فصل
[في حكم شرع من قبلنا]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٧٢]:

«ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابنَا وَأَصْحَابِ أَبي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا لاَزِمَةٌ لَنَا إِلاَّ مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى نَسْخِهِ».

[م] في تحرير محلِّ النِّزاع ينبغي التفريق بين حالتين مجمع عليهما وثالثة مختلف فيها:

الحالة الأولى: أن يثبت أوَّلًا أنَّه شرع لمن قبلنا، وذلك بطريقٍ صحيحٍ، وأن يثبت ـ ثانيًا ـ أنَّه شرع لنا، فشرع من قبلنا بهذا الاعتبار شرع لنا إجماعًا مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ[البقرة: ١٨٣].

الحالة الثانية: إن لم يثبت بطريقٍ صحيحٍ كالمأخوذ من الإسرائيليات، أو ثبت بطريقٍ صحيح أنَّه شرع من قبلنا، لكن ورد في شرعنا التصريح بنسخه، فشرع من قبلنا بهذا الاعتبار ليس شرعًا لنا إجماعًا، كالإصر والأغلال التي كانت عليهم فهي موضوعة في شرعنا، قال تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ[الأعراف: ١٥٧].

الحالة الثالثة: وهي محلّ النِّزاع في شرع من قَبْلَنَا، وذلك إذا ثبت بطريق صحيح من كتاب الله أو سُنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ولو كانت من أخبار الآحاد، ولم يرد في شرعنا ما يُؤيِّده ويقرِّره ولا ما يبطله وينسخه، فإنَّ ما عليه الأكثرون أنَّ شرع من قبلنا بهذا الاعتبار حُجَّة يقتضي العمل به لوجوب العمل بجميع نصوص الكتاب والسُّنَّة الصحيحة(١)، وإن كان الظاهر المتقرّر في علم الأصول أنَّ شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وهو مذهب الشافعي وبه قال ابن حزم، لقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[المائدة: ٤٨]، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلي.. (وآخرها) وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً»(٢)، وفي الحديث دلالة صريحة على أنَّ شريعة غير نبيِّنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم لا تلزمنا من ناحية أنَّ الله تعالى لم يبعث إلينا أحدًا من الأنبياء غيره، وإنما كان غير النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يبعث إلى قومه فقط لا إلى غير قومه(٣).

والخلاف وإن كان له أثر معنويٌّ إلَّا أنَّ مَن احتجَّ به لم يستدلَّ به مستقلًّا، بل عضَّده بدليلٍ ثابتٍ في شرعنا، ومن أبطله فإنه ـ غالبًا ـ ما يستأنس بنصوصٍ تُذكر في شرع من قبلنا.

ومن الفروع الفقهية التي ذكر فيها الأخذ بشرع من قبلنا هي:

١ ـ في الأفضل في الأضحية، فمذهب مالك أنَّ الأفضل في الضحايا الكباش ثمَّ البقر ثمَّ الإبل، وعمدته شرع من قبلنا من جهتين: الأولى فيما فعله إبراهيم عليه السلام من فداء ولده بكبش، والثانية: إنَّ الذِّبح العظيم الذي فدى به إبراهيم عليه السلام سُنَّة باقية إلى اليوم، وأنها الأضحية وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ[سورة الصافات: ١٠٨]، وعضَّده بما ثبت عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه ضحَّى بالكبش(٤)، وكذلك فعل ابن عمر رضي الله عنهما وغيرُه.

أمَّا مذهب الشافعي وأحمد، فإنَّ الأفضل الإبل، ثمَّ البقر، ثمَّ الغنم، لعموم قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا»(٥)، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم عندما سُئل: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَل ؟ قال: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا»(٦)، وقياسًا على الهدي بجامع القربة بالحيوان، فكانت البدنة فيه أفضل، وأنَّ ما فعله رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فقد فعل ما يجزي في الدم فأعلاه خير منه(٧)، وذلك دلالة قوله صلَّى الله عليه وسلَّم، والقول أقوى من الفعل، وأرجح منه.

