِ والمُحافَظةِ عليهما، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه].

د ـ ملائكةٌ مُوكَّلةٌ بالسفارة بين الله وعِبادِه: فهُمْ رُسُلُ الله وسُفَراؤه إلى خَلْقه، ينزلون على الأنبياءِ والرُّسُل وحيًا وعلى غيرِ الأنبياء تبشيرًا أو ابتلاءً، قال ـ تعالى ـ: ﴿ٱللَّهُ يَصۡطَفِي مِنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلٗا وَمِنَ ٱلنَّاسِۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٞ ٧٥[الحج]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلًا[فاطر: ١]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿بِأَيۡدِي سَفَرَةٖ ١٥ كِرَامِۢ بَرَرَةٖ ١٦[عَبَسَ]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ ٥١[الشورى]، وقَدْ تَقَدَّمَ بيانُ تَمثُّلِ جبريلَ عليه السلامُ لمريمَ لتبشيرِها بعيسى عليه السلام، وتَمَثُّلِ المَلَكِ في صورة الأقرع والأعمى والأبرص، ونحوُ ذلك.

ـ ملائكةٌ مُوكَّلةٌ بقبضِ روح الإنسان عند الموت: ويدلُّ عليه قولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَيُرۡسِلُ عَلَيۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ ٦١[الأنعام]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿قُلۡ يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلۡمَوۡتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ تُرۡجَعُونَ ١١[السجدة]. ويحضر مع مَلَكِ الموت:

ـ إمَّا ملائكةُ الرحمةِ: كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمۡ تُوعَدُونَ ٣٠ نَحۡنُ أَوۡلِيَآؤُكُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَشۡتَهِيٓ أَنفُسُكُمۡ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ٣١[فُصِّلَتْ].

ـ وإمَّا ملائكةُ العذابِ: كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَضۡرِبُونَ وُجُوهَهُمۡ وَأَدۡبَٰرَهُمۡ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ ٥٠ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ٥١[الأنفال]، وقولِه ـ تعالى ـ: ﴿وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ ٱلۡمَوۡتِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيۡدِيهِمۡ أَخۡرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُۖ ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَكُنتُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهِۦ تَسۡتَكۡبِرُونَ ٩٣[الأنعام].

وقد جاء في السنَّةِ تفصيلٌ لِعَمَلِ الملائكة المُوكَّلين بقبضِ الأرواح في حديثِ البَراء بنِ عازبٍ رضي الله عنهما الطويل: «إِنَّ العَبْدَ المُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، بِيضُ الوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الجَنَّةِ ... وَإِنَّ العَبْدَ الكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الوُجُوهِ، مَعَهُمُ المُسُوحُ ..» [أخرجه أبو داود في «السنَّة» (٥/ ١١٤) بابٌ في المسألة في القبر وعذابِ القبر، وأحمد في «مسنده» (٤/ ٢٨٧، ٢٨٨) واللفظُ له، والحاكم في «المستدرك» (١/ ٣٧). والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «أحكام الجنائز» (١٥٩)].

و ـ ملائكةٌ مُوكَّلةٌ بسؤال الميِّت في قبره: وقد جاء ذِكْرُ ذلك في حديثِ البَراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنهما المتقدِّمِ وفيه: «.. فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: «مَنْ رَبُّكَ؟» فَيَقُولُ: «رَبِّيَ اللهُ»، فَيَقُولَانِ لَهُ: «مَا دِينُكَ؟» فَيَقُولُ: «دِينِيَ الإِسْلَامُ»، فَيَقُولَانِ لَهُ: «مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟» فَيَقُولُ: «هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، فَيَقُولَانِ لَهُ: «وَمَا عِلْمُكَ؟» فَيَقُولُ: «قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ»، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الجَنَّةِ»، قَالَ: «فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ .. وَإِنَّ العَبْدَ الكَافِرَ..» إلى قوله: «.. حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ».

والمَلَكان المُوكَّلانِ بعذاب القبر يُقال لأحَدِهما: المُنْكَرُ وللآخَرِ: النكيرُ؛ ويدلُّ على الاسْمَيْنِ حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا قُبِرَ المَيِّتُ ـ أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ ـ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: المُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ: النَّكِيرُ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ ..» الحديث [رواهُ الترمذيُّ في «الجنائز» (٣/ ٣٨٣) بابُ ما جاء في عذاب القبر، وابنُ حِبَّان في «صحيحه» ـ الموارد ـ (١٩٧)، وابنُ أبي عاصمٍ في «السنَّة» (٤٠٢). والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الترمذي» رقم: (١٠٧١) وفي «السلسلة الصحيحة» (٣/ ٣٧٩) رقم: (١٣٩١)].

