فصل
[في بناء العام على الخاص]

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص ١٩٦]:

«إِذَا تَعَارَضَ لَفْظَانِ خَاصٌّ وَعَامٌّ بُنِيَ العَامُّ عَلَى الخَاصِّ، مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّهُ قَالَ: «لاَ صَلاَةَ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ»(١)، فَاقْتَضَى ذَلِكَ نَفْيَ كُلِّ صَلاَةٍ بَعْدَ العَصْرِ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»(٢)، فَأَخْرَجَ بهَذَا اللَّفْظِ الخَاصِّ الصَّلاَةَ المَنْسِيَّةَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَوَاتِ المَنْهِيِّ عَنْهَا بَعْدَ العَصْرِ، سَوَاءٌ كَانَ الخَاصُّ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا».

[م] التمثيل بهذين الحديثين في هذا المقام يضعه علماء الأصول ـ أيضًا ـ مثالًا في مسألة أخرى تعرف ﺑ «تعارض عمومين من كلٍّ وجه» أي أن يكون أحد اللفظين عامًّا من وجه خاصًّا من وجه آخر، فالحديث الأوّل النهي فيه عامٌّ في الصلاة خاصّ في الوقت، والحديث الثاني الأمر فيه عامٌّ في الوقت خاصٌّ في الصلاة، ومن هذا القبيل الأمر بالصلاة والسلام على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عامّ في الوقت خاصّ في الكلام، والنهي عن الكلام حال خطبة الجمعة عامّ في كلّ كلام خاصّ في الوقت، وكذلك الأمر بتحية المسجد عامّ في الوقت خاصّ بالصلاة، والنهي عن الصلاة بعد العصر عامّ في الصلاة خاصّ في الوقت، وفي مثل هذه المسائل ينبغي سلوك المراتب التدريجية، وعند من قال بالترجيح يرى تعذَّر التوفيق الصحيح والجمع المقبول بين عموم الأمر بالصلاة أو الإنصات وعدمه من جهة، وبين خصوص كلا العمومين من وجه معارض بخصوص الآخر من جهة ثانية؛ لأنَّ لكلِّ منهما جهة عموم تطرَّقت إليه ظنِّية الدلالة فلا ينتهض للتخصيص، وعندئذ وجب المصير إلى الترجيح، ووجهه أنَّ العموم في أحد الدليلين إذا ضعفت دلالته بدخول التخصيص عليه، كان العامُّ الذي يقابله أرجح منه؛ لأنَّ العامَّ المحفوظ الذي لم يدخله التخصيص أقوى وأولى بالتقديم من العموم الذي دخله التخصيص.

هذا، ويجوز تخصيص العموم مطلقًا سواء كان اللفظ العامُّ أمرًا ونهيًا أو خبرًا، وسواء كان المخصِّص مَتَّصلًا أو منفصلًا، وسواء عُلِم تاريخ نزول كلّ واحد منهما أو لم يُعلم، وسواء تقدَّم العامُّ على الخاصِّ أو تأخَّر، أو جهل التاريخ فلا يُعلم أيهما المتقدِّم من المتأخِّر وهذا مذهب الجمهور، ولا يصحُّ ذلك إلَّا بدليلٍ صحيحٍ يجب العمل به في صورة التخصيص وإهمال دلالة العامِّ عليها، وتبقى دلالة العامِّ حجّة قاصرة على ما عدا صورة التخصيص. ويكفي الحكم على صحَّة هذا المذهب: عمل الصحابة رضي الله عنهم في الاستدلال بالعمومات وتمسُّكهم بالعامِّ المخصوص مع تقديمهم لدليل الخصوص مطلقًا من غير نظر إلى كون أحدهما متقدِّمًا أو متأخِّرًا مثل قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ[النساء: ١١]، فإنَّ الآية عامّة على جميع الأولاد لكن الصحابة رضي الله عنهم خصَّصوا حقّ التوريث بما إذا لم يكن الولد كافرًا أو قاتلًا لأبيه لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ وَلَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ»(٣)، وبقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «القَاتِلُ لَا يَرِثُ»(٤)، وكذلك يخرج من استحقاق الميراث أولاد الأنبياء بما استدلَّ به أبو بكر الصديق رضي الله عنه على فاطمة ابنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «نَحْنُ مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ»(٥).

والأمثلة عنهم كثيرة في العمل بالخاصّ مطلقًا سواء تقدَّم على العامِّ أو تأخّر عنه أو جهل التاريخ، فلم ينقل عنهم أنهم اجتهدوا في البحث عن تاريخ نزول أحدهما ليعمل بالمتأخّر منهما، فظهر ـ والحال هذه ـ رجحان القول بأنّ الخاصّ يخصِّص العامَّ مطلقًا.

