العقائد الإسلامية
مِنَ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

للشيخ عبد الحميد بنِ باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)

بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ

«التصفيف الحادي والأربعون: الإيمان بالقَدَر (٥

الحادي والستُّون: [فصل: الحكمة والعدل في القَدَر](١)

القَدَرُ كُلُّهُ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ؛ فَمَا يُصِيبُ العِبَادَ فَهُوَ جَزَاءُ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ تُدْرَكُ حِكْمَةُ القَدَرِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ وَقَدْ تَخْفَى؛ لِأَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: الحَكِيمَ، وَرَدَ فِي الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ الكَثِيرَةِ(٢)، وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: العَدْلَ(٣)، وَرَدَ فِي «حَدِيثِ الأَسْمَاءِ» عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ(٤)(٥)، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الكَرْبِ: «عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ»(٦)، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ ٣٠[الشورى](٧).

 



(١) وفي نسخة: «م.ف»: «القَدَرُ عدلٌ وحكمةٌ».

(٢) وفي النسخة السابقة نَفْسِها: «في الآيات والأحاديث» مجرَّدةً مِنْ كلمةِ «الكثيرة»، ولعلَّها ساقطةٌ مِنَ العبارة، وقد وُضِعَ هذا الفصلُ في هذه النسخةِ قبل فصل: «العمل بالشرع والجدُّ في السعي مع الإيمان بالقَدَر».

(٣) المُصنِّفُ ـ رحمه الله ـ خَتَمَ عقيدةَ القَدَرِ عند أهلِ السنَّة بفصلٍ يُثْبِتُ فيه حكمةَ اللهِ في خَلْقِه وأَمْرِه على ما دَلَّ عليه الكتابُ والسنَّةُ في مَواضِعَ لا تَكادُ تُحصى؛ فاللهُ ـ تعالى ـ حكيمٌ، وأفعالُه كُلُّها صادرةٌ عن حكمةٍ بالغةٍ لأجلها فَعَلَ، كما هي ناشئةٌ عن أسبابٍ بها فَعَلَ، وحكمتُه ـ سبحانه ـ تَقْتضي أَنْ لا يفعل شيئًا عبثًا بغيرِ حكمةٍ ولا لغيرِ معنًى ولا مَصْلَحةٍ، بل الحكمةُ أو المصلحةُ هي الغايةُ المقصودةُ بالفعل، «وهو ـ سبحانه ـ خالِقُ كُلِّ شيءٍ وربُّه ومليكُه، وله فيما خَلَقَه حكمةٌ بالغةٌ ونعمةٌ سابغةٌ ورحمةٌ عامَّةٌ وخاصَّةٌ، وهو لا يُسْأَلُ عمَّا يفعل وهُمْ يُسْألون، لا لمجرَّدِ قدرته وقهرِه بل لكمالِ عِلْمِه وقدرتِه ورحمتِه وحكمتِه؛ فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ أَحْكَمُ الحاكمين وأَرْحَمُ الراحمين، وهو أَرْحَمُ بعِبادِه مِنَ الوالدةِ بولدها، وقد أَحْسَنَ كُلَّ شيءٍ خَلَقَه، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍ[النمل: ٨٨]، وقد خَلَقَ الأشياءَ بأسبابٍ كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا[البقرة: ١٦٤]، وقال: ﴿فَأَنزَلۡنَا بِهِ ٱلۡمَآءَ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ[الأعراف: ٥٧]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ[المائدة: ١٦]» [«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٨/ ٧٩)].

وهذا خلافُ مذهبِ المُنْكِرين لحكمةِ الله ورحمته، وعلى رَأْسِهم جَهْمُ بنُ صفوانَ ومَنْ قال بمَقالَتِه: بأنَّ الله لا يفعل شيئًا لشيءٍ ولا يأمر بشيءٍ لشيءٍ، وقد سَلَكَ كثيرٌ مِنَ المتأخِّرين ـ مِنَ المُثْبِتين للقَدَرِ مِنْ أهل الكلام ومَنْ وافَقَهم ـ مَسْلكَ جهمِ بنِ صفوانَ في العديد مِنْ مَسائلِ القَدَر، وقد ردَّ عليهم أهلُ السنَّةِ بالحجَّة والبرهان، فدَحَضُوا شُبَهَهم وقَمَعُوا بِدَعَهم وكَشَفوا باطِلَهم، وكان مِنْ أَبْرَزِ مَنِ انتدب لهذه المَهَمَّةِ الجليلةِ وانبرى لها لِدَفْعِ شرِّ الجهميةِ والقَدَريةِ المستطيرِ، وخطرِهم المُسْتَفْحِل: شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ وتلميذُه النجيبُ ابنُ القيِّم ـ رحمهما الله ـ. [راجِعْ: «مجموع الفتاوى» المجلَّد الثامن و«منهاج السنَّة النبوية» و«بيان تلبيس الجهمية في تأسيسِ بِدَعِهم الكلامية» كُلُّها لابن تيمية، و«شفاء العليل في مَسائِلِ القضاء والقَدَر والعِلَّة والتعليل» لابن القيِّم].