فهذه أَهَمُّ أعمالِ الملائكة الكِرام، وإِنْ كان لهم أعمالٌ أخرى كثيرةٌ، سواءٌ المتعلِّقة بالكون كالمُوكَّلِ بالنفخ في الصُّورِ أو الحافَّةِ بمكَّةَ والمدينةِ أو المُوكَّلةِ بالشام، أو المُتعلِّقةِ بالإنسان كالمُوكَّلةِ بالمساجد يومَ الجمعة أو بمَجالِسِ الذِّكْر أو تبليغِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم سلامَ أُمَّتِه عليه ونحوِ ذلك، وقد أَجْمَلَ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ القولَ في أعمال الملائكة، فبعدما قَدَّمْتُ كلامَه على الملائكةِ المُوكَّلةِ بالعالَمِ العلويِّ والسفليِّ أَنْقُلُ كلامَه عن الملائكة المُوكَّلةِ ببني آدَمَ مِنْ [«إغاثة اللهفان» (٢/ ١٣٠)] بما نصُّه: «والملائكةُ المُوكَّلةُ بالإنسان مِنْ حينِ كونه نطفةً إلى آخِرِ أَمْرِه لهم وله شأنٌ آخَرُ؛ فإنهم مُوكَّلون بتخليقه، ونَقْلِه مِنْ طَوْرٍ إلى طَوْرٍ، وتصويرِه، وحِفْظِه في أطباقِ الظلمات الثلاث، وكتابةِ رِزْقِه، وعَمَلِه، وأَجَلِه، وشقاوتِه وسعادتِه، ومُلازَمتِه في جميعِ أحواله، وإحصاءِ أقواله وأفعاله، وحِفْظِه في حياته، وقبضِ رُوحِه عند وَفاتِه، وعَرْضِها على خالِقِه وفاطِرِه. وهُمُ المُوكَّلُون بعذابه ونعيمِه في البرزخ وبَعْدَ البعث، وهُمُ المُوكَّلون بعملِ آلات النعيم والعذاب، وهُمُ المُثَبِّتون للعبد المؤمنِ بإذن الله، والمُعَلِّمون له ما ينفعه، والمُقاتِلون الذابُّون عنه، وهُمْ أولياؤه في الدنيا والآخرة، وهُمُ الذين يُرُونَه في مَنامِه ما يَخافه ليَحْذَره، وما يُحِبُّه ليقوى قلبُه ويزدادَ شكرًا، وهُمُ الذين يَعِدُونه بالخير ويَدْعُونه إليه، وينهَوْنَه عن الشرِّ ويُحذِّرونه منه؛ فهُمْ أولياؤه وأنصارُه، وحَفَظَتُه ومُعلِّموه وناصِحُوه، والدَّاعُونَ له والمُسْتَغْفِرُون له، وهُمُ الذين يُصَلُّون عليه ما دامَ في طاعة ربِّه، ويُصَلُّون عليه ما دامَ يُعلِّم الناسَ الخيرَ، ويُبشِّرونه بكرامةِ الله ـ تعالى ـ في مَنامِه وعند موتِه ويومَ بَعْثِه، وهُمُ الذين يُزهِّدونه في الدنيا ويُرغِّبُونَه في الآخرة، وهُمُ الذين يُذكِّرونه إذا نَسِيَ، ويُنشِّطونه إذا كَسِلَ، ويُثبِّتونه إذا جَزِعَ، وهُمُ الذين يَسْعَوْن في مَصالِحِ دُنْياهُ وآخِرَتِه؛ فهُمْ رُسُلُ اللهِ في خَلْقِه وأَمْرِه، وسُفَراؤُه بينه وبين عِبادِه، تَتنزَّلُ بالأمرِ مِنْ عندِه في أقطار العالَمِ وتصعد إليه بالأمر».

(٦) هي أمُّ المؤمنين عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ الصدِّيقِ رضي الله عنهما القرشيةُ التيميةُ المكِّيةُ، وتُكنَّى بأمِّ عبد الله، وُلِدَتْ بعد المبعث بأربعِ سنينَ أو خمسٍ، وتزوَّجها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهي بنتُ تسعِ سنينَ حين دَخَلَ بها، ولم يَنْكِح بكرًا غيرَها، ومِنْ أخَصِّ مَناقِبِها ما عُلِم مِنْ شيوعِ تخصيصها وحُبِّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لها، ونزولِ القرآن في عُذْرِها وبراءتها، والتنويهِ بقَدْرِها، ووفاةِ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم عندها، ونزولِ الوحي في بيتها.

