فصل
[في أقل الجمع]

• قال المصنّف -رحمه الله- في [ص ١٩٠]:

«أَقَلُّ الجَمْعِ اثْنَانِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَحَكَى القَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الطَّيِّبِ أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ».

[م] ليس من محلِّ النِّزاع المفهوم من لفظ «الجمع» لغةً إجماعًا؛ لأنَّه ضَمُّ شيء إلى شيء، وذلك موجود في الاثنين والثلاثة وما زاد، كما لا خلاف في أنَّ أقلَّ الجمع في لفظ «الجماعة» في غير الصلاة ثلاثة، وفي الصلاة اثنان، ويخرج أيضًا من محلِّ النِّزاع ما لو قصد المتكلِّم بلفظ الجمع التخفيف، كقول القائل: «ضربتُ رؤوسَ الرَّجُلين» أو «وطئتُ بطونَهما»، ومنه قوله تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا[التحريم: ٤]، كما يخرج عنه تعبير الاثنين عن نفسيهما بضمير الجمع سواء كان ضمير المتكلِّم مُتَّصلًا مثل: «عملنا»، أو منفصلًا مثل: «نحن»، وهذا يصدق ـ أيضًا ـ على الواحد عن نفسه بضمير الجمع، وليس من محلِّ الخلاف الجمع المعرف ﺑ «أل» كالرجال فإنَّه يفيد الاستغراق، وإنما يتعيَّن محلُّ النِّزاع في الجمع المذكَّر السالم المنكَّر ﻛ «مسلمين»، وجمع المؤنَّث السالم: ﻛ «مسلمات»، وجمع الكثرة المنكر ﻛ «جِمَال» و«رِماح»، أو جمع القِلَّة المنكَّر وهو على أربعة أوزان: الأوّل: «أَفْعِلَةٌ» ﻛ «أطعمة»، و«أعمدة»، والثاني: «فِعْلَة» ﻛ «فتية» و«شيخة»، والثالث: «أَفْعَالٌ» ﻛ «أحمال» و«أبواب»، والرابع: «أَفْعُلٌ» ﻛ «أعين» و«أذرع»(١)، كما أنَّ مِن محلِّ النِّزاع «واو» الجمع ﻛ «دخلوا» أو «خرجوا»، والمصنِّف فيها اختار أنَّ أقلَّ الجمع اثنان حقيقةً وعلى الواحد يطلق مجازًا، وهو مذهب القاضي الباقلاني وابن الماجشون(٢) وداود الظاهري وأبي إسحاق الإسفرائيني، وبه قال الخليل بن أحمد(٣) وسيبويه(٤) وعلي بن عيسى النحوي وغيرهم، واستدلَّ المصنِّف بقوله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ[سورة الأنبياء: ٧٨]، فقد جمع الله في الآية بين حكم سليمان وداود بضمير الجمع في قوله: ﴿لِحُكْمِهِمْ﴾ فدلَّ ذلك على أنَّ أقلَّ الجمع اثنان، وأجيب عن هذا الدليل بأنَّ ضمير الجمع يرجع إلى أربعة وهم: الحاكمان: داود وسليمان عليهما السلام، والمحكوم له: وهو صاحب الزرع، والمحكوم عليه: وهو صاحب الغنم. والدليل الثاني الذي احتجّ به المصنِّف على مذهبه قوله تعالى: ﴿فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ[سورة الشعراء: ١٥]، فقد أطلق فيه ضمير الجمع المتمثّل في لفظه ﴿مَعَكُمْ﴾ وأُرجِع إلى موسى وهارون عليهما السلام، واعترض على هذا الدليل بأنَّ الضمير يرجع إليهما وإلى فرعون الذي أُمِرَا بأن يذهبا إليه.

أمَّا دليل المصنِّف من اللغة فقولهم: «ظهراهما مثل ظهور الترسين»، وأجيب عن الاستشهاد بهذا البيت بأنه خارج عن محلِّ النِّزاع؛ لأنَّ المقصود بالجمع في لفظ «ظهور» التخفيف، فإنه لو قال: «ظهري» لثقل اجتماع ما يدلُّ على التثنية فيما هو كالكلمة الواحدة(٥).

