الفتوى رقم: ٣٠٩

الصنف: فتاوى المعاملات المالية - الهبات

في وجوب العدل في هِبَة الأولاد

السؤال:

تملك جدَّتي (١٦) قطعةً ذهبيةً، وأبناؤها سبعةُ ذكورٍ وبنتان، وحيث إنَّ زوجات أولادها الذكور قصَّرن في معاملتها! (كذا) فقَدْ أعطَتِ القِطَعَ الذهبية  لأحفادها وبناتِها، وبقي أربعةُ أبناءٍ غيرُ متزوِّجين لم ينالوا حقَّهم، فماذا يترتَّب عليها؟ وهل يجب أَنْ تُعطِيَهم أم لا؟ علمًا أنَّها ـ في حالةِ غضبٍ ـ أقسمَتْ ألَّا تُعطيَ أولادَها وأعطت الأحفادَ، فما حكمُ ما عملَتْ جدَّتي؟ جزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فاعْلَمْ أَنَّ مشروعية التسوية بين الأولاد في العطايا والهِبَات محلُّ اتِّفاقٍ بين العلماء؛ لِمَا فيه مِنْ تحقيق العدل، وتصفيةِ القلوب مِنَ الضغينة والحقد والعداوة والقطيعة، وإشعارِهم بالمودَّة والإخاء، حتَّى نُقِل عن السلف أنَّهم كانوا يُسوُّون بين أولادهم في القُبَل.

هذا، والعلماء وإِنْ كانوا يختلفون في حكم التسوية بين الوجوب والاستحباب، إلَّا أنَّ الراجحَ مذهبُ مَنْ حَمَل نصوصَ الأحاديث النبوية الواردة في هذا الشأنِ على وجوب التسوية بين الأولاد وتحريم التفضيل بينهم أو تخصيصِ بعضهم، وهو مذهب أحمدَ وبعضِ أهل الحديث وأهلِ الظاهر، والمشهورُ مِنْ هذا المذهبِ بطلانُ الهِبَة أو العطيَّة المجرَّدة مِنَ التسوية بين الأولاد؛ وذلك لِمَا اتَّفق عليه الشيخان مِنْ حديثِ النعمان بنِ بشيرٍ رضي الله عنهما قال: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: «لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللهِ»، قَالَ: «أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟»، قَالَ: «لَا»، قَالَ: «فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ»، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ(١)، وفي روايةٍ: «أَكُلَّ بَنِيكَ نَحَلْتَ؟»(٢)، وفي روايةٍ: «لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»(٣)، «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي»(٤)، «سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، كَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يُسَوُّوا بَيْنَكُمْ فِي الْبِرِّ»(٥)؛ ففي هذا الحديثِ اعتبره النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عملًا مُنافِيًا للتقوى لِمَا فيه مِنَ الجور والظلم، وما كان كذلك فالأصلُ فيه المنعُ، ولمجيءِ الأمر بالعدل معرًّى عن قرينةٍ صارفةٍ، وأوامرُه بهذا الشكلِ تُفيدُ الوجوبَ، ثمَّ إنَّ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم للبشير بنِ سعدٍ رضي الله عنه: «فَارْدُدْهُ»(٦)، وفي روايةٍ: «فَارْتَجِعْهُ»(٧) أي: على الغلام ممَّا يدلُّ على بطلان العطيَّة، ولو لم تكن الهِبَةُ ـ بهذه الصورة ـ ممنوعةً لَمَا كانَتْ باطلةً.

فالحاصل أنَّ ما أعطَتْ هذه الجدَّةُ لبناتها وأحفادِها إمَّا أَنْ يكون لموضع الحاجة فيجوز، ولكن يُقدَّر بقدرها، أو لكونهم أنفقوا عليها مِنْ مالهم وأرادوا الرجوعَ؛ فلها أَنْ تُعطِيَهم مِنْ مالها في حدودِ ما أنفقوا عليها؛ لأنَّ نفقة الوالدَيْن مِنْ مالهما.

وأمَّا إِنْ كانَتْ عطيَّتُها لبعض الأولاد وحرمانُ بعضِهم الآخَرِ ـ وهُم في الحاجة سواءٌ ـ فهي بذلك آثمةٌ، وحكمُ فعلِها البطلانُ على الصحيح؛ لِمَا فيه مِنَ الظلم والجَوْر ـ كما تقدَّم في الحديث ـ ويؤدِّي إلى العقوق وقطيعةِ الرحم، و«مَا أَدَّى إِلَى حَرَامٍ فَحَرَامٌ»؛ لأنَّ «الوَسَائِلَ لَهَا حُكْمُ المَقَاصِدِ».

فالواجب أَنْ تردَّها وترجعها ما لم تكن لها إرادةٌ جازمةٌ في أَنْ تسوِّيَ الأمرَ مع بقيَّةِ أولادها المحرومين(٨)، أو رضي أولادُها المحرومون بهذا التفضيل أو التخصيص؛ فيصحُّ ـ حالتَئذٍ ـ ما وهبَتْه لهم.

أمَّا إذا لم تكن لها إرادةٌ آكدةٌ في التسوية أو لم يَرْضَ أبناؤها المحرومون؛ فيجب عليها أَنْ ترتجع الهِبَةَ وتكفِّر عن يمينها؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ [المائدة ٨٩].

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

 


(١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الهِبَة» باب الإشهاد في الهِبَة (٢٥٨٧)، ومسلمٌ في «الهِبَات» (١٦٢٣)، مِنْ حديثِ النعمان بنِ بشيرٍ رضي الله عنهما.

(٢) أخرجه مسلمٌ في «الهِبَات» (١٦٢٣).

(٣) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الشهادات» باب: لا يشهد على شهادةِ جَوْرٍ إذا أُشْهِدَ (٢٦٥٠)، ومسلمٌ في «الهِبَات» (١٦٢٣).

(٤) أخرجه مسلمٌ في «الهِبَات» (١٦٢٣).

(٥) أخرجه الطحاويُّ في «شرح مُشْكِل الآثار» (٥٠٧٣) و«شرح معاني الآثار» (٥٨٣٦). وإسنادُه صحيحٌ، انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (٧/ ٢٦٤).

(٦) أخرجه مسلمٌ في «الهِبَات» (١٦٢٣).

(٧) أخرجه مالكٌ في «موطَّئه» ـ تحقيق الأعظمي ـ (٢٧٨٢)، وفي الصحيحين: «فَارْجِعْهُ»: البخاريُّ في «الهِبَة» باب الهِبَة للولد، وإذا أعطى بعضَ ولده شيئًا لم يَجُزْ حتَّى يعدل بينهم ويعطيَ الآخَرين مِثلَه، ولا يُشْهَد عليه (٢٥٨٦)، ومسلمٌ في «الهِبَات» (١٦٢٣).

(٨) انظر تفاصيلَ صفةِ العدل في القسمة بين الأولاد في: الفتوى رقم: (١) الموسومة ﺑ: «القسمة بين الأولاد في العطيَّة»، والفتوى رقم: (٣٠٥) الموسومة ﺑ: «في صفة القسمة المالية في عطيَّة الأولاد»، والفتوى رقم: (٣٨١) الموسومة ﺑ: «في حكم العدل في العطيَّة مع الأحفاد»، والفتوى رقم: (٤٨٢) الموسومة ﺑ: «في تخصيصِ أحد الأولاد بعطيَّةٍ مع رِضَا إخوته»، والفتوى رقم: (١١٥٨) الموسومة ﺑ: «في مُوجِبِ التخصيص والتفضيل بين الأولاد في العطيَّة»، على الموقع الرسميِّ لفضيلة الشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)