اعتبار اختلاف المطالع في ثبوت الأهلة | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الخميس 9 شوال 1445 هـ الموافق لـ 18 أبريل 2024 م

اعتبار اختلاف المطالع في ثبوت الأهلة
وآراء الفقهاء فيه

الصيام المفروض هو صيام رمضان، ودليل فرضيته: الكتاب والسنة والإجماع، وفضله عظيم، والحكمة منه ظاهرة. ولما كانت أيام شهر رمضان هي التي فرض الله صيامها، فلا بد من معرفة أول الشهر وآخره، وقد ضبط الشرع طريقتين لثبوت أول الشهر: برؤية هلاله عند طلوعه، وعند عدم رؤيته يثبت بإكمال عدة شهر شعبان ثلاثين يوما، كما يثبت انتهاء شهر رمضان برؤية هلال شوال أو بإكمال عدة شهر رمضان عند عدم رؤية هلال شوال، إذ الشهر القمري يكون تسعة وعشرين يوما أو ثلاثين يوما قولا واحدا، وهذا من فضل الله تعالى على عباده وتيسيره عليهم حيث جعل العبادات التي تعتمد على المواقيت مرتبطة بالأمور المحسوسة والعلامات الظاهرة التي يستوي في العلم بها العالم والجاهل وأهل البوادي والحواضر.

واللافت للنظر أن الرؤية التي يثبت بها أول شهر رمضان وآخره لا تحصل لكل مسلم، ولهذا اتفق العلماء على أن الإخبار بالرؤية ممن رآه حجة شرعية تلزم المسلمين في ثبوت شهر رمضان ابتداء وانتهاء إذا توفرت الشروط المطلوبة في المخبر أو المخبرين غير أن اختلاف موضع طلوع الهلال يبقى محل نزاع بين الفقهاء واعتباره في ثبوت الشهر من عدمه .

وفي تحرير محل النزاع يخرج اعتبار اختلاف مطالع الشمس في مواقيت العبادات، وأن لكل بلد مواقيته في الصلوات والإفطار والسحور، فتوحيد مواقيتها في البلدان المختلفة غير متصوّر بالنظر إلى اختلاف الأقطار والبلدان على الكرة الأرضية(١).

كما يخرج من محل النزاع ما إذا ثبتت رؤية الهلال عند الإمام الأعظم وألزم الناس داخل ولايته بما ثبت من رؤية في بلده، سقط أثر اختلاف البلدان المتباعدة، ووجب الصوم على جميعهم حتى لو كان ثبوت رؤية الهلال في مطلع من مطالع تلك الأقطار دون سائرها، ما دام حكم الإمام الأعلى نافذا على جميع هذه الأقطار والبلدان، فهي في حقه كالبلد الواحد اتفاقا(٢)، ذلك لأن مسألة اختلاف المطالع محل اجتهاد يولّد آراء ووجهات نظر مختلفة، وحكم الحاكم يرفع النزاع ويحسم الخلاف ويرجح به أحد النظرين أو الأنظار المتباينة، اعتقادا منه بأحقية رجحانه، الأمر الذي يوجب إنفاذ حكمه والامتثال له، والعمل بمقتضاه، ولا يجوز مخالفته فيما قطع فيه الخلاف شرعا طاعة لولي أمر المسلمين، وتوحيدا لكلمتهم.

كذلك لا خلاف بين الفقهاء في تحقق اختلاف مطالع القمر(٣)، وإنما النزاع في اعتبار اختلاف مطالعه في ثبوت الأهلة وما يتعلق بها من أحكام كثبوت بدء الصوم في رمضان، والفطر في شوال، والحج، والإيلاء وعدة المتوفى عنها زوجها وغيرها من الأحكام الشرعية المتعلقة بالأجل والزمن فقد ربطها الله تعالى بالأشهر القمرية في قوله تعالى: ﴿يَسْأّلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ﴾[البقرة: ١٨٩]. هذا فيما إذا كانت الأقطار والبلدان خارجة عن حكم الإمام الأعلى أو وجد من المسلمين في بلاد غير مسلمة، فهل رؤية البعض تعم في حق جميع البلدان في ثبوت الأحكام ولا عبرة باختلاف المطالع، بل يجب العمل بالأسبق رؤية، فلو رُئي في المشرق ليلة الجمعة، وفي المغرب ليلة السبت، وجب على أهل المغرب العمل بما رآه أهل المشرق، أم يستقل كل بلد برؤيته ويكون الاعتبار باختلاف المطالع؟ أي يلزم على كل بلد العمل بمطلعه ولا يلزمه مطلع غيره، فإن لم يروا الهلال أكملوا شهر شعبان ثلاثين.