٢ ـ في حكم الجُعالة، فمن اعتبرها شرع من قبلنا استدلَّ بقوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ[سورة يوسف: ٧٢]، وهو مذهب مالك اعتمادًا على أصله في الأخذ بشرع من قبلنا ما لم يرد نسخه، والشافعية وإن كانوا لا يعتبرون بشرع من قبلنا في الحُجِّية إلَّا أنهم يستأنسون به على خبر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه رقى رجلًا بفاتحة الكتاب على قطيع من الغنم وشارطه على البرء(٨)، والأحناف وإن كانوا يعتبرون حُجِّية الأخذ بشرع من قبلنا إلَّا أنَّ الجعالة تتضمَّن معنى الغرر المنهي عنه، ذلك لأنَّ الجعالة إجارة، والإجارة تفسدها جهالة المنفعة المعقود عليها، الأمر الذي يفضي إلى المنازعة فيمنع(٩).

٣ ـ في جعل المنفعة مهرًا، فمن رأى جواز جعل المنفعة صداقًا استدلّ بقوله تعالى: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ[سورة القصص: ٢٧]، فكان هذا شرعُ من قبلنا شرعًا لازمًا لنا حتى يرد الدليل على ارتفاعه، ومن منع الاحتجاج بشرع من قبلنا قال: لا يجوز النكاح بالإجارة(١٠).

٤ ـ في ضمان ما تتلفه الدواب، فمن اعتمد الأخذ بشرع من قبلنا على ما أفسدته الدواب ليلًا فهو مضمون على أصحابها، ولا ضمان عليهم فيما أفسدته في النهار عَمِلَ بقوله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ[الأنبياء: ٧٨]، والنَّفْشُ عند أهل اللغة لا يكون إلَّا بالليل، وهذا عمدة مالك -رحمه الله- في العمل بشرع من قبلنا، والشافعي -رحمه الله- وإن لم يأخذ بهذا الأصل إلَّا أنه أخذ به على وجه الاستئناس وعُضِّد ذلك «بقضاء رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأنَّ ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها»(١١)، وأبو حنيفة -رحمه الله- استدلَّ على عدم الضمان مُطلقًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «جُرْحُ العَجْمَاءِ جُبَارُ»(١٢)، ولم يعمل بشرع من قبلنا ـ وهو من أصوله ـ لورود في شرعنا ما ينسخه(١٣).

[في تعبُّد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بشرع من قبله]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٧٣]:

«وَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبيِ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»(١٤)، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي[سورة طه: ١٤]، وَإِنَّمَا خُوطِبَ بذَلِكَ مُوسَى عليه السلام فَأَخَذَ بهِ نَبيُّنَا مُحَمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم».

[م] في مسألة تعبُّد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بشرع مَن قبلَه من الأنبياء فقد وقع الخلاف بين أهل العلم في حالتين:

الأولى: في تعبُّد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قبلَ البعثة بشرع مَن قبله، وبالجملة اختلفوا فيها على مذاهب:

إنَّه متعبّد بشريعة مَن قبلَه مع اختلافهم في تعبّده هل كان على سبيل الإطلاق أم على سبيل التعيين ؟ وقال بعض الحنفية والمالكية: إنّه غير متعبّد بشريعة من قبلَه، وتوقّف في ذلك القاضي عبد الجبار والجويني والغزالي والآمدي وغيرهم.

الثانية: في تَعبُّدِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد البعثة بشرع مَن قبلَه، والظاهر من المانعين من تعبُّده قبل البعثة نفيهم التعبُّد بعد البعثة، وأمَّا المثبتون والمتوقُّفون فقد اختلفوا على قولين:

لم يكن متعبِّدًا باتباعها بل كان منهيًّا عنها، وبه قال أبو إسحاق الشيرازي في آخر قوليه واختاره الغزالي، وما عليه أكثر الحنفية وجمهور الشافعية والمالكية وطائفة من المتكلمين أنَّه كان متعبّدًا بشرع مَن قبلَه إلَّا ما نسخ منه واختاره الرازي(١٥).

ولا يخفى أنَّ كلَّ رسولٍ إنَّما تعبَّده اللهُ بشريعةٍ خاصَّةٍ به، أمَّا الدِّينُ الجامع وهو الإسلام فهو عامٌّ لسائر الأنبياء والمرسلين، وهذا هو المقصود من توحيد المِلَّة والدِّين، وتعدّد الشرائع والمناهج(١٦)، لقوله تعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا[المائدة: ٤٨].

 



(١) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ٦ ـ ٧)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي: (٤/ ٤١٢)، «مذكرة الشنقيطي» (١٦١).

(٢) متفق عليه، أخرجه البخاري في «التيمم» (١/ ٤٣٥ ـ ٤٣٦)، وفي «الصلاة» (١/ ٥٣٣)، ومسلم في «المساجد» (٥/ ٣)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(٣) انظر: «الإحكام» (٢/ ٩٤٣)، و«النبذ» كلاهما لابن حزم (٩١).

(٤) أخرجه البخاري في «الأضاحي» (٥٥٦٤)، ومسلم في «الأضاحي» (٥١٩٩)، وأبو داود في «الضحايا» (٢٧٩٦)، والترمذي في «الأضاحي» (١٥٧٣)، والنسائي في «الضحايا» (٤٤٠٣)، وابن ماجه في «الأضاحي» (٣٢٣٩)، وأحمد (١٢٢٨٤) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(٥) متفق عليه: أخرجه البخاري (٢/ ٣٦٦)، ومسلم (٦/ ١٣٥)، وأبو داود (١/ ٢٤٩)، والترمذي (٢/ ٣٧٢)، والنسائي (٣/ ٩٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٦) متفق عليه: أخرجه البخاري (٥/ ١٤٨)، ومسلم (٢/ ٧٣) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(٧) «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٤١٦)، «المغني» لابن قدامة (٩/ ٤٣٩)، «مغني المحتاج للشربيني» (٤/ ٢٨٥).

(٨) أخرجه البخاري (١٠/ ٢٠٩)، ومسلم (١٤/ ١٨٧) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(٩) «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٢٣٢)، «المغني» لابن قدامة (٥/ ٤٠٠)، «بدائع الصنائع» للكاساني (٦/ ٢٥٧٩)، «مغني المحتاج» للشربيني (٢/ ٤٢٩).

(١٠) «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٢٠)، «المغني» لابن قدامة (٧/ ٢١٢).

(١١) سبق تخريجه، انظر: الرابط.

(١٢) سبق تخريجه، انظر: الرابط.

(١٣) انظر «المغني» لابن قدامة (٩/ ١٨٨)، «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٣١٨)، «فتح القدير» لابن الهمام (٨/ ٣٥١)، «مغني المحتاج» للشربيني (٤/ ٢٠٦).

(١٤) أخرجه البخاري (٢/ ٧٠)، ومسلم (٥/ ١٩٣)، وأبو داود (١/ ٣٠٧)، والترمذي (١/ ٣٣٥)، والنسائي (١/ ٢٩٣)، وابن ماجه (١/ ٢٢٧)، والدارمي (١/ ٢٨٠)، والبيهقي (٢/ ٢١٨)، من حديث أنسِ بن مالك رضي الله عنه. وهذا الحديث ذكره المصنِّف بصيغة التمريض الموضوعة لما عدا الصحيح والحسن، وهذه الطريق مغايرة لمنهج العلماء المحقِّقين من أهل الحديث الذين يميِّزون بين صيغتين عند إيراد الحديث: صيغة الجزم موضوعة للصحيح والحسن، وصيغة التمريض موضوعة لما عداهما، وهذا أدب أخلَّ به جماهير أصحاب العلوم، ما عدا حذَّاق المحدِّثين كما أشار إليه النووي وغيره . [انظر: «المجموع» للنووي (١/ ٦٣)، «فتح المغيث» للسخاوي (١/ ٥٤)، «قواعد التحديث» للقاسمي (٢١٠)].

(١٥) انظر تفصيل المسألة في المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٧٤).

(١٦) انظر وجه اتفاق الشرائع السابقة ووجه اختلافها في «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ١٠٦ ـ ١٠٧ ـ ١١٣ ـ ١٨٥).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)