وهي أَفْقَهُ نساءِ الأمَّةِ على الإطلاق، وتُوُفِّيَ عنها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهي بنتُ ثماني عَشْرَةَ سنةً، ثمَّ عاشَتْ بعده ستًّا وأربعين سنةً، وتُوُفِّيَتْ سنة: (٥٧ﻫ) لسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رمضان، وصلَّى عليها أبو هريرة رضي الله عنه، ودُفِنَتْ بالبقيع، في زمَنِ خلافةِ مُعاوِيةَ بنِ أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين.

انظر ترجمتها وأحاديثها في: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٨/ ٥٨)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٤/ ١٨٨١)، «أُسْد الغابة» لابن الأثير (٥/ ٥٠١)، «وفيات الأعيان» لابن خِلِّكان (٣/ ١٦)، «سِيَر أعلام النُّبَلاء» (٢/ ١٣٥) و«تذكرة الحُفَّاظ» (١/ ٢٧) كلاهما للذهبي، «البداية والنهاية» لابن كثير (٨/ ٩١)، «الإصابة» لابن حجر (٤/ ٣٥٩)، «أعلام النساء» لكحالة (٣/ ٩)، ومؤلَّفنا: «الإعلام بمنثورِ تَراجِمِ المَشاهير والأعلام» (١٧٩).

(٧) أخرجه مسلمٌ في «الزهد» (١٨/ ١٢٣) بابٌ في أحاديثَ مُتفرِّقة، وأحمد في «مسنده» (٦/ ١٥٣، ١٦٨)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٩/ ٦) وفي «الأسماء والصِّفات» (٢/ ٢٥٨) وفي «شُعَب الإيمان» (١/ ٣٠١)، وابنُ منده في «التوحيد» (٢٠٨)، وابنُ عساكر في «مُعْجَم الشيوخ» (١/ ٣٠٩)، وأبو الشيخ في «العظمة» (٢/ ٧٢٥).

في الحديثِ دليلٌ صريحٌ على أنَّ الخِلْقَةَ مِنْ نورٍ قاصرةٌ على الملائكة دون آدَمَ الذي خُلِقَ مِنْ طينٍ، وشَرَحَ القرآنُ أحوالَ الطين بأنه مِنْ صلصالٍ كالفخَّار، قال الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ عن هذا الحديثِ في [«السلسلة الصحيحة» (١/ ١٩٧) رقم: (٤٥٩)] بأنَّ: «فيه إشارةً إلى بطلانِ الحديثِ المشهورِ على ألسنةِ الناس: «أوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ: نورُ نَبيِّكَ يا جابرُ»، ونحوِه مِنَ الأحاديث التي تقول بأنه صلَّى الله عليه وسلَّم خُلِقَ مِنْ نورٍ؛ فإنَّ هذا الحديثَ دليلٌ واضحٌ على أنَّ الملائكة فقط هُمُ الذين خُلِقوا مِنْ نورٍ، دون آدَمَ وبَنِيهِ».

(٨) قال ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (٤/ ١٢٥)]: « .. فجمعوا بين أنواعٍ كثيرةٍ مِنَ الخطإ:

أحَدُها: جَعْلُهم لله ولدًا، تعالى وتَقَدَّسَ وتَنَزَّهَ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.

الثاني: دَعْواهُمْ أنه اصطفى البناتِ على البنين، فجعلوا الملائكةَ الذين هُمْ عِبادُ الرحمنِ إناثًا.

الثالث: عبادتهم لهم مع ذلك كُلِّه بلا دليلٍ ولا برهانٍ ولا إذنٍ مِنَ الله عزَّ وجلَّ، بل بمُجرَّدِ الآراء والأهواء، والتقليدِ للأسلاف والكُبَراءِ والآباء، والخَبْطِ في الجاهلية الجَهْلاء.

الرابع: احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قَدَرًا ـ والحجَّةُ إنما تكون بالشرع ـ وقد جَهِلوا في هذا الاحتجاجِ جَهْلًا كبيرًا؛ فإنه ـ تعالى ـ قد أَنْكَرَ ذلك عليهم أَشَدَّ الإنكار؛ فإنه منذ بَعَثَ الرُّسُلَ وأَنْزَلَ الكُتُبَ يأمر بعبادته وَحْدَه لا شريكَ له، وينهى عن عبادةِ ما سِواهُ».