فالفقهاء في هذه المسألة اختلفوا على مذهبين رئيسين:

فالأول: يذهب إلى القول بتوحيد الرؤية ولا يعتبر اختلاف مطالع القمر في ثبوت الأهلة، وبهذا قال الجمهور، وهو المعتمد عند الحنفية، ونسبه ابن عبد البر إلى الإمام مالك فيما رواه عنه ابن القاسم والمصريون، كما عزاه إلى الليث والشافعي والكوفيين وأحمد، وبه قال ابن تيمية والشوكاني وغيرهم من أهل التحقيق، ويترتب على هذا القول وجوب القضاء إذا بدأ أهل بلد صومهم اليوم الذي يلي رؤية الهلال في بلد آخر.

وذهب المعتبرون لاختلاف المطالع أن رؤية الهلال في بلد لا تلزم في حق أهل بلد آخر، بل لكل بلد رؤيتهم مطلقا سواء تقاربت البلدان أم تباعدت وقد حكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم بن محمد وسالم ابن عبد الله وإسحاق بن راهويه، وعزا ابن عبد البر هذا القول لابن عباس وابن المبارك، كما عزاه إلى مالك فيما رواه المدنيون عنه، وإلى المغيرة وابن دينار وابن الماجشون من أتباع مالك(٤)(٥) وحكاه الماوردي وجها للشافعية(٦).

وفرق آخرون ممن يعتبرون اختلاف المطالع بين البلد القريب والبعيد، ويجعلون تقارب البلدان والأقطار في حكم بلد واحد، أما إذا تباعدت فلا تكون الرؤية ملزمة على أهل البلد الآخر، فأهل كل أفق يستقلون برؤيتهم، وهذا هو المعتمد عند الشافعية وبه قال الشيرازي وصححه الرافعي، وبه قال الزيلعي من الحنفية(٧).

وقد اختلف فقهاء المذاهب اختلافا شديدا في ضابط القرب والبعد، وما اشترطوه من معيار البعد مبني في حقيقته على استدلال عقلي محض لا يشهد له دليل من الشرع.

وعند التمعن في سبب اختلاف العلماء في اعتبار اختلاف المطالع أو عدم اعتباره في ثبوت الأهلة يظهر رجوعه إلى:

أولا: صلاحية تخصيص عموم الخطاب لسائر المكلفين وتقييد مطلق الرؤية بالدليل العقلي.

ثانيا: في مطلقية مطلع الهلال من نسبيّته .

ثالثا: في تعارض النص والأثر، فهل كان رفض ابن عباس رضي الله عنهما الالتزام برؤية أهل الشام في قصة"كريب"(٨) مبنيا على الرفع أم على الاجتهاد المحض؟

رابعا: في المعنى الذي يفيده حديث ابن عباس في قصة "كريب" هل يدل على معنى مغاير يقيّد به مطلق قوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) أم معناه مطابق له ؟

فمن رأى أن عموم الخطاب بالصيام والإفطار متجه إلى من تحققت له رؤية الهلال ولمن حضره من أهل البلد والبلدان القريبة قيّد مطلق الرؤية بالدليل العقلي المتمثل في تباعد الأقطار والبلدان الذي يوجب في الواقع اختلاف المطالع دون تقاربها عادة، وأكد هذا المعنى بقياس مطلع القمر على مطلع الشمس باعتبار نسبية مطلعيهما شرقا وغربا، لأن كلا منهما له وضع كوني يؤثر في اختلاف أوقات العبادات وانعقاد الأهلة، أيده بانعقاد الإجماع المنقول عن أبي عمر بن عبد البر، وحصر اعتبار اختلاف المطالع في البلدان البعيدة دون غيرها على اختلاف في ضابط البعد.

ومن سوى في استقلال كل بلدة بالرؤية بنفسها بين تقارب البلدان وتباعدها فضلا عن أنه اعتمد الاجتهاد السابق في البعد، اعتبر أن رفض ابن عباس رضي الله عنهما الالتزام برؤية أهل الشام في قصة "كريب" مبنيّ على الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه بدليل يحفظه وإن لم يصرح به، وهو يفيد ما أفادته الآية في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[ البقرة:١٨٥] ، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه) من أن الشارع علق الحكم على رؤية البعض المعتبر الذي ينزّل منزلة الكل، وتبقى سائر البلدان الأخرى التي لم تر الهلال على مقتضى عموم الآية والحديث القاضي بوجوب الصوم منوطا برؤيتهم على انفراد مع انسحاب ذلك كله على سائر الأهلة، أثبت المعنى المغاير وقيّد به مطلق الرؤية الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وجعل الحجة في القرب من جهة الحكم دالة على البعد بالأولوية.

