فصل
[في معنى الاستحسان وحُجِّيته]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٣١٢]:

«ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزَ مِنْدَادٍ أَنَّ مَعْنَى الاِسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ -رحمه الله- هُوَ القَوْلُ بأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، مِثْلَ تَخْصِيصِ بَيْعِ العَرايَا(١) مِنْ بَيْعِ الرُّطَب بخِرْصِهَا للسُّنَّةِ الوَاردةِ في ذَلِكَ».

[م] الاستحسان بالمعنى الذي نقله ابنُ خويز منداد حُجَّةٌ باتفاق العلماء؛ لأنَّه لا يخالف أحدٌ في الأخذ بالدليل الراجح، لكن الذي لا يُثبت الاستحسانَ لا يُسمي الأخذ بما ترجَّح من الدَّليلين المتعارضين استحسانًا، وهذا الذي ذهب إليه هو الدليل، وإن كان يُسمِّيه استحسانًا على سبيل المواضعة، ولا يمتنع ذلك في حقِّ أهل كلِّ صناعة، إلَّا أنَّ هذا يحتاج إلى بيان وكشف مثل أن يرد الشرع بالمنع من بيع الرطب بالتمر ويطرد في جميع الحالات، ثمَّ يرد من الشرع جواز بيع ثمرة العرية بخرصها من التمر إلى الجذاذ، وهذا، وإن سمَّاها بعضُهم استحسانًا فلا مشاحة في التسمية، لكن مسماه يرد على باب بناء العامِّ على الخاصِّ، والحكم بالخاصِّ والقضاء به على ما قابله من العام فلا يكون هذا موضع الاستحسان(٢).

هذا، وقد عرَّفه أهل المذاهب بتعريفاتٍ مختلفة نذكر منها:

• تعريف الكرخي من الأحناف بأنَّ الاستحسان هو: «أَنْ يَعْدِلَ الإِنْسَانُ عَنْ أَنْ يَحْكُمَ فِي المَسْأَلَةِ بِمِثْلِ مَا حَكَمَ بِهِ فِي نَظَائِرِهَا إِلَى خِلَافِهِ لِوَجْهٍ أَقْوَى يَقْتَضِي العُدُولَ عَنِ الأَوَّلِ»(٣).

• وعرَّفه ابن العربي المالكي بأنَّه: «تَرْكُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَلَى طَرِيقِ الاِسْتِثْنَاءِ وَالتَّرَخُّصُ لِمُعَارَضَةِ مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ»(٤)، وعرفه ابن رشد المالكي بأنَّه: «طَرْحٌ لِقِيَاسٍ يُؤَدِّي إِلَى غُلُوٍّ فِي الحُكْمِ وَمُبَالَغَةٍ فِيهِ، فَيُعْدَلُ عَنْهُ فِي بَعْضِ المَوَاضِعِ لِمَعْنًى يُؤَثِّرُ فِي الحُكْمِ يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ المَوْضِعُ»(٥)، أمَّا تعريفه عند الشاطبي المالكي فهو: «الأَخْذُ بِمَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ دَلِيلٍ كُلِّيٍّ»(٦).

• وعرَّفه الغزالي الشافعي بأنَّه: «مَا يَسْتَحْسِنُهُ المُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ»(٧).

• أمَّا ابن قدامة الحنبلي فعرفه بأنَّه: «العُدُولُ بِحُكْمِ المَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا لِدَلِيلٍ خَاصٍّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ»(٨).

• وعرَّفه أبو الحسين البصري بأنَّه: «تَرْكُ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الاِجْتِهَادِ غَيْر شَامِلٍ شُمُولَ الأَلْفَاظِ لِوَجْهٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَلَى الأَوَّلِ»(٩)، واختار الآمديُّ هذا التعريفَ وقال: «غَيْرَ أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى تَفِسيرِ الاِسْتِحْسَانِ بِالرُّجُوعِ عَنْ دَلِيلٍ خَاصٍّ إِلَى مُقَابِلِهِ بِدَلِيلٍ طَارِئٍ عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا نِزَاعَ فِي صِحَّةِ الاِحْتِجَاجِ بِهِ وَإِنْ نُوزِعَ فِي تَلْقِيبِهِ بِالاسْتِحْسَانِ»(١٠).

[في حقيقة الاستحسان المختلف فيه]

• قال الباجي -رحمه الله- بعد ذلك في [ص ٣١٣]:

«وَالاسْتِحْسَانُ الَّذِي يَخْتَلِفُ أَهْلُ الأُصُولِ فِي إِثْبَاتِهِ هُوَ: اخْتِيَارُ القَوْلِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلاَ تَقْلِيدٍ، ذَهَبَ بَعْضُ البَصْرِيينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ أَبي حَنِيفَةَ إِلىَ إِثْبَاتِهِ، وَمَنَعَ مِنْهُ شُيُوخُنَا العِرَاقِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ»

[م] إطلاقُ الاستحسانِ على ما تميلُ إليه النفسُ وتهواه من الصُّوَرِ والمعاني ـ وإن كان مُستقبَحًا عند غير صاحب الهوى ـ لم يقل به أحدٌ من العلماء، ولا يسوغ نِسبتُه إلى أهل العلم، إذ لا خلافَ بينهم على عدم جوازه، لاتفاقهم على امتناع القول في الدِّين بالتشهِّي والهوى.

والظاهر أنَّ الخلافَ بين العلماء في الاستحسان ليس جوهريًّا، بل هو خلافٌ لفظيٌّ، فالذي يحتجُّ به يُعَرِّفُهُ بتعريفٍ لا يُخالفُ أحدٌ في العمل به، كالأخذ بالدليل الأقوى، أو أنه العدولُ عن موجبِ قياسٍ إلى قياسٍ أقوى منه، والذي يَرُدُّه ولا يحتجُّ به يُعَرِّفُهُ بحدٍّ لا يقولُ بجواز العمل به أحدٌ من المسلمين، كمن عَرَّفَهُ بأنَّه «اختيارُ القَوْلِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ولَا تَقْلِيدٍ»، أو بأنَّه «دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ في ذِهْنِ المُجْتَهِدِ لَا تُسَاعِدُهُ العِبَارَةُ عَنْهُ حَتَّى يُفْصِحَ عَنْهُ»، أو «مَا يَسْتَحْسِنُهُ المُجْتَهِدُ بِنَظَرِهِ بِعَقْلِهِ»، وما إلى ذلك من التعريفات الضعيفة التي لم يقل بها أهلُ العلم لحرمة القول على الله بدون علم وبالتشهِّي واتباع الهوى، فما أثبته المحتجُّون به غير الذي نفاه المانعون له، فينتفي الخلاف في الحقيقة لانتفاء التعارض بين النفي والإثبات لعدم تواردهما على محلٍّ واحدٍ، ويبقى الخلافُ في العبارة واللفظ، وبهذا قال جماعةٌ من المحقِّقين كابنِ الحاجب والآمديِّ وابن السُّبْكِي والإسنوي وغيرِهم(١١)، قال الشوكاني: «فَعَرَفْتَ بمجموعِ ما ذكرنا أنَّ ذِكْرَ الاستحسان في بحثٍ مستقلٍّ لا فائدةَ فيه أصلًا؛ لأنه إن كان راجعًا إلى الأدلَّة المتقدِّمة فهو تَكرارٌ، وإن كان خارجًا عنها فليس من الشرع في شيء، بل هو من التقوُّل على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة، وبما يضادُّها أخرى»(١٢).

هذا، وينقسم الاستحسانُ تبعًا للدليل الذي يثبت به إلى:

الاستحسان بالنصِّ: وهو العُدُولُ عَنْ حُكْمِ القِيَاسِ فِي مَسْأَلَةٍ إِلَى حُكْمٍ مُخَالِفٍ لَهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ، وهو ينقسم إلى استحسانٍ بالقرآن الكريم أو بالسُّنَّة المطهَّرة:

ـ مثال الاستحسان بالقرآن: تنفيذ الوصية، فإنَّ القياس يقتضي عدم جوازها؛ لأنَّها تمليك مُضافٌ إلى ما بعد الموت وهو زمن زوال الملكية إلَّا أنها استثنيت من تلك القاعدة العامَّة بقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ[النساء: ١٢].

ـ ومثاله من السُّنَّة: بقاءُ صومِ المفطِر ناسيًا، فإنَّ القياس يقتضي فساد الصوم لعدم الإمساك عن الطعام، لكنه استثني بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ»(١٣)، ومعنى هذا الاستحسان أن يَرِدَ نَصٌّ في المسألة يتضمَّن حُكمًا بخلافِ الحكم الكُلِّيِّ الثابتِ بالدليل العامِّ، وقد تقدَّم أنَّ هذا لا يُنكر وإنَّما الخلافُ يرجع إلى العبارة(١٤).

الاستحسان بالإجماع: وهو العُدُولُ عَنْ حُكْمِ القِيَاسِ فِي مَسْأَلَةٍ إِلَى حُكْمٍ مُخَالِفٍ لَهُ ثَبَتَ بِالإِجْمَاعِ، ومثاله: عقد الاستصناع(١٥)، فإنَّ مقتضى القياس بطلانه؛ لأنَّ المعقود عليه وقتَ العقد معدومٌ لكن عُدِلَ عن هذا الحُكم إلى حكمٍ مخالفٍ له وهو جوازُ عقدِ الاستصناع لتعامل الناس به في كلِّ الأزمان من غيرِ نكيرٍ فكان إجماعًا يترك به القياس.

الاستحسان بالقياس الخفيِّ: وهو العُدُولُ عَنْ حُكْمِ القِيَاسِ الجَلِيِّ ظَاهِرِ العِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ أَدَقّ مِنَ الأَوَّلِ وَأَصَحّ نَظَرًا، ويتحقَّق ذلك في كلِّ مسألةٍ فيها قياسان: قياس جليّ لظهور العِلَّة فيه، وقياس خفي لخفاء العِلَّة فيه، ومثاله: سؤر سباع الطير، فإنَّ القياس يقتضي نجاسة سؤرهم لمساواة سؤرهم بسباع البهائم؛ لأنَّ الحكم على السؤر باعتبار اللحم، ولحم كلٍّ منهما نجس، غير أنَّ مقتضى الاستحسان طهارته قياسًا على الآدمي في أنَّ كُلًّا منهما غير مأكول اللحم؛ ولأنَّ سباع الطير تشرب بمناقيرها وهي عظم طاهر جاف لا رطوبةَ فيه، فضعف تأثير قياس مخالطة اللعاب النجس للماء في سؤر سباع البهائم.

الاستحسان بالعُرف والعادة: وهو العُدُولُ عَنْ حُكْمِ القِيَاسِ فِي مَسْأَلَةٍ إِلَى حُكْمٍ يُخَالِفُهُ، عَمَلًا بِالعُرْفِ وَجَرْيًا عَلَى مَا اعْتَادَهُ النَّاسُ، مثاله: إجارة الحَمَّام بتعيين الأُجرة مع الجهالة لقدر الماء المستعمل في الاستحمام ومُدَّة الإقامة فيه، فالقياس يقتضي بطلان عقد الإجارة؛ لأنَّها عقدٌ على مجهولٍ، والجَهالة تُبْطِلُ العقدَ وتُفْسِدُهُ، لكن عُدل عن هذا الحكم إلى حكم مخالفٍ وهو جواز الإجارة له عملًا بالعُرْفِ استحسانًا لما في ترك بيان المنفعة منعًا للمضايقة على ما اعتاده الناس رعايةً لمصالحهم وحاجياتهم(١٦).

الاستحسان بالضرورة: وهو العُدُولُ عَنْ حُكْمِ القِيَاسِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ ضَرُورَةً وَحَاجَةً، ومثاله: الغَبْنُ اليسير في المعاملات مُغتفر، فالقياس يقتضي أنَّ كُلَّ غَبْنٍ أَكْلٌ لأموالِ الناس بالباطل للدليل العامِّ المانع، لكن الغبن اليسير معفوٌ عنه، وتصحُّ المعاملة معه لضرورة عدم إمكانية الاحتراز عنه.

ومثاله ـ أيضًا ـ: جواز الشهادة بالسماع في النسب والموت والنكاح والدخول، وإن لم يعاين الشهود ما شهدوا عليه، والقياس يقتضي اشتراط المعاينة، لكن عُدِلَ عن هذا الحكم إلى حكمٍ آخرَ؛ لأنَّ الناسَ لو كُلِّفُوا إحضار شهودٍ عاينوا الولادةَ أو الدخولَ لوقعوا في حرجٍ ظاهرٍ، لذلك جوزت الشهادة بالسماع ضرورة.

 



(١) العرايا جمع عَرِيَّة، وهي في الأصل: عطية ثمر النخل دون الرقبة، وهي في الاصطلاح: بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر كيلة من التمر خرصا فيما دون خمسة أوسق بشرط التقابض، وقد اتفق الجمهور على جواز رخصة العرايا. [انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٣٨٨ ـ ٣٩٠)، «سبل السلام» للصنعاني (٣/ ٤٥)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٤٥ ـ ٣٥٦)].

(٢) انظر: «إحكام الفصول» (٦٨٧)، «الحدود» كلاهما للباجي (٦٥)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٤١).

(٣) «كشف الأسرار» للبخاري (٤/ ٣).

(٤) «الموافقات» للشاطبي (٤/ ٢٠٧ ـ ٢٠٨)، «الاعتصام» للشاطبي (٢/ ١٣٩).

(٥) «الاعتصام» للشاطبي (٢/ ١٣٩).

(٦) «الموافقات» للشاطبي (٤/ ٢٠٦).

(٧) «المستصفى» للغزالي (١/ ٢٧٤).

(٨) «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٤٠٧).

(٩) «المعتمد» لأبي الحسين (٢/ ٨٤٠).

(١٠) «الإحكام» للآمدي (٣/ ٢٠٢).

(١١) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٣١٤).

(١٢) «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٤١).

(١٣) أخرجه البخاري (٤/ ١٥٥)، ومسلم (٨/ ٣٥)، وأبو داود (٢/ ٧٩٠)، والترمذي (٣/ ١٠٠)، وابن ماجه (١/ ٥٣٥)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(١٤) «المستصفى» للغزالي (١/ ١٣٩).

(١٥) الاستصناع هو: عَقْدٌ مَعَ صَانِعٍ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ نَظِيرَ ثَمَنٍ مُعَيَّنٍ. [انظر: «فقه البيع والاستيثاق» للسالوس (٤٨٤)، و«الفقه الإسلامي وأدلَّته» للزحيلي (٤/ ٦٣١)].

(١٦) ويصلح هذا المثال للاستحسان بالإجماع ـ أيضًا ـ لتحقُّق الإجماع على جواز إجارة الحمام مع حصول الجهالة في قدر الماء المستعمل والمدَّة.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)