[وجه بناء العام على الخاص عند الأحناف]

• قال المصنِّف في [ص ١٩٧]:

«وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ الخَاصُّ مُتَقَدِّمًا نَسَخَهُ العَامُّ المُتَأَخِّرُ، وَإِنْ كَانَ العَامُّ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَالخَاصُّ مُخْتَلَفًا فِيهِ قُدِّمَ العَامُّ عَلَى الخَاصِّ».

[م] لجمهور الحنفية تفصيل في مسألة بناء العامِّ على الخاصّ ويظهر وجهه:

إمَّا أن يُعلم أنَّ الخاصَّ ورد بعد العامِّ أو ورد العامُّ بعده، وإمَّا أن يُعلم أنهما وردَا معًا، أو يُجهل تاريخ كلٍّ منهما، فإنْ عُلِم أنَّ الخاصَّ ورد بعد العامِّ كان الخاصُّ ناسخًا للعامِّ، فلا يعمل إلَّا بدلالة الخاصِّ، وإن عُلِمَ أنَّ العامَّ ورد بعد الخاصِّ، كان العامّ ناسخًا للخاصِّ، فلا يعمل إلَّا بدلالة العامّ في الحكم الثابت لجميع أفراده، وإن عُلِم ورودهما معًا فإنَّ الخاصَّ مُقدَّم على العامِّ، ويجب العمل بالخاصِّ في صورة التخصيص، والعمل بالعامِّ فيما عدا صورة التخصيص، فإن جهل التاريخ فلا يُعلم المتقدِّم من المتأخِّر فالواجب التوقُّف لاستواء دلالة العامِّ والخاصِّ في القطعية ولا يُرجَّح أحدهما إلَّا بدليل(٦).

وعمدة جمهور الحنفية في تقرير هذا المذهب قول ابن عباس رضي الله عنهما: «وكان صحابةُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يتَّبعون الأحدث فالأحدث من أمره»(٧)، ووجه دلالته ظاهرة في أنّ المتأخّر أولى بالعمل من المتقدّم سواء كان المتأخّر هو الخاصّ أو هو العامّ، أمَّا حال المقارنة بينهما فإنّ الخاصّ يقيّد العامّ ويخصّصه، ويلزم التوقّف ـ عند عدم العلم بتاريخ المتقدّم من المتأخّر ـ حتى يأتي دليل مرجِّح لأحدهما.

والمذهب الأوّل أقوى وهو أنّ النصّ الخاصّ يخصّص اللفظ العامّ مطلقًا لإجماع الصحابة رضي الله عنهم ـ كما تقدّم ـ ولأنّ تخصيص العامّ بالخاصّ إعمال لكلّ واحد منهما وهو جمع بين الدليلين، بينما العمل بالنسخ أو التوقّف إهمال لأحد الدليلين أو لكليهما، و«الإِعْمَالُ أَوْلَى مِنَ الإِهْمَالِ»، و«الجَمْعُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّسْخِ وَالتَّوَقُّفِ».

أمَّا الأثر المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو زيادة مدرجة من قول الزهري، وبذلك جزم البخاري(٨)(٩)، وفي بيان هذا المعنى ترجم ابن خزيمة في أحد أبواب «صحيحه» بقوله: «باب ذكر البيان على أنَّ هذه الكلمة «إنما يؤخذ بالآخر» ليس من قول ابن عباس»(١٠)، فضلًا عن أنه معارَضٌ بعمل الصحابة رضي الله عنهم، وعلى تقدير صحَّة الأثر فيحمل على ما إذا كان الأحدث خاصًّا للجمع بين الدليلين.

هذا، وإنما آل بالأحناف إلى هذا التقرير هو البناء على قاعدتهم أنَّ دلالة العامِّ قطعية كدلالة الخاصِّ(١١)، وقد فنَّد المصنِّف هذا القول في آخر الفصل ببيانه أنَّ الخاصَّ قطعي يتناول الحكم على وجه لا يحتمل التأويل، والعامّ ظنّي فهو يتناول الحكم على وجه يحتمل التأويل، والقطعي أولى بالتقديم على الظنّي في كُلِّ الأحوال مطلقًا تقديمًا للقوي على ما دونه، فكان الخاصّ أولى من العامّ مطلقًا.