ومن رأى أن عموم الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) علقه الشرع بمطلق الرؤية وأن تباعد الأقطار لا يوجب اختلاف المطالع شرعا فلا يتقيد مطلق الرؤية بالدليل العقلي لاستواء القرب والبعد في علة الحكم وهي"مطلق الرؤية" إذ الشهر يثبت برؤية هلاله فلا تتعدد ولادته لتوسطه بين هلالين فولادته مطلقة لا تختلف وضعا كونيا بالنسبة لأهل الأفق فيتعذر إلحاقه بمطالع الشمس لنسبيتها وهو سبب الفرق في عدم إمكانية التسوية بينهما قياسا.

ورأى أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة "كريب" لم يورد ابن عباس فيه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا معنى لفظه حتى يمكن النظر في عمومه وخصوصه، وعليه فلا يفيد المرفوع منه سوى مطابقة معناه لحديث: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وما زاد عنه فهو اجتهاد محض في مقابلة النصوص الصريحة، وحال تعارض النص والأثر فالحجة في صريح قوله صلى الله عليه وسلم لا في اجتهاد الصحابي ونظره، فلم يبق مُتمسَّك لهم في حديث "كريب" في تقرير اعتبار المطالع سواء تقاربت البلدان أو تباعدت، فثبت -عندهم- وجوب الصوم على المسلمين كافة لتحقق مناطه وهو مطلق الرؤية.

وفي تقديري أن الأصل العام الثابت الذي نهضت به الأدلة يقضي بوجوب أن يعمل أهل البلدان سواء كانت متقاربة أم متباعدة بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكام الشرعية كحلول الدَّين ووقوع الطلاق والعتاق ووجوب النذر، والرؤية من جملتها، ذلك لأن العبرة بثبوت الشهر نفسه بمطلق الرؤية في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[البقرة:١٨٥] وأن شهود الشهر والتماس الرؤية فيه على الكفاية وقد علق الشارع عموم حكم الصيام والإفطار أيضا بمطلق الرؤية في قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له"(٩)(١٠) فهو يُجْرَى على إطلاقه ويصدق برؤية البعض،ذلك لأن المطلق يتحقق في أي فرد من أفراده الشائعة في جنسه بمعنى أن عمومه بدلي لا شمولي كما هو مقرَّر أصوليا، فكأن صيغة الحديث وردت بهذا اللفظ :" صوموا وأفطروا إذا تحققت رؤية الهلال" أي مهما كان موقعها من القرب والبعد جريا على قاعدة أن"المطلق يُجْرَى على إطلاقه ما لم يرد ما يقيده"، فاستوى القرب والبعد بين البلدان في مطلق الرؤية التي تُعَدُّ علة الحكم، وعليه فإن اشتراط التباعد بين الأقطار تقييد وزيادة على النص يفتقر إلى دليل يقويه، وإذا انتفى عن الآية والحديث ما يقيدهما وجب العمل بإطلاقه، ومنه يتبين أن لا عبرة في اختلاف المطالع ووجوبُ صومه على الجميع بشهادة البعض المعتبر شرعا، إذ لا يخفى أن انعقاد الشهر إنما يثبت برؤية هلاله، وولادة الشهر لا تتعدد لوجود محله بين هلالين :الأول من ليلة رمضان، والأول من ليلة شوال، فإذا ثبتت ولادة الشهر برؤية الثقات في أول ليلة منه بمطلق الرؤية ثبت -عندئذ- انعقاده وتعلق وجوب الصيام به.