والظاهر أنَّ مذهب القائلين أنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة ويطلق على الاثنين والواحد مجازًا أقوى وهو مذهب جمهور أهل العلم لما رواه الحاكم والبيهقي(٦) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أنه دخل على عثمان رضي الله عنه فقال: لِمَ صار الأَخَوان يَرُدَّان الأم إلى السدس، وإنما قال الله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ[النساء: ١١]، والأَخَوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة ؟ فقال عثمان: لا أستطيع تغيير ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس»(٧)، فهذان الصحابيان من أهل اللسان واللغة يتّفقان على أنَّ أقلَّ الجمع ثلاثةٌ وإنما عدل عثمان رضي الله عنه في مسألة حجب الأم من الثلث إلى السدس لوجود قرينة صارفة وهي إجماع من قبله على خلافه، فصحَّ ما قاله ابن عباس رضي الله عنه من أنَّ الأخوين ليسا بإخوة في كلام العرب ولغتهم، الأمر الذي يدلُّ على أنَّ أقلَّ الجمع حقيقة ثلاثةٌ؛ لأنَّ الجمع لا يُطلق على الاثنين إلَّا على وجه المجاز(٨)، وهذا الأثر ـ وإن لم يصحَّ سندُه ـ إلَّا أنه يؤكِّد معناه إجماع أهل اللغة على التفريق بين الجمع والتثنية في الضمير المنفصل، فقالوا في الجمع «هم» وفي التثنية: «هما»، كما فرَّقوا بين الجمع والتثنية بالتوكيد مثل: «أقبل الطلَّاب أنفسهم»، وأمَّا في التثنية فقالوا: «أقبل الطالبان أنفسهما»، كما فرَّقوا بينهما في الضمير المتصل فقالوا في الجمع: «عملوا» و«اعملوا»، وفي التثنية: «عملَا» و«اعملا»، وهذا ما يفسِّر أنَّ مرتبة الجمع غيرُ مرتبة التثنية، فالثلاثة تُنعت بالجمع والجمع يُنعت بالثلاثة، لكن التثنية لا تنعت بالجمع ولا ينعت الجمع بالتثنية، وإذا كان في الاثنين فمن باب أولى الواحد، فدلَّ ذلك على أنَّ أقل الجمع يكون حقيقة في الزائد على الاثنين وهو ثلاثة، ويؤيِّده قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ»(٩)، وبما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «الشَّيْطَانُ يَهِمُّ بِالوَاحِدِ وَالاِثْنَيْنِ فَإِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً لَمْ يَهِمَّ بِهِمْ»(١٠)، والحديثان ظاهران في فصل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بين التثنية والجمع، وجعل للاثنين حكمًا خاصًّا دون الجمع، فظهر جليًّا أنَّ التثنية ليست بجمع حقيقة، ولا يعترض بأثر زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: «الإخوة في كلام العرب أخوان فصاعدا»(١١)؛ لأنَّه ورد في سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد قال عنه الإمام أحمد: «إنه مضطرب الحديث»، وقال عنه يحي بن معين: «لا يحتجُّ بحديثه»(١٢)، ولو ثبت فمراده إفادة ذلك مجازًا، أو حمل كلامه على خصوص مسألة حجب الأم من الثلث إلى السدس بالأخوين(١٣).

والخلاف في هذه المسألة ينبني عليه آثار فقهية منها:

ـ الصلاة على الميت لا تصحُّ إلَّا بثلاثةٍ عند مَن يرى أنَّ أقلَّ الجمع ثلاثةٌ، ولا تصحُّ إلَّا بالاثنين عند من قال أنَّ أقلَّ الجمع اثنان، أو بالواحد عند من يرى أنَّ أقلَّ الجمع واحد.

ـ ومن ذلك من نذر أن يصوم أيامًا من غير تعيينٍ فيلزمه ثلاثة أيام على القول الأوَّل، ويلزمه يومان على القول الثاني، ويوم واحد على القول الثالث.

ـ وكذلك إذا أقسم أن لا يكلِّم الناس فإنه لا يحنث إلَّا إذا كلَّم ثلاثة من الناس خلافًا لمن قال بأنَّ أقلَّ الجمع اثنان أو واحد.

ـ ومن ذلك أيضًا المقرُّ لغيره بدراهم أو ثياب أو بأي جِنس من الأجناس وعبَّر عنه بلفظ الجمع غير المنصوص على عدد(١٤) فإنه يلزمه ثلاثة دراهم أو أثواب على المذهب الأول أو اثنان على المذهب الثاني أو واحد على المذهب الثالث.

 



(١) انظر: «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٢٣٣).

(٢) هو أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله ابن أبي سلمة بن الماجشون التيمي، العلامة الفقيه تلميذ الإمام مالك، وعنه تفقه أئمة كابن حبيب وابن معذل وسحنون، كان فصيحًا مفوهًا، وعليه دارت الفتيا في زمانه بالمدينة، توفي سنة (٣١٢ﻫ).