وقد تَقَدَّمَ الشاهدُ مِنْ ذِكْرِ الآيةِ، وهو أنَّ الله ـ تعالى ـ ردَّ على مَنْ وَصَفَ الملائكةَ بأنهم بناتُ اللهِ وأنهم إناثٌ؛ فأَثْبَتَ اللهُ أحَدِيَّتَهُ، وأنه لم يَلِدْ ولم يُولَدْ، ولم يكن له كُفُؤًا أَحَدٌ.

(٩) وقد تَقَدَّمَ بيانُه في أنواع العبادات التي كَلَّفَ اللهُ بها ملائكتَه، منها: ذِكْرُ الله وتسبيحُه ودعاؤُه، وقد استفاضَ ذلك في الكتاب والسنَّة، وتسبيحُ الملائكةِ دائمٌ لا يَعْتَرِيهِ انقطاعٌ ولا تَلْحَقُه مَلالةٌ ولا كَلالةٌ ولا سَآمةٌ، ولكثرةِ حُبِّهم للتسبيح وأدائه تَسَمَّوْا به وأَقَرَّهم اللهُ ـ تعالى ـ على هذه التسمية.

(١٠) قال ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (٣/ ١٧٦)]: «الملائكة عِبادُ اللهِ مُكْرَمُونَ عنده في مَنازِلَ عاليةٍ ومَقاماتٍ ساميةٍ، وهُمْ له في غاية الطاعة قولًا وفعلًا .. لا يتقدَّمون بين يَدَيْه بأمرٍ ولا يُخالِفونه فيما أَمَرَهم به، بل يُبادِرون إلى فِعْلِه، وهو ـ تعالى ـ عِلْمُه مُحيطٌ بهم فلا يخفى عليه منهم خافيةٌ».

(١١) فهذه الآياتُ تَضمَّنَها العنوانُ الفرعيُّ الموسومُ : «أعمال الملائكة الكِرام»، تلك الأعمال التي تُوكَلُ إليهم مِنْ ربِّ العِزَّةِ والجَلال في مُخْتَلفِ شئون الخَلْقِ وتدبيرِ الكون العلويِّ والسفليِّ، سواءٌ في الدنيا وما نُشاهِدُه أو فيما غابَ عنَّا مِنْ أمور الدنيا والآخرة، أو أعمال الملائكة المُتعلِّقة بالإنسان ـ كما تَقَدَّمَ تفصيلُه ـ وهي أعمالٌ ـ بلا شكٍّ ـ مُتعدِّدةٌ ومُتنوِّعةٌ تربو عمَّا تمَّ ذِكْرُه بكثيرٍ، وهُمْ في ذلك رُسُلُ اللهِ يُنَفِّذون أَمْرَ ربِّهم تَعَبُّدًا لله ـ تعالى ـ، وليس لهم مِنَ الأمرِ مِنْ شيءٍ، بلِ الأمرُ كُلُّه لله ـ تعالى ـ.

فحاصِلُ القول في عبادة الملائكة عليهم السلامُ أنها تَتَبَلْوَرُ في: اشتغالهم بعبادةِ الله ـ تعالى ـ على وجهِ الإخلاص له، مع التخلِّي عن جميعِ الشهوات، وهي عبادتان: إحداهما مَحْضَةٌ، قلبيةً كانَتْ أو قوليةً أو عمليةً، والأخرى أعمالٌ تُوكَلُ إليهم يقومون بها طاعةً لله ـ تعالى ـ، وتَتَّصِفُ عبادتُهم بالدوام والاستمرار على وجهِ الثبات ودون انقطاعٍ، يُؤدُّونها في تواضعٍ جَمٍّ دون استكبارٍ، ويقومون بأعمالٍ ـ على ضخامتها وكثرتها ـ بلا عُجْبٍ، ولا تنتهي أعمالُهم بانتهاء الدنيا، بل التكليفُ ـ في حَقِّهم ـ يبقى قائمًا في الآخرة، بخلافِ الإنسِ والجنِّ.

هذا، ونختمُ هذا الفصلَ بذِكْرِ أَهَمِّ ثمرات الإيمان بالملائكة وفوائده، وهي تتجلَّى في النقاط التالية:

ـ أوَّلًا: العلم بقدرة خالِقِ الملائكة والكونِ وعظمتِه، والتفكُّرُ في مخلوقاته، والنظرُ في آلائه، والتدبُّرُ في آياته للوصول إلى إفراد الله بالألوهية والعبادة المتضمِّنِ الإقرارَ بربوبية الله وبأسمائه وصِفَاتِه، وهي الغايةُ العُظْمى مِنْ خَلْقِ الخَلْقِ ومِنْ بَعْثِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ.