هذا ولا يمكن التمسك برواية ابن عمر رضي الله عنهما في قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تصوموا حتى تروا الهلال..." في تقييد الإطلاق الوارد في حديث:" صوموا لرؤيته" لأن ذلك إنما يصح التقييد به لو كان الخطاب فيه مختصا بكل قوم في بلدهم وليس الأمر كذلك لأن الخطاب الشرعي عام موجَّه إلى كافة المخاطبين ربطه الشارع بمطلق الرؤية، فكان محتوى الحديثين متحدا منطوقا ومفهوما لا اختلاف بينهما من حيث الإطلاق، بل الاستدلال بنص رواية ابن عمر مرفوعا:" لا تصوموا حتى تروا الهلال..." على العموم أولى منه على تخصيص الرؤية بكل قوم في بلدهم على انفراد ولا إلى فرد بخصوصه، ذلك لأن معنى شهود الشهر في الآية حضوره والعلم به لا رؤية هلاله، لذلك كان خبر البعض المعتبر الذي رآه ملزما لسائرهم فرؤية البعض رؤية لهم، إذ يلزم على العمل بظاهر الآية والحديث عدمُ الاعتداد برؤية البعض إلا إذا رأى كل فرد بعينه، وهذا الحكم يأباه الشرع والإجماع، إذ من المقرر اتفاقا أن ليس كل فرد من المسلمين مكلفا برؤية الهلال، ولا معلقا بوجوب صومه على رؤيته هو بمفرده، بل التماس الرؤية فرض على الكفاية لا واجب عيني، ولذا يثبت الصوم برؤية البعض المعتبر وشهادته، وعليه فالاستدلال بنصِّ الروايتين المتقدمتين على التعميم أظهر منه على التخصيص.

أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقصته مع "كريب" فجوابه من وجوه:

أولا: أنه خبر الواحد وهو غير كاف في شهادة الصوم، فلو تقوّى الخبر بمزيد من الرواة لأخذ به ابن عباس رضي الله عنهما ولاعتمد على رؤية الشام.

وهذا الجواب ليس بالقويّ لأن ما أفصح به "كريب" ليس بشهادة منه حتى يرفض ابن عباس ما أخبره به، وإنما هو خبر عن حكم بشهادة معتبرة واستفاض في الناس حتى بلغ التواتر وخبر الواحد في ذلك مقبول اتفاقا.

ثانيا: إن قول ابن عباس: (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلا يلزم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بعدم الاعتداد برؤية غيرهم، وليس أيّ منهما موجها إلى كل قوم في بلدهم على ما قرّره الشوكاني، كما أنه من جهة أخرى يمكن أنه أراد بقوله: (هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) الحديث العام لا حديثا خاصا بهذه المسألة على ما أفاده ابن دقيق العيد(١١) إذ المرفوع منه لا يفيد سوى مطابقة معناه لدليل الجمهور على التزام مطلق الرؤية، وما زاد عنه فهو محض اجتهاد منه لا يصلح حجة تخصص به الأدلة القاضية بتوحيد الرؤية وذلك لأن ابن عباس رضي الله عنهما لم يأت بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بمعنى لفظه حتى يحكم بعمومه وخصوصه إنما جاء بصيغة مجملة أشار إلى قصة هي عدم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشام على التسليم أن ذلك هو المراد، وأضاف الشوكاني يقول: "ولم نفهم منه زيادة على ذلك حتى نجعله مخصصا لذلك العموم، فينبغي الاقتصار على المفهوم من ذلك الوارد على خلاف القياس وعدم الإلحاق به"(١٢).

ثالثا: إن حديث ابن عباس رضي الله عنهما محمول على عدم تمكن أهل المدينة من العلم برؤية أهل الشام في رمضان وفي شوال كذلك فيستبقون على رؤيتهم، بمعنى أنه من صام على رؤية بلده ثم بلغه في أثناء رمضان أن الهلال رُئي في غير بلده قبل ذلك اليوم، ففي هذه الحالة يستمر في الصيام مع بلده حتى يكملوا الثلاثين أو يروا هلالهم، ويبقى ما عدا هذه الحالة على وجوب الصوم على المسلمين كافة عند تحقق مناط الحكم وهو مطلق الرؤية، أي أن يكون الحكم شاملا -بعد إخراج الحالة السابقة- كل من بلغه خبر رؤية الهلال من أي بلد أو إقليم من غير تحديد مسافة أصلا وبه ينتفي التعارض ويتم الجمع ويتحقق. هذا وقول ابن عباس رضي الله عنهما إن حمل على أنه مذهب الصحابي المشتهر الذي لم يعلم له مخالف من الصحابة، فإنما يصير إجماعا عند جماهير العلماء إذا لم يخالف نصا ثابتا، إذ المرفوع أولى من الموقوف مرتبة وحجة وعملا، كما يلزم منه أن يخالفه بعض الصحابة تطبيقا للنص العام الثابت القاضي بوجوب الصيام برؤية الهلال على عموم المخاطبين بمطلق الرؤية، وإن لم ينقل إلينا ذلك، وحينئذ لا يكون قول بعضهم حجة، إذ كلا القولين يحتمل الصواب ، وعندئذ فالواجب التخير من أقوالهم بحسب الدليل ولا يجوز الخروج عنها.