انظر ترجمته في: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٥/ ٤٤٢)، «التاريخ الكبير» (٥/ ٤٢٤)، «التاريخ الصغير» كلاهما للبخاري (٢/ ٣٠٠)، «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٥/ ٣٥٨)، «طبقات الفقهاء» للشيرازي (١٤٨)، «ترتيب المدارك» للقاضي عياض (١/ ٣٦٠ ـ ٣٦٥)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٣/ ١٦٦ ـ ١٦٧)، «سير أعلام النبلاء» (١٠/ ٣٥٩ ـ ٣٦٠)، «الكاشف» (٢/ ٢١١)، «ميزان الاعتدال» كلها للذهبي (٢/ ٦٥٨ ـ ٦٥٩)، «الديباج المذهب» لابن فرحون (١٥٣ ـ ١٥٤)، «تهذيب التهذيب» (٦/ ٤٠٧ ـ ٤٠٩)، «تقريب التهذيب» كلاهما لابن حجر (١/ ٥٢٠)، «وفيات ابن قنفذ» (٤٠)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٢/ ٢٨)، «الفكر السامي» للحجوي (٢/ ٣/ ٩٤)، «شجرة النور» لمخلوف (١/ ٥٦).

(٣) انظر ترجمته على هامش كتاب «الإشارة» (١٩١).

(٤) انظر ترجمته على هامش كتاب «الإشارة» (١٩٢).

(٥) انظر: المصادر المثبتة على هامش كتاب «الإشارة» (ص ١٩٣).

(٦) هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله البيهقي الخُسْرَوجِرْديُّ، الحافظ الكبير، الفقيه الشافعي، العلامة الثبت، من أجلِّ أصحاب أبي عبد الله الحاكم، والمكثرين عنه، من مشهور كتبه: «السنن الكبرى»، و«شعب الإيمان»، و«دلائل النبوة»، توفي سنة (٤٥٨ﻫ).

انظر ترجمته في: «معجم البلدان» لياقوت (١/ ٥٣٨)، «اللباب» لابن الأثير (١/ ٢٠٢)، «الكامل» لابن الأثير (١٠/ ٥٢)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (١/ ٧٥)، «طبقات الشافعية» للإسنوي (١/ ٩٨)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٨/ ١٦٣)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١٢/ ٩٤)، «وفيات ابن قنفد» (٥٦)، «طبقات الحافظ» للسيوطي (٤٣٢)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٣/ ٣٠٤)، «الفضل المبين» للقاسمي (٣٥٩)، «الرسالة المستطرفة» للكتاني (٣٣).

(٧) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٤/ ٣٣٥)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (٦/ ٢٢٧)، وابن حزم في «المحلى» (٩/ ٢٥٨)، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» وأقرّه الذهبي في التلخيص على صحَّته، قال ابن كثير في «تفسيره» [٢/ ١٩٨ ـ ١٩٩] معقّبًا على ذلك بقوله: «وفي صحَّة هذا الأثر نظر، فإنَّ شعبة هذا تكلَّم فيه مالك بن أنس، ولو كان صحيحًا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به»، ورده الحافظ ـ أيضًا ـ في «التلخيص» (٣/ ٨٥) بقوله: «وفيه نظر، فإنَّ فيه شعبة مولى ابن عباس، وقد ضعَّفه النسائي». والحديث ضعَّفه الألباني في «الإرواء» (٦/ ١٢٢).

(٨) انظر: «المحلى» لابن حزم (٩/ ٢٥٨)، «شرح مختصر الروضة» للطوفي (٢/ ٤٩٨)، والمصادر المثبتة على هامش «الإشارة» (١٩٣).

(٩) أخرجه مالك في «الموطأ» (٣/ ١٤٤)، وأبو داود (٣/ ٨٠)، والترمذي (٤/ ١٩٣) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، والحديث حسَّنه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (٢/ ١٢٤)، والأرناؤوط في «شرح السنة» للبغوي (١١/ ٢١).

(١٠) أخرجه مالك في «الموطأ» (٣/ ١٤٤)، وقال ابن عبد البر: إنه مرسل باتفاق رواة الموطأ على ما نقله الزرقاني في «شرح الموطأ» (٤/ ٢١)، وقال السيوطي في «تنوير الحوالك» (٣/ ١٤٤): «وصله قاسم بن أصبغ من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه».

(١١) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٤/ ٣٣٥)، والبهيقي في «سننه الكبرى» (٦/ ٢٢٧) وقال ابن حجر في «موافقة الخبر الخبر» (١/ ٤٨٣): «هذا موقوف حسن».

(١٢) «تهذيب التهذيب» لابن حجر (٦/ ١٧٠).

(١٣) انظر: «أصول الفقه» لابن مفلح (٢/ ٧٨٣).

(١٤) انظر: «إيضاح المحصول» للمازري (٢٨١)، و«مفتاح الوصول» للتلمساني (٥١٢).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)