في حكم الأناشيد الإسلامية والدعوة بها | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



الفتوى رقم: ٣٢

الصنف: فتاوى منهجية

في حكم الأناشيد الإسلامية والدعوة بها

السؤال:

ما حكمُ الأناشيد الإسلاميَّة؟ وهل يجوز اتِّخاذُها وسيلةً للدعوة؟

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فتجدرُ الملاحَظةُ ـ أوَّلًا ـ إلى أنَّ تقييدَ الأناشيدِ المتضمِّنةِ للأشعار والأرجاز بكونها «إسلاميَّةً» أو «دِينيَّةً» غيرُ معروفٍ عند خيرِ الناس مِنَ القرون المفضَّلة ولا مَنْ بعدهم، وإنما كانوا يُفرِّقون بين الحَسَنِ والقبيحِ مِنَ الشِّعر والرَّجَز، أو بين المحمود والمذموم، أو بين ما يُكرَه وما يجوز.

أمَّا الأناشيد إِنْ كانت عبارةً عن أشعارٍ أو أرجازٍ تُرنَّم لإظهار السرور بها أو قطعِ المسافات في الأسفار أو ترويحِ النفس، وكانت مُشْتَمِلةً على مَواعِظَ وأمثالٍ وحِكَمٍ، وخاليةً مِنَ المعازف وآلاتِ الطرب باستثناء الدفِّ في العيد والعرس، وكانت سالِمَةً مِنَ الفُحْشِ والخنا ووصفِ مَحاسِنِ المرأةِ والخمرةِ والتشجيعِ على شُرْبِها، وغيرِ ذلك ممَّا يُثيرُ الشهوةَ ويدفع إلى الفاحشة، ولم يتضمَّن الشِّعْرُ شركًا بالله أو كَذِبًا على الله ورسولِه وأصحابه؛ فلا مانِعَ منه إِنْ خَلَا مِنْ ذلك ولا محذورَ فيه، لكنَّ الإكثار منه غيرُ ممدوحٍ بل مرغوبٌ عنه؛ إذ ليس كُلُّ مُباحٍ يُباحُ على الإطلاق، وخاصَّةً إذا كانت تصرف سامِعَها عن قراءةِ القرآنِ أو عن طَلَبِ العلمِ النافع أو الدعوةِ إلى الله تعالى، وقد أقرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم على الشِّعر والرَّجَز والحُداء، وبوَّب البخاريُّ: «باب ما يجوز مِنَ الشعر والرَّجَز والحُداء وما يُكره منه»(١)، وكان البراءُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه يحدو بالرجال، وكان أَنْجَشَةُ يحدو بالنساء وكان حَسَنَ الصوت، فقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالقَوَارِيرِ»(٢)، والحُداءُ في الغالبِ إنما يكون بالرَّجَزِ وقد يكون بغيره مِنَ الشعر، وهو ضربٌ مِنَ الغناء، وشبيهُه غناءُ الرُّكبان وغناءُ النصب؛ وقد نَقَلَ ابنُ عبدِ البرِّ جوازَ هذه الأوجه جميعًا بلا خلافٍ إِنْ سَلِمَ الشعرُ مِنَ الفحش والخنا(٣).

أمَّا الأناشيد المسمَّاةُ إسلاميَّةً، تُقامُ على وجهٍ يُنْشَد الشعرُ بالألحان والتنغيم استجلابًا للتطريب في حِلَقِ الذِّكر وغيرها، وقد يصاحبه بعضُ المعازف وآلاتِ الطرب كالدفِّ والطبل والقضبان وغيرها، فهذا أَشْبَهُ بالتغبير الذي ذمَّهُ الشافعيُّ وأحمد وغيرُهما مِنَ الأئمَّة المتقدِّمين، فقَدْ صحَّ عن الشافعيِّ أنه قال: «خلَّفْتُ بالعراق شيئًا يسمَّى التغبيرَ وضعَتْه الزنادقةُ، يشغلون به الناسَ عن القرآن»(٤)، وصحَّ عن أحمد أنه قال عنه: «بدعةٌ مُحْدَثةٌ».

ويكفي أنَّ المذاهب الأربعة اتَّفقوا على تحريمِ آلات الطرب تحريمًا كُلِّيًّا إلَّا ما استثناه الدليلُ وهو الدُّفُّ في النكاح والعيد، وقد ورَدَتْ نصوصٌ كثيرةٌ مِنَ الكتاب والسُّنَّةِ تذمُّ آلةَ الطرب وتمنعها(٥)، منها: قولُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ: صَوْتُ مِزْمَارٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ، وَصَوْتُ وَيْلٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ»(٦)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ»(٧)، وغيرِها مِنَ الأدلَّة الشرعيَّة.

