الفتوى رقم: ٦٥٢

الصنف: فتاوى الصلاة - صلاة التطوُّع

في حكم تحية المسجد

السؤال:

ما هو القولُ الراجِحُ في حكمِ تحيَّة المسجد؟ وبارك اللهُ فيكم.

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فالظاهرُ مِن النصوص الحديثية أنَّ تحيَّة المسجدِ واجبةٌ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ»(١)، وفي لفظٍ: «فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ»(٢).

فالحديثُ يدلُّ على وجوبِ ركعتَيْ تحيَّةِ المسجد؛ لأنَّ الأمرَ للوجوب كما في الرواية الأولى، والنهيَ للتحريم كما في الرواية الثانية، وهذا هو الظاهر، ومَنْ أَزالَهما عن الظاهرِ فهو مُحْتاجٌ إلى الدليل.

ومِنْ مُؤكِّدات الإيجابِ حديثُ جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَطَعَ خُطْبَتَه وأَمَرَ سُلَيْكًا الغَطَفَانِيَّ رضي الله عنه أَنْ يُصَلِّيَهُمَا(٣).

وغايةُ ما يَسْتدلُّ به الجمهورُ على أنَّ الوجوبَ مصروفٌ إلى الندب بعضُ النصوصِ الحديثية منها:

ـ أنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ»، فَقَالَ: «هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟» قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»(٤)؛ فهذا يدلُّ على أنَّ تحيَّةَ المسجدِ لَيْسَتْ واجبةً.

ـ وحديثُ: «اجْلِسْ؛ فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ»(٥)؛ فأَمَرَه صلَّى الله عليه وسلَّم بالجلوس ولم يأمُرْه بتحيَّةِ المسجد، وهذا يدلُّ على أنها ليسَتْ بواجبةٍ.

ـ وكذلك حديثُ النَّفَرِ الثلاثة: «أَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ.. فَأمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا…»(٦)؛ فالحديث يفيد أنه لم يأمره صلَّى الله عليه وسلَّم بصلاةِ تحيَّةِ المسجد؛ فدلَّ على عَدَمِ وجوبها؛ إذ لا يُقِرُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على باطلٍ.

فمجموعُ هذه الأدلَّةِ يمكن الجوابُ عنها فيما يلي:

أوَّلًا: يُحْتَمل في حديثِ: «إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» أنه كان قبل أن يجب غيرُها مِن الصلوات؛ فيكون حَصْرُ الصلواتِ الواجبةِ باعتبارِ وقتِ السائلِ الذي سَأَلَهُ فيه، ولم يقل له: إنه لا يجب عليه ما يُوجِبُه اللهُ مِن بعدُ، بل ما أَوْجَبَه اللهُ وَجَبَ، بدليلِ أنَّ صلاةَ الجنازةِ واجبةٌ ولم تُذْكَرْ في محصورِ الحديث. وهذا الجوابُ يصلح ـ أيضًا ـ لحديثِ: «اجْلِسْ؛ فَقَدْ آذَيْتَ...» وحديثِ النَّفَرِ الثلاثة؛ لأنَّ الشريعةَ تَكامَلَتْ شيئًا فشيئًا.

ثانيًا: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما نفى وجوبَ الواجباتِ ابتداءً في قوله: «إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»، لا الواجباتِ بأسبابٍ يختار المكلَّفُ فِعْلَها كدخول المسجد؛ فلا يصحُّ شمولُ هذا الصارفِ وغيرِه لمثلها.

وعليه، فإنَّ إيجاب ركعتَيْ تحيَّةِ المسجد هو الجاري على مقتضى الأوامرِ والنواهي.

والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٥ صفر ١٤٢٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٥ مارس ٢٠٠٧م


(١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» باب: إذا دَخَلَ أحَدُكم المسجدَ فلْيركَعْ ركعتين (٤٤٤)، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين» (٧١٤)، مِن حديث أبي قَتادة السَّلَمِيِّ رضي الله عنه.

(٢) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في«التطوُّع» بابُ ما جاء في التطوُّع مثنى مثنى (١١٦٣)، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين» (٧١٤)، مِن حديث أبي قَتادة الأنصاريِّ رضي الله عنه.

(٣) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الجمعة» باب: مَن جاء والإمامُ يخطب صَلَّى ركعتين خفيفتين (٩٣١)، ومسلمٌ في «الجمعة» (٨٧٥)، مِن حديث جابرٍ رضي الله عنه. والحديث وَرَدَ في قصَّةِ الرجل الذي دَخَلَ المسجدَ والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يخطب، وهو سُلَيْكٌ الغَطَفَانيُّ رضي الله عنه.

(٤) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الإيمان» باب: الزكاةُ مِن الإسلام (٤٦)، ومسلمٌ في «الإيمان» (١١)، مِن حديث طلحةَ بنِ عُبَيْدِ الله رضي الله عنه.

(٥) أخرجه ابنُ ماجه في «إقامة الصلاة» بابُ ما جاء في النهي عن تَخَطِّي الناسِ يومَ الجمعة (١١١٥) مِن حديث جابرٍ رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في «الصلاة» بابُ تَخَطِّي رقابِ الناسِ يومَ الجمعة (١١١٨)، والنسائيُّ في«الجمعة» بابُ النهي عن تَخَطِّي رقاب الناسِ والإمامُ على المنبر يومَ الجمعة (١٣٩٩)، وابنُ حبَّان (٢٧٩٠)، وابنُ خزيمة (١٨١١)، وأحمد (١٧٦٧٤)، والبيهقيُّ (٥٨٨٦)، والحاكم (١٠٦١)، مِن حديث عبد الله بنِ بُسْرٍ رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (١٥٥).

(٦) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «العلم» بابُ مَن قَعَدَ حيث ينتهي به المجلسُ، ومَن رأى فُرْجةً في الحَلْقة فجَلَسَ فيها (٦٦)، ومسلمٌ في «السلام» (٢١٧٦)، مِن حديث أبي واقدٍ الليثيِّ رضي الله عنه.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)