ولو تمّ التسليم أن قول ابن عباس رضي الله عنهما اشتهر ولم يعرف له مخالف من الصحابة لكونه نطق بالصواب فأمسك بقية الصحابة عن الكلام في المسألة، فإن محل الإجماع إن تقرّر يرد على الاحتمال الأخير من حديث "كريب" الذي يتمثل فيمن صام على رؤية بلده ثم بلغه أثناء رمضان أن الهلال رُئي في غير بلده قبل ذلك اليوم، فيستمر في صيامه مع بلده حتى يكملوا الثلاثين أو يروا هلالهم، وبهذا التوجيه تجتمع الأدلة وتتحد الآراء.

أما استدلال تقي الدين السبكي بما يوميء أن ثمّة إجماعا قديما من الصحابة على اعتبار اختلاف المطالع فلم يرد ما يثبته، إذ لم ينقله إلينا أهل التواتر ولا أهل الآحاد، وكلا القسمين يحتاج إلى النظر من جهة النقل وثبوته، ومن جهة نوع الإجماع ومرتبته، لكن الإجماع المذكور ما هو في الواقع سوى استدلال عقلي على الإجماع بطريق اللزوم، وهذا الاستنتاج العقلي لا يقوى على مقابلة النصوص الثابتة، فضلا عن أنه لو كان ثابتا منعقدا لما اختلف الفقهاء بعده في هذه المسألة اختلافا ظاهرا، وجمهورهم على خلافه.

ولو سلمنا صحته وسلامة نقله لكان محمولا على الاحتمال الأخير توفيقا بين الأدلة ودفعا للتعارض جريا على قاعدة:" الجمع أولى من الترجيح" .

أما الاستدلال بالإجماع الذي نقله ابن عبد البر رحمه الله في عدم مراعاة الرؤية فيما أخر من البلدان كالأندلس من خراسان، وكذلك كل بلد له رؤيته إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلاد المسلمين(١٣) ، فقد تعقب الشوكاني دعوى الإجماع في "النيل"(١٤) بقوله: <ولا يلتفت إلى ما قاله ابن عبد البر من أن هذا القول - أي لزوم الرؤية للجميع- خلاف الإجماع، قال: لأنهم قد أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بَعُد من البلدان كخراسان والأندلس، وذلك لأن الإجماع لا يتمّ والمخالف هذه الجماعة" أي الجماعة المذكورة في" نيل الأوطار>.

أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد حمل كلام ابن عبد البر على وجه حسن وهو عند التعذر من تبليغ خبر رؤية أهل الشرق لأهل الغرب وخاصة إذا كان الخبر لا يصل إلا بعد شهر، قال رحمه الله تعالى(١٥): <فالضابط أن مدار هذا الأمر على البلوغ لقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته) فمن بلغه أنه رُئي ثبت في حقه من غير تحديد بمسافة أصلا، وهذا يطابق ما ذكره ابن عبد البر في أن طرفي المعمورة لا يبلغ الخبر فيها إلا بعد شهر فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن التي يصل الخبر فيها قبل انسلاخ الشهر فإنها محل الاعتبار>.

هذا وأما قياس مطلع القمر على مطلع الشمس فهو قياس مع ظهور الفارق، ذلك لأن مطلع الشمس نسبي بالإجماع أي يكون مشرقها وزوالها ومغربها يختلف باختلاف مواقع الأقطار على الأرض لمواجهة الشمس للأرض مباشرة، حيث تقابلها يوميا بالتدريج بينما ولادة القمر إنما تكون على وضع كوني مطلق، أي لا يختلف باختلاف الأقطار، ولا يتأثر باختلاف أقاليم الأرض قربا وبعدا، ويدل على ذلك ويؤكده ما ثبت فَلَكيا في مدة مطلع القمر من أقصى بلد إسلامي إلى أقصاه في بلد آخر لا تتجاوز تسع ساعات، فلو كانت ولادة القمر أمرا نسبيا كمطلع الشمس لما حصل الاختلاف الشديد بين الأئمة والعلماء، لذلك لا يستوي قياسا إلحاق المطلق بالنسبي في تقرير اختلاف المطالع وتأكيد اعتباره للفارق الظاهر بينهما، كما أن الاستدلال بالمعقول لا سند له من الشرع، وإنما هو استنتاج عقلي محض لا تقويه الأدلة بل تعارضه على ما هو معلوم من اختلاف العلماء وشدة تنازعهم في تقرير ضابط التباعد، وعليه فإنه إذا ثبتت ولادة القمر شرعا بالرؤية أي في أيّ مطلع فقد انعقد الشهر في حق المسلمين جميعا.

هذا والذي يمكن ترجيحه فقها واختياره من مذاهب العلماء هو القول بتوحيد الرؤية الذي يوجب التوافق بين أحكام الشرع وأوضاع الكون، ويتفق مع رغبة الشريعة الإسلامية في وحدة المسلمين واجتماعهم في أداء شعائرهم الدينية، لا سيما في عصرنا هذا حيث إن طرق الاتصال ميسرة ووسائل الإعلام المختلفة متوفرة تجعل البعيد قريبا والصعب سهلا، إذ تمكّن إعلام عموم المخاطَبين مهما اختلفت ديارهم وبلادهم برؤية الهلال في البلد الذي رُئي به شريطة تقييده باشتراك هذه البلدان مع بلد الرؤية بليل أو جزء منه كما هو الشأن في البلاد العربية، أما البلاد النائية التي تزيد مسافتها الزمنية عن يوم بحيث تكون في نهار عندما تكون بقية البلدان الإسلامية في جزء من الليل مما يوجب استحالة تحقق توحيد الرؤية وأداء فريضتهم من الصوم والإفطار في حقهم ذلك اليوم، فإنها تختص برؤيتها استثناء ولا يقاس غيرها عليها بالنظر إلى وضعها الكونيّ الخاص على الكرة الأرضية، عملا بقاعدة أن" ما ثبت على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس".

على أن الميزان المقاصدي يقتضي أنه إذا ثبت عند وليّ أمر المسلمين وإمامهم الأعلى أحد النظرين المُجتهد فيهما وأصدر حكما على وفقه لزم على جميع من تحت ولايته الالتزام بصوم أو إفطار لاعتقاده بأحقيته في اجتهاده -كما تقدم- ولو في خصوص بلد إسلامي، ولا تجوز مخالفته شرعا قولا واحدا درءً للتنازع ودفعا للمفسدة سواء عند من اعتبر المطالع في ثبوت الأهلة أو من نازعه في هذا الاعتبار.

والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.



(١) () «تبيين الحقائق» للزيلعي (۱/ ٣٢١).

(٢) () «تفسير القرطبي» (٢/ ٢٩٦)، «مجموعة رسائل ابن عابدين» (١/ ٢٥٣).

(٣) () «مجموعة ابن عابدين» (١/ ٢٥٠).

(٤) () «الاستذكار» لابن عبد البرِّ (١٠/ ٢٩)، «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٨٧)، «أحكام القرآن» لابن العربي (١/ ٨٤)، «المغني» لابن قدامة (٣/ ٨٨)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٢٣)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٥/ ١٠٥)، «المجموع» للنووي (٦/ ٢٧٤)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٥٧)، «مجموع رسائل ابن عابدين» (١/ ٢٥١).

(٥) () «الاستذكار» لابن عبد البرِّ (١٠/ ٢٩)، «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٨٧)، «المجموع» للنووي (٦/ ٢٧٣).

(٦) () «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٢٣).

(٧) () «المجموع» للنووي (٦/ ٢٧٣)، «تبيين الحقائق» للزيلعي (١/ ٣٢١).

(٨) () وقصَّة كريب رواها الجماعة إلا البخاري وابن ماجه: أنَّ أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهلَّ عليَّ هلال رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثمَّ قدمت المدينة آخر الشهر، فسألني ابن عبَّاسٍ، ثمَّ ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنَّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أوَلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

(٩) () متَّفقٌ عليه.

(١٠) () متَّفقٌ عليه.

(١١) () «الإحكام في شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق (٢/ ٢٠٧).

(١٢) () «نيل الأوطار» للشوكاني (٥/ ٢٥٩).

(١٣) () «الاستذكار» (١٠/ ٣٠).

(١٤) () (٥/ ٢٥٩).

(١٥) () «المجموع» ( ٢٥/ ١٠٧).