هذا، وما قرَّرَهُ المُصنِّفُ ـ رحمه الله ـ هو ما اتَّفق عليه السلفُ وأئمَّةُ السنَّة: على أنَّ اللهَ ـ تعالى ـ عَدْلٌ حكيمٌ بَهَرَتِ الألبابَ حكمتُه، وعليمٌ رحيمٌ وَسِعَتْ كُلَّ شيءٍ رحمتُه، وأحاطَ بكُلِّ شيءٍ عِلْمُه، وأَحْصاهُ لَوْحُه وقَلَمُه.

قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ في [«مجموع الفتاوى» (٨/ ٤٦٦)]: «وأمَّا السلفُ والأئمَّة، كما أنهم مُتَّفِقون على الإيمان بالقَدَر، وأنه ما شاءَ كان وما لم يَشَأْ لم يكن، وأنه خالِقُ كُلِّ شيءٍ مِنْ أفعالِ العِبادِ وغيرِها، وهُمْ مُتَّفِقون على إثباتِ أَمْرِه ونَهْيِه ووَعْدِه ووعيده، وأنه لا حُجَّةَ لأَحَدٍ على الله في تَرْكِ مأمورٍ ولا فعلِ محظورٍ؛ فهُمْ ـ أيضًا ـ مُتَّفِقون على أنَّ الله حكيمٌ رحيمٌ، وأنه أَحْكَمُ الحاكمين وأَرْحَمُ الراحمين».

وقد أَنْكَرَ اللهُ على مَنْ زَعَمَ أنه ـ تعالى ـ لم يَخْلُقِ الخَلْقَ لغايةٍ ولا لحكمةٍ فقال: ﴿أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا[المؤمنون: ١١٥]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦[القيامة]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا لَٰعِبِينَ ١٦[الأنبياء]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞ[الحِجْر: ٨٥]، والحقُّ هو الحِكَمُ والغاياتُ المحمودةُ التي لأَجْلِها خَلَقَ ذلك كُلَّه، وقد أخبر اللهُ عن الحِكَمِ والغايات التي جَعَلَها في خَلْقِه وأَمْرِه في العديد مِنَ الآيات منها: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡ[البقرة: ٢٢]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَٰدٗا ٦ وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا ٧ وَخَلَقۡنَٰكُمۡ أَزۡوَٰجٗا ٨ وَجَعَلۡنَا نَوۡمَكُمۡ سُبَاتٗا ٩ وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِبَاسٗا ١٠ وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشٗا ١١[النبأ]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ ٢٤ أَنَّا صَبَبۡنَا ٱلۡمَآءَ صَبّٗا ٢٥ ثُمَّ شَقَقۡنَا ٱلۡأَرۡضَ شَقّٗا ٢٦ فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا حَبّٗا ٢٧ وَعِنَبٗا وَقَضۡبٗا ٢٨ وَزَيۡتُونٗا وَنَخۡلٗا ٢٩ وَحَدَآئِقَ غُلۡبٗا ٣٠ وَفَٰكِهَةٗ وَأَبّٗا ٣١ مَّتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَٰمِكُمۡ ٣٢[عَبَسَ]، وغيرُها مِنَ الآياتِ الدالَّةِ على أنَّ اللهَ فَعَلَ ذلك للحِكَمِ والمَصالِحِ المذكورة، ومِنْ ذلك أَمْرُه ـ تعالى ـ بتَدَبُّرِ كلامِه والتفكُّرِ فيه، وفي أوامِرِه ونواهيه؛ ليُطْلِعَ عِبادَه على حكمتِه البالغةِ وما تَضمَّنَتْه مِنَ المَصالِحِ والغايات المحمودةِ التي تُؤدِّي بالمُتفكِّرِ والمُتدبِّرِ إلى الإقرار بأنه تنزيلٌ مِنْ حكيمٍ حميدٍ؛ ولذلك كثيرًا ما يذكر اللهُ اسْمَ: «الحكيمِ العليمِ» عند ذِكْرِ مصدرِ خَلْقِه وشَرْعِه، تنبيهًا على أنهما صَدَرَا عن حكمةٍ مقصودةٍ مُقارِنةٍ للعلم المُحيطِ الشامل، مثل قولِه ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ٦[النمل]، وقولِه ـ تعالى ـ: ﴿تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ[الزُّمَر: ١؛ الجاثية: ٢؛ الأحقاف: ٢].