هذا، وأمَّا اتِّخاذُ اللهوِ والغناء وسيلةً للدعوة إلى الله فلا يخفى على عاقلٍ عَدَمُ مشروعيَّتِه؛ لأنَّ ممارسةَ العمل الدعويِّ ومباشَرتَه دون معرفةِ حُكْمِه والاستنادِ إلى دليلِه الشرعيِّ تحكُّمٌ واتِّباعٌ للهوى، وهو مردودٌ على صاحِبِه؛ إذ لا يجوز الخروجُ عن الحكم الشرعيِّ في المناهج والمقاصد والوسائل؛ لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨[الجاثية]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(٨)؛ فوسائلُ الدعوة إلى الله ينبغي مُوافَقتُها للنصوص الشرعيَّة العامَّة أو الخاصَّة، أو قواعدِ الشرع الكُلِّيَّة، وإذا كانت وسيلةُ الغناءِ تابعةً لمقاصدَ طائفيَّةٍ أو تخدم أغراضًا حزبيَّةً أو جهويَّةً فتُمْنَعُ بحكمِ تبعيَّتِها؛ لأنَّ طُرُقَ المناهي والمكروهاتِ تابعةٌ لها، و«النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَمَّا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إِلَّا بِهِ»، وإذا كانَتْ وسيلةُ الغناءِ تمثِّل شعارًا خاصًّا بجماعةٍ معيَّنةٍ ذاتِ مَنْحًى عقائديٍّ تدعو إليه أو طائفيٍّ أو حزبيٍّ تسير على هَدْيِه فإنَّ الوسيلةَ تُمْنَعُ لِتَعلُّقِ وصفٍ منهيٍّ بها؛ فلذلك سيَّب النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم وسيلةَ النفخِ في البوق للدعوة إلى الصلاة لكونه شعارَ اليهود، وتخلَّى عن الضرب بالناقوس لكونه شِعارَ النصارى، وتَرَكَ إيقادَ النارِ لكونه شِعارَ المجوس(٩).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١ صفر ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ١ مارس ٢٠٠٦م

 



(١) «صحيح البخاري» بشرح «فتح الباري» (١٠/ ٥٣٦)، في «الأدب» باب رقم: ٩٠.

(٢) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الأدب» بابُ ما يجوز مِنَ الشِّعر والرَّجَز والحُداء وما يُكْرَه منه (٦١٤٩)، ومسلمٌ في «الفضائل» (٢٣٢٣)، مِنْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه.

(٣) «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٢٢/ ١٩٧).

(٤) انظر: «الأمر بالاتِّباع والنهي عن الابتداع» للسيوطي (١/ ٨)، و«نزهة الأسماع» للحافظ ابن رجب (ص ٨٦).

(٥) للشيخ الألبانيِّ ـ رحمه الله ـ رسالةٌ نُشِرَتْ في الردِّ على ابنِ حزمٍ ـ رحمه الله ـ ومَنْ تَبِعه في إباحته لآلات الطرب تحقيقًا وتفنيدًا، موسومةٌ ﺑ: «تحريم آلات الطرب».

(٦) أخرجه البزَّار (١/ ٣٧٧/ ٣٩٥). وصحَّحه ابنُ القيِّم في «مسألة السماع» (٣١٨)، وحسَّنه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٤٢٧).

(٧) أخرجه البخاريُّ ـ تعليقًا ـ في «الأشربة» بابُ ما جاء فيمَنْ يَستحِلُّ الخمرَ ويُسمِّيه بغير اسْمِه (٥٥٩٠)، ووَصَله ابنُ حِبَّانَ في «صحيحه» (١٥/ ١٥٤)، والطبرانيُّ في «المُعجَم الكبير» (٣/ ٢٨٢)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٣/ ٢٧٢)، مِنْ حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ رضي الله عنه. انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (١/ ١٨٦) رقم: (٩١).

(٨) أخرجه ـ بهذا اللفظ ـ مسلمٌ في «الأقضية» (١٧١٨)، وأخرجه البخاريُّ في «الصلح» باب: إذا اصطلحوا على صُلْحِ جَوْرٍ فالصلحُ مردودٌ (٢٦٩٧) بلفظ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ...»، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

(٩) انظر ذِكْرَ النار والناقوس في: «صحيح البخاري» (٦٠٣) و«صحيح مسلم» (٣٧٨) مِنْ حديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه؛ وذِكْرَ الناقوس والبوق في: «صحيح البخاري» (٦٠٤) و«صحيح مسلم» (٣٧٧) مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما.