فصل
[في موارد إجماع نسخ القرآن والخبر المتواتر والآحاد]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٦٧]:

«لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ فِي جَوَازِ نَسْخِ القُرْآنِ بالقُرْآنِ، وَالخَبَرِ المُتَوَاتِرِ بمِثْلِهِ، وَخَبَرِ الوَاحِدِ بمِثْلِهِ».

[م] هذه المذكورات في نصِّ المؤلِّف حصل فيها اتفاق أهل العلم(١)، لجوانب منها:

أولًا: بخصوص نسخ القرآن بالقرآن فمستند الإجماع قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا[البقرة: ١٠٦]؛ ولأنَّه وقع فعلًا و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الجَوَازِ»، كنسخ الفداء بالمال عن الصيام، ونسخ عِدَّة المتوفى عنها زوجها من سنة كاملة إلى أربعة أشهر وعشرٍ، ولأنَّ رتبة كلٍّ منهما متحدة لأنَّ كلَّ واحد منهما قطعي الثبوت.

ثانيًا: بخصوص نسخ السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة، فقد حصل فيها الإجماع لعدم الامتناع عقلًا لنسخ المتواتر بمثله إلحاقًا قياسيًّا بالقرآن، ولاتحادهما في الرتبة؛ لأنَّ كلَّ واحد منهما قطعيُّ الثبوت، غير أنَّه لم يعلم وقوعه، قال الفتوحي(٢): «وأمَّا مثال نسخ متواتر السُّنَّة بمتواترها، فلا يكاد يوجد؛ لأنَّ كلّها آحاد، إمَّا في أولها، وإمّا في آخرها، وإمَّا في أوَّل إسنادها إلى آخره، مع أنّ حكم نسخ بعضها ببعض جائز عقلًا وشرعًا»(٣).

ثالثًا: وحصول الاتفاق على نسخ خبر الواحد بمثله لوقوعه ـ أولا ـ و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الجَوَازِ» مثل: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ بِالآخِرَةِ»(٤)، ولاتحادهما في الرتبة ثانيًا؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما ظنيّ الثبوت.

[في نسخ القرآن بالخبر المتواتر]

• قال المصنف -رحمه الله- في الصفحة السابقة نفسها:

«وَذَهَبَ أَكْثَرُ الفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ القُرْآنِ بالخَبَرِ المُتَوَاتِرِ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ».

[م] القول بجواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر هو مذهب الجمهور من أصحاب المذاهب الأربعة، وهو مذهب المتكلِّمين والمعتزلة، وبه قال الظاهرية على التحقيق، ومذهب أحمد في المشهور عنه: الجواز عقلًا لا شرعًا، وبه قال أبو يعلى، والمنقول عن الشافعي المنع مُطلقًا، ونصره بعض أتباعه وابن مهدي الطبري(٥)(٦).

وفي المنصوص عن مذهب الشافعي في «الرسالة» عدم جواز نسخ القرآن بالسُّنَّة مُطلقًا من غير تفريق بين المتواتر والآحاد، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، غير أنّ النصَّ الوارد في «الرسالة» غير صريحٍ في المنع من جهة العقل، لذلك اختلفت الشافعية في نسبة المنع العقلي إلى مذهب الشافعي، وقد حقَّق السبكيُّ وابنه مذهبَه في هذه المسألة، يظهر حاصلها: أنَّ الشافعي يرى أنَّه إذا نُسِخَ القرآنُ بالسُّنَّة فيلزم أن يصاحب السُّنَّةَ قرآنٌ يعضِّدها، وإذا نُسِخَت السُّنةُ بالقرآن فيلزم أن يصاحب القرآنَ سُنَّةٌ تعضِّدُهُ ليبيِّنَ توافق الكتاب والسُّنَّة(٧).

هذا، وما رجَّحه المصنِّف من جواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر أقوى، سواء من جهة العقل أو الشرع، وقد استدلَّ له عقلًا أنَّ كليهما مقطوع بصحَّته، أي: لا فرق بين القرآن والسُّنَّة المتواترة من جهة المصدر؛ لأنّهما وحيان صادران من الله تعالى، ولا من جهة السند؛ لأنَّ كليهما متواترٌ قطعيُّ الثبوت، وما دام أنَّ لكل واحدٍ منهما نفس خاصية الآخر جاز نسخ القرآن بالخبر المتواتر كما يجوز نسخ القرآن بالقرآن إلحاقًا قياسيًّا.

[في وقوع نسخ القرآن بالسنة المتواترة]

• قال المصنِّف بعدها:

«وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ[البقرة: ١٨٠] مَنْسُوخٌ بمَا رُوِيَ عَنْهُ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»».

