فصل
[في خبر التواتر والآحاد]

[في خبر التواتر]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٣٣]:

«فَالتَّوَاتُرُ: مَا وَقَعَ العِلْمُ بمُخْبَرِهِ ضَرُورَةً مِنْ جِهَةِ الخَبَرِ».

[م] هذا الفصل وما بعده يتعلَّق بالخبر من حيث سندُه، ومعنى تعريف المصنِّف للتواتر: هو الخبرُ الذي رواه جمعٌ يحصل العلمُ بصِدقهم ضرورةً بأن لا يحتمل العقل تواطؤهم على الكذب، أو صدوره منهم اتفاقًا عن مثلهم من أول الإسناد إلى آخره، ويكون ممَّا يدرك عن طريق الحسّ لا العقل.

وقول المصنِّف: «ضرورةً» أي: من شرط الخبر المتواتر إفادته العلم اليقيني بالمخبر عنه، وهذا مذهب أهل الحقِّ خلافًا للسُّمَنية(١) والبراهمة(٢) الذين يعتقدون أنَّ خبر التواتر يفيد الظنَّ، وقد مثل المصنف -رحمه الله- بحصول العلم ببعض البلدان ﻛ «الصين» و«الهند» والأنبياء السابقين والعلماء والسلاطين والوقائع والغزوات ونحو ذلك.

ومفهوم قوله: «ضرورة»: أنَّ العلم الحاصلَ بالمتواتر يقينيٌّ وليس نظريًّا، وهو مذهب الجمهور وهو الصحيح، أي أنّ العلم الحاصل بالمتواتر علمناه بالضرورة من غير نظر ولا استدلال؛ لأنَّه لو كان المتواتر نظريًّا لم يقع إلَّا لمن اكتسب درجةَ النظر والاستدلال، وللزم اختلاف العلماء فيه؛ ولأنّ كلَّ ذي لُبٍّ مضطر إلى التصديق بوجود «مكة» والبلاد الأخرى التي لم يرها ولم يدخلها، وهذا على خلاف مذهب ابن القطان(٣) والدقاق وغيرِهما الذين يرون أنَّ المتواتر يحتاج إلى نظر لذلك قالوا: إنَّ العلم به نظري وليس بضروري، إذ لا يحصل العلم إلَّا بمقدمتين:

الأولى: أنَّ المخبرين يستحيل تواطؤهم على الكذب.

والثانية: أنَّهم اتفقوا على الإخبار عن واقعة واحدة كوجود مكَّة مثلًا.

والصحيح أنَّ المقدّمتين حصلتَا في أوائل الفطرة، ولا تحتاج إلى كبير تأمّل وفكر، ومِثْل ذلك لا يُسمَّى نظريًّا؛ لأنّ النظري يتوقّف على أهلية النظر، وفي هذه المسألة أقوال أخرى كالوقف ذهب إليه الآمدي، وتردَّد بعضُهم بين النظري والضروريّ(٤).

والخلافُ بين المذهبين السابقين خلافٌ لفظيٌّ لا ثمرةَ له لاتفاقهما على النتيجة، واختلافهم في الطريق إليها، لذلك يذهب بعضُ المحقِّقين إلى عدم اشتراط إفادته العلم اليقيني الضروري؛ لأنَّه يترتَّب على شروط المتواتر، فحيثما اجتمعت حصل العلم(٥)

[في خبر الآحاد وإفادته الظنّ عند الجمهور]

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص ٢٣٤] في معرض ذكر خبر الآحاد:

«لاَ يَقَعُ بهِ العِلْمُ وَإِنَّمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ السَّامِعِ لَهُ صِحَّتُهُ لِثِقَةِ المُخْبرِ بهِ».

[م] ما قرَّره المصنِّف من إفادة خبر الواحد للظنِّ هو مذهب جمهور العلماء؛ لأنَّه لو كان يفيد العلم لحصل ذلك بخبر الأنبياء عن بعثهم وإرسالهم من غير ما حاجة إلى إظهار المعجزات الدالَّة على صدقهم؛ ولأنَّه لو كان مفيدًا للعلم لوجب على القاضي أن يصدق المدعي من غير بيِّنة؛ لأنَّ العلم يحصل بقوله، وإذا ثبت أنَّه لا يصدقه إلَّا ببينة دلَّ ذلك على أنَّ خبر الواحد بمجرّده لا يكفي في إفادة العلم، ومن الأدلة العقلية ما ذكره المصنِّف: من أنَّ المخبر ـ وإن كان ثقةً ـ يجوز عليه الغلط والسهو كالشاهد.