ومِنْ دلائلِ الحكمة والخبرة أنه هو «الذي يَضَعُ الأشياءَ مَواضِعَها، ويُنْزِلها مَنازِلَها اللائقةَ بها؛ فلا يَضَعُ الشيءَ في غيرِ موضعه، ولا يُنْزِلُه في غيرِ منزلته التي يَقْتَضِيها كمالُ عِلْمِه وحكمته وخبرته؛ فهو أَعْلَمُ حيث يجعل رسالاتِه، وأَعْلَمُ بمَنْ يصلح لقَبولها ويَشْكُرُه على انتهائها إليه، وأَعْلَمُ بمَنْ لا يصلح لذلك؛ فلو قُدِّرَ عَدَمُ الأسباب المكروهةِ لَتعطَّلَتْ حِكَمٌ كثيرةٌ، ولَفاتَتْ مَصالِحُ عديدةٌ؛ ولو عُطِّلَتْ تلك الأسبابُ لِمَا فيها مِنَ الشرِّ لَتعطَّلَ الخيرُ الذي هو أَعْظَمُ مِنَ الشرِّ الذي في تلك الأسبابِ، وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها مِن المَصالِحِ ما هو أضعافُ أضعافِ ما يحصل بها مِن الشرِّ» [«شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (٢٨٢)].

لذلك تَنزَّهَ اللهُ ـ تعالى ـ عن الظلم في آياتٍ كثيرةٍ لأنَّ حقيقة الظلمِ هي وَضْعُ الشيءِ في غيرِ موضعه، واللهُ ـ تعالى ـ لا يَضَعُ الأشياءَ إلَّا في مَواضِعِها المُناسِبةِ لها واللائقةِ بها، وذلك خيرٌ كُلُّه، والشرُّ هو وَضْعُ الشيءِ في غيرِ مَحَلِّه، فإذا وُضِعَ في مَحَلِّه لم يكن شرًّا؛ فعُلِمَ أنَّ الشرَّ ليس إليه كما ثَبَتَ في «صحيح مسلمٍ» في «صلاة المسافرين وقَصْرِها» (٦/ ٥٧) بابُ صلاةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ودُعائِه في الليل، مِنْ حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يُثْنِي على ربِّه بذلك في دعاءِ الاستفتاح بقوله: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ».

فأسماءُ اللهِ ـ تعالى ـ شاهدةٌ على كمالِ عَدْلِه وحكمتِه وحَمْدِه وعُلُوِّه وغيرِها مِنَ المَعاني المُوجِبةِ للتنزيه عن كُلِّ شرٍّ؛ فلا يُنْسَبُ إليه شرٌّ ولا عيبٌ ولا سوءٌ ولا نقصٌ ولا ظلمٌ، لا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله.

وضِمْنَ هذا المعنى قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«شفاء العليل» (٢/ ٥١٢)]: «فأسماؤه الحُسْنى تمنع نسبةَ الشرِّ والسوءِ والظلم إليه مع أنه ـ سبحانه ـ الخالِقُ لكُلِّ شيءٍ؛ فهو الخالقُ للعباد وأفعالِهم وحركاتهم وأقوالهم، والعبدُ إذا فَعَلَ القبيحَ المَنْهِيَّ عنه كان قد فَعَلَ الشرَّ والسوءَ، والربُّ ـ سبحانه ـ هو الذي جَعَلَه فاعلًا لذلك، وهذا الجَعْلُ منه عدلٌ وحكمةٌ وصوابٌ؛ فجَعْلُه فاعلًا خيرٌ، والمفعولُ شرٌّ وقبيحٌ؛ فهو ـ سبحانه ـ بهذا الجَعْلِ قد وَضَعَ الشيءَ مَوْضِعَه لِمَا له في ذلك مِن الحكمةِ البالغة التي يُحْمَدُ عليها؛ فهو خيرٌ وحكمةٌ ومصلحةٌ وإِنْ كان وقوعُه مِنَ العبد عيبًا ونقصًا وشرًّا ... ومِنْ أسمائه ـ سبحانه ـ «العَدْلُ» و«الحكيمُ» الذي لا يَضَعُ الشيءَ إلَّا في موضعه؛ فهو المُحْسِنُ الجَوَادُ الحكيمُ الحَكَمُ العَدْلُ في كُلِّ ما خَلَقَه وفي كُلِّ ما وَضَعَه في مَحَلِّه وهيَّأهُ له، وهو ـ سبحانه ـ له الخَلْقُ والأمرُ؛ فكما أنه في أَمْرِه لا يأمر إلَّا بأَرْجَحِ الأمرين ويأمر بتحصيلِ المَصالِحِ وتكميلِها، وتعطيلِ المَفاسِدِ وتقليلِها، وإذا تَعَارَضَ أمرانِ رجَّح أَحْسَنَهما وأَصْلَحَهما، وليس في الشريعةِ أمرٌ يُفْعَلُ إلَّا ووجودُه للمأمور خيرٌ مِنْ عَدَمِه، ولا نهيٌ عن فعلٍ إلَّا وعَدَمُه خيرٌ مِنْ وجوده... والربُّ ـ سبحانه ـ إذا أَمَرَ بشيءٍ فقَدْ أَحَبَّه ورَضِيَه وأرادَهُ إرادةً دينيةً، وهو لا يُحِبُّ شيئًا إلَّا ووجودُه خيرٌ مِنْ عَدَمِه، وما نَهَى عنه فقَدْ أَبْغَضَهُ وكَرِهَه، وهو لا يبغض شيئًا إلَّا وعَدَمُه خيرٌ مِن وجوده، هذا بالنظر إلى ذاتِ هذا وهذا، وأمَّا باعتبارِ إفضائه إلى ما يُحِبُّ ويَكْرَهُ فله حكمٌ آخَرُ؛ ولهذا أَمَرَ ـ سبحانه ـ عِبادَه أَنْ يأخذوا بأَحْسَنِ ما أُنْزِلَ إليهم؛ فالأَحْسَنُ هو المأمورُ به وهو خيرٌ مِنَ المَنْهِيِّ عنه.