ـ ثانيًا: زيادة الإيمان ـ في قلب المؤمن ـ بالإيمان بالملائكة وما يقومون به مِنْ أعمالٍ عِظامٍ في مُخْتَلفِ شئون الكون والحياةِ وما يُوكَّلون به مِنْ أعمالٍ تُجاهَ العباد.

ـ ثالثًا: شُكْرُ الله ـ تعالى ـ على نعمةِ خَلْقِه للملائكة للعنايةِ بِعِبادِهِ، حيث يَسَّرَ لهم ملائكةً مُوكَّلةً بالعمل على ما يُصْلِحُ أَمْرَ عِبادِه في الدنيا والآخرة؛ فيحفظون العبدَ بأمرِ الله منذ أَنْ كان في الظلمات الثلاث وينقلونه مِنْ طَوْرٍ إلى طَوْرٍ حتَّى يخرج للدنيا، ويصحبونه صغيرًا إلى أَنْ يخرج مِنَ الدنيا، مع حَضِّهم له على الخير وتحذيرِهم له مِنَ الشرِّ، وكتابةِ أعماله، ونحوِ ذلك ممَّا يستوجب شُكْرَ الله ـ تعالى ـ على أَنْ وكَّلَ ملائكةً يقومون بحِفْظِه والاستغفارِ له والدعاءِ لإخراجه مِنَ الظلمات إلى النور بإِذْنِ ربِّهم.

ـ رابعًا: محبَّة الأعمالِ الصالحة التي ـ بفعلها والقيامِ بها ـ تُصلِّي الملائكةُ على أصحابها وتدعو لهم كمعلِّمِ الناسِ الخيرَ وطالِبِ العلمِ والمتسحِّر، ومحبَّةُ الأماكنِ الفاضلةِ كالمساجد وحِلَقِ العلمِ ونحوِ ذلك؛ فإنها أَماكِنُ حلولِ الملائكةِ فيها والصلاةِ على أهلها والاستغفارِ لهم.

ـ خامسًا: كراهةُ المعاصي والذنوبِ وبُغْضُها؛ لأنها سببُ لَعْنِ الملائكة لعامِلِها؛ فيجب أَنْ يتجنَّبَها العبدُ ويَبْتَعِدَ عنها ويَحْرِصَ على أَنْ لا تَكْتُبَ عليه الملائكةُ إلَّا ما هو حَسَنٌ: فيترك البدعةَ لأنَّ الملائكة تلعن صاحِبَها، ويترك الإشارةَ إلى أخيه بالسلاح ونحوِه لأنَّ الملائكة تلعن فاعِلَه، ويُعَظِّمُ صحابةَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولا ينتقصهم بكلمةٍ لأنَّ الملائكة تلعن سابَّهم، ولا يُدْخِلُ بيتَه صورةً ولا كلبًا لئلَّا يمنع دخولَ الملائكةِ بيتَه، ونحو ذلك.

ـ سادسًا: محبَّةُ الملائكة على كبيرِ قَدْرِهم وعظيمِ عِبادتهم، وأَنْ يتأسَّى بهم فيما يُوافِقُ القدرةَ البشرية والأوامِرَ الشرعية كالاقتداء بالملائكة في إتمام الصفوف وتَرَاصِّها، والإكثارِ مِنْ العبادة والمُداوَمةِ عليها، مع التواضع لله والبعدِ عن الاستكبار عن العبادة أو العُجْبِ في القيامِ بها أو المَنِّ على الله بفعلها ونحوِ ذلك.

ـ سابعًا: حصول الأمن والطمأنينة وزوالُ الخوف؛ وذلك إذا عَلِمَ العبدُ أنَّ الله وكَّل به ملائكةً يحفظونه مِنْ أمرِ الله وبإذنه، كذلك إذا ذَكَرَ اللهَ بالأذكار المشروعةِ حَفِظَتْه الملائكةُ بإذنِ ربِّها مِنَ السِّحر والشيطان والهامَّةِ والعين اللامَّةِ ونحوِ ذلك، وحَرَصَ بذلك على الأذكارِ ونحوِها مِنَ العبادات التي يشعر فيها بالأمن والطُّمَأْنينة والسلامةِ مِنَ كُلِّ ما يَخاف ضرَرَه ويحذر أذيَّتَه.