[في حجّة من قال بوقوع العلم بخبر الواحد]

• قال الباجي -رحمه الله- في الصفحة نفسها عن محمَّد بن خُوَيْزَ مِنْدَادٍ أنَّه قال: «يَقَعُ العِلْمُ بخَبَرِ الوَاحِدِ».

[م] وهذا مذهب أهلِ الظاهر كداود وابن حزم، وبه قال الحسين الكرابيسي، والحارث المحاسبي، وهو رواية عن الإمام أحمد، وحُجَّتُهم أنَّ الله تعالى قال: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ[الإسراء: ٣٦]، وقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ[البقرة: ١٦٩؛ الأعراف: ٣٣]، ثمَّ أمرنا بالعمل بخبر الواحد، وهذا يدلُّ على أنَّ خبر الواحد يفيد العلم.

وجوابه: أنَّه لا يلزم إفادته للعلم وإنَّما وجب العمل به لغلبة الظنّ، كما هو الأمر بالنسبة للقياس فإنَّه يجب العمل به مع إفادته للظنِّ، وكذلك يجب العمل بقول الشاهدين وبقول المفتي بالنسبة للمستفتي مع أنَّه لا يفيد العلم.

وفي هذه المسألة قول آخر يرى أصحابه: أنَّ خبر الواحد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن تُؤيِّده كأن تتلقَّاه الأُمّة بالقَبول، أو لا يُنكره أحد ممَّن يعتقد بقوله أو ينقل الخبر من طرق متساوية لا تختلف، أو يروي خبر الواحد راوٍ متَّصف بالعدالة والثقة والإتقان، فإن توفرت هذه القرائن في خبر الواحد أفاد العلم بإجماع.

والتحقيق أنَّ خبر الواحد إذا احتف بقرائن خرج عن محلِّ النِّزاع؛ لأنَّ النزاع في خبر الواحد المجرَّد عن القرائن، وبناء عليه فمذهب الجمهور أقوى في الاعتبار والنظر.

والخلاف بين العلماء في هذه المسألة لفظيٌّ لاتفاقهم على وجوب العمل بخبر الواحد من حيث التطبيق الفرعي سواء أفاد العلم أو الظنّ. أمَّا من حيث الترجيح بالسند فقد يكون معنويًّا؛ لأنَّ الخبر المفيد للعلم يرجح على الخبر المفيد للظنِّ.

 



(١) السُّمَنِيَّةُ: فرقة تنسب إلى (سومنا) بلد في الهند، وكانوا يعبدون صنمًا اسمه (سومنات) كسره السلطان محمود بن سُبُكتكين، ولهم معتقدات غريبة وفاسدة كالقول بتناسخ الأرواح، وقدم العالم، وإنكار النظر وغيرها. [انظر: «الفَرْق بين الفِرَق» للبغدادي (١٧٠)، «فواتح الرحموت» للأنصاري (٢/ ١١٣)].

(٢) البراهمة فرقة ضالة ظهرت في الهند تنسب إلى رجل يقال له: (برهام) كان يقول بنفي النبوات ووقوعها مستحيل في حكم العقل، ولها ضلالات أخرى، وانقسمت إلى فرق. [انظر: «الملل والنحل» للشهرستاني: (٣/ ٣٤٢)].

(٣) هو أبو الحسن علي بن محمَّد بن عبد الله الحميري الكتاني الفاسي الحافظ ابن القطان قاضي الجماعة، كان من أبصر الناس بصناعة الحديث وأشدُّهم عناية بالرواية وأسماء الرجال صنف «الوهم والإيهام على الأحكام الكبرى لعبد الحقّ الإشبيلي»، توفي -رحمه الله- سنة (٦٢٨ﻫ).

[انظر: ترجمته في: «سير أعلام النبلاء» للذهبي: (٢٢/ ٣٠٦)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٥/ ١٢٨)، «شجرة النور الزكية» لمخلوف (١٧٩)].

(٤) انظر هذه المسألة في المصادر المثبتة على هامش كتاب «الإشارة» (٢٣٤).

(٥) «قواعد أصول الحديث» د. أحمد عمر هاشم (١٤٣).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)