[م] استدلَّ المصنِّف شرعًا على وقوع نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترةِ بأنَّ آيةَ الوصِيَّةِ منسوخةٌ بحديث منعِ الوصية للوارث، و«الوُقُوعُ دَلِيلُ الجَوَازِ»، وقد اعتُرض على ذلك بأنَّ آيةَ الوصية إنَّما كان نسخُها بآية الميراث في قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ[النساء: ١١]، فيكون نسخُ القرآن بالقرآن لا بالسُّنَّة المتواترة، وإنَّما أشار النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى ما بَيَّنَتْهُ آيةُ الميراث من سهام الوالدين والأقربين بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»(٨)، وأجيب على هذا الاعتراض بأنَّ آيةَ الوصيةِ منسوخةٌ بآية الميراث مع ضميمة أخرى وهي الحديث المتواتر: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» إذ لا يخفى أنَّ الميراث لا يمنع من الوصية للأجانب والأقربين غير الوارثين.

كما اعتُرض: أنَّ آية الوصية لم يقع نسخها بالحديث المتواتر لأنَّ حديث: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» خبر الواحد، وهو لا يَقْوَى على نسخِ ما ثبت بالقرآن، وأُجيب بأنّ المتواتر من حيث قوتُه نوعان: متواترٌ من حيث السندُ، ومتواتر من حيث ظهورُ العمل به من غير نكير.

فأمَّا الأوَّل فالحديث رواه جمعٌ من الصحابة وله طرق متعدِّدة، وإن كان في موضع سنده قوي، وفي آخر ورد من طرق لا يخلو إسناد منها من مقال، لكنَّه بمجموعها يتعضّد الحديث ليثبت تواتره عند الانضمام كما هو مقرَّر في الأصول وبيَّنه أهل الحديث(٩).

وإن سُلِّم جدلًا أنَّ الحديث لم يرتق إلى مرتبة التواتر؛ فإنَّ ظهور العمل به من غير نكير من رجال العلم وأئمَّة الفتوى بلا منازع يُغني الناس عن روايته، وهذا النوع الثاني، فكيف إذا اجتمع النوعان معًا ؟

 



(١) نقل الإجماع في هذه المسألة ابن حزم في «الإحكام» (٤/ ١٠٧)، والسرخسي في «أصوله» (٢/ ٦٧)، والآمدي في «الإحكام» (٢/ ٢٦٧)، وابن نجيم في «فتح الغفار» (٢/ ١٣٣)، والأنصاري في «فواتح الرحموت» (٢/ ٧٦)، والشوكاني في «إرشاد الفحول» (١٩٠)، والكراماستي في «الوجيز» (٦).

(٢) هو أبو البقاء تقي الدين محمَّد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي المصري الحنبلي، الإمام الأصولي اللغوي المتقن الشهير ﺑ «ابن النجَّار»، ولد بمصر سنة (٨٩٨ﻫ)، وانتهت إليه رئاسة المذهب الحنبلي له مصنفات أشهرها: «منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات» في الفروع و«الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير» في أصول الفقه، توفي سنة (٩٧٢ﻫ).

انظر ترجمته في: «مختصر طبقات الحنابلة» للشطي (٨٧)، «المدخل» للإمام أحمد لابن بدران (٤٣٦، ٤٦٢)، «الأعلام» للزركلي (٦/ ٢٣٣)، «معجم المؤلفين» لكحالة (٣/ ٧٣)، مقدمة «شرح الكوكب المنير» للمحققين محمَّد الزحيلي، ونزيه حماد (١/ ٥).

(٣) «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٣/ ٥٦٠).

(٤) سبق تخريجه، انظر: الرابط.

(٥) هو أبو منصور طاهر بن مهدي الطبري، فقيه شافعي، كان عالِمًا بالتواريخ والأدب والوفيات، ذكره السمعاني وابن الصلاح، توفي سنة (٥٣٢ﻫ). [انظر: «طبقات الشافعية» للإسنوي (٢/ ٦٦)].

(٦) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش كتاب «الإشارة» (٢٦٧ ـ ٢٦٨).

(٧) «الرسالة» للشافعي (١٠٨)، «العدة» لأبي يعلى (٣/ ٣٨٨)، «التبصرة» للشيرازي (٢٦٤)، «شرح اللمع» للشيرازي (١/ ٥٠١)، «البرهان» للجويني (٢/ ١٣٠٧)، «المستصفى» للغزالي (١/ ١٢٤)، «المنخول» للغزالي (٢/ ٢٩٢)، «الإحكام» للآمدي (٢/ ٢٧٢)، «الإبهاج» للسبكي وابنه (٢/ ٢٤٧)، «جمع الجوامع» لابن السبكي (٢/ ٧٨).

(٨) تقدم تخريجه، انظر: الرابط.

(٩) انظر: «نصب الراية» للزيلعي (٤/ ٤٠٣ ـ ٤٠٥)، «التلخيص الحبير» لابن حجر (٣/ ٩٢)، «فيض القدير» للمناوي (٢/ ٢٤٥)، «إرواء الغليل» للألباني (٦/ ٨٧ ـ ٩٦).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)