ومن أهمِّ ما يتفرَّع عن هذه المسألة: جواز تخصيص العامّ من الكتاب أو السنّة المتواترة بالدليل الظنِّي، فالجمهور يجيزون هذا التخصيص؛ لأنَّ العامَّ ـ عندهم ـ ظنّي الدلالة، فيصحّ تخصيصه بالظنّي كخبر الآحاد، والقياس الذي ثبتت علّته بنصّ أو إجماع، بخلاف الأحناف فيمنعون هذا التخصيص؛ لأنّ العامّ قطعيّ إذا ورد من الكتاب أو السنّة المتواترة، والقطعي في ثبوته ودلالته لا يصحُّ تخصيصه بالظنِّي. ولا يخفى كثرة الآثار التطبيقية المترتّبة على هذه المسألة، منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى[البقرة: ١٧٨]، فالآية تفيد عموم القصاص سواء كان المقتول مسلمًا أو كافرًا، وقد خصّص الجمهور هذه الآية بحديث: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»(١٢) عملًا بأنَّ دلالة العموم ظنّية يصحّ تخصيصها بظنّيٍّ آخر كخبر الواحد سواء أكان هذا الدليل الخاصّ نزل قبل العموم أو بعده أو جُهِل تاريخهما، بخلاف الأحناف حَكَّموا العموم لدلالته القطعية، بينما الحديث ظني لا يصلح للتخصيص أوّلًا وهو قابل للتأويل ثانيًا، وقد أوَّلوه بقتل المسلم للكافر الحربي، فلو كان الخاصّ قطعيًّا في ثبوته ودلالته كالحديث المتواتر، ونزل بعد الآية متراخيًا فإنه يكون ناسخًا للعامِّ في القدر الذي اختلفَا فيه متى تساوى معه في الثبوت.

 



(١) سيأتي تخريجه، انظر: الرابط.

(٢) سيأتي تخريجه، انظر: الرابط.

(٣) متفق عليه: أخرجه البخاري (١٢/ ٥٠)، ومسلم (١١/ ٥٢)، وأبو داود (٣/ ٣٢٦)، وابن ماجه (٢/ ٩١١)، والترمذي (٤/ ٤١٣)، والبغوي في «شرح السنّة» (٨/ ١٥٤)، من حديث أسامة ابن زيد رضي الله عنهما.

(٤) أخرجه الترمذي (٤/ ٤٢٥) وابن ماجه (٢/ ٩١٣)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث صحّحه الألباني في «الإرواء» (٦/ ١١٧)، وفي «صحيح الترمذي» (٢/ ٤٢٤)، وفي «صحيح ابن ماجه» (٢/ ٣٤٨).

(٥) تقدَّم تخريجه في الرابط من حديث عائشة رضي الله عنها.

(٦) انظر: «ميزان الأصول» للسمرقندي (٣٢٣)، و«فواتح الرحموت» للأنصاري (١/ ٣٤٥).

(٧) أخرجه مالك في «الموطأ» (١/ ٢٧٥)، ومسلم (٧/ ٢٣١)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ٣١٠) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(٨) هو أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري الجعفي، أمير المؤمنين في الحديث، شهد له الأئمة بعلوِّ منزلته وعظيم قدره، فأخباره مع شيوخه وأهل العلم، وأخبار حفظه وإتقانه كثيرة، له رحلتان روى عن أحمد وغيره، وروى عنه مسلم والترمذي والنسائي وسواهم، شهرته تقوم على كتابه «الجامع الصحيح»، وقد اتفقت الأمة على أنه أصحّ كتب الدين بعد المصحف الكريم، وللبخاري تصانيف أخرى، منها: «التاريخ الكبير»، و«التاريخ الأوسط»، و«التاريخ الصغير»، و«الأدب المفرد»، و«الكنى» توفي -رحمه الله- سنة (٢٥٦ﻫ).

انظر ترجمته في: «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٧/ ١٩١)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (٢/ ٤، ٣٣)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٤/ ١٨٨)، «اللباب» لابن الأثير (١/ ١٢٥)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٢/ ٣٩١)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١١/ ٢٤، ٢٦)، «التهذيب» لابن حجر (٩/ ٤٧)، «طبقات المفسرين» للداودي (٢/ ١٠٤)، «مرآة الجنان» لليافعي (٢/ ١٦٧)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٢/ ١٣٤).

(٩) «صحيح البخاري» (٨/ ٣).

(١٠) «صحيح ابن خزيمة» (٣/ ٢٦٢).

(١١) انظر: «كشف الأسرار» للبخاري (١/ ٣٠٤).

(١٢) أخرجه البخاري (١/ ٢٠٤)، والترمذي (٤/ ٢٣)، وابن ماجه (٢/ ٨٨٧) من حديث علي ابن أبي طالب رضي الله عنه.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)