وإذا كانَتْ هذه سُنَّتَه في أَمْرِه وشَرْعِه فهكذا سنَّتُه في خَلْقِه وقضائِه وقَدَرِه؛ فما أراد أَنْ يخلقه أو يفعله كان أَنْ يخلقه ويفعله خيرًا مِنْ أَنْ لا يخلقه ولا يفعله وبالعكس، وما كان عَدَمُه خيرًا مِنْ وجوده فوجودُه شرٌّ وهو لا يفعله، بل هو مُنَزَّهٌ عنه، والشرُّ ليس إليه».

وممَّا تَأْباهُ حكمتُه ـ تعالى ـ وعَدْلُه ـ أيضًا ـ التسويةُ بين المُخْتَلِفين، والتفريقُ بين المُتماثِلين؛ فقَدْ أَنْكَرَ اللهُ ـ تعالى ـ على مَنْ سوَّى بين المسلم والمُجْرِم، وبين المتَّقي والفاجر؛ فقال ـ تعالى ـ: ﴿أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ كَٱلۡمُجۡرِمِينَ ٣٥ مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ ٣٦[القلم]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ ٢٨[ص]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ ٢١[الجاثية]، كما أنه ـ تعالى ـ لم يُفَرِّقْ بين المُتماثِلين فقال ـ تعالى ـ: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ[التوبة: ٧١]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖ[التوبة: ٦٧]، وقال: ﴿فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖ[آل عمران: ١٩٥]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا ٦٩[النساء].

فالحاصل أنَّ كمالَ اللهِ ـ تعالى ـ بجميعِ صفاتِه وحقائقِ أسمائه الحُسْنى تَمْنَعُ كونَ أفعالِه الصادرةِ منه دونَ حكمةٍ ولا غايةٍ مطلوبةٍ؛ فهي تنفي ذلك وتَشْهَدُ ببطلانه بأَدِلَّةٍ كثيرةٍ، وفي ذِكْرِ البعضِ ما يُنْبِئُ عن الكُلِّ، ولابنِ القيِّمِ ـ رحمه الله ـ كلامٌ نفيسٌ ومُفَصَّلٌ في إثباتِ حكمة الله ـ تعالى ـ في خَلْقِه وأَمْرِه، وذِكْرِ الغايات المطلوبةِ له بذلك، والعواقبِ الحميدةِ التي يفعل مِنْ أَجْلِها ويأمر، فَانْظُرْه في [«شفاء العليل» (٢/ ٥٣٧ وما بعدها)].

قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ في [«مجموع الفتاوى» (٨/ ١٩٧)]: «قد أحاطَ ربُّنا ـ سبحانه وتعالى ـ بكُلِّ شيءٍ علمًا وقدرةً وحُكْمًا؛ ووَسِعَ كُلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا؛ فما مِنْ ذَرَّةٍ في السموات والأرضِ ولا معنًى مِن المَعاني إلَّا وهو شاهدٌ لله ـ تعالى ـ بتمامِ العلم والرحمة، وكمالِ القدرة والحكمة، وما خَلَقَ الخَلْقَ باطلًا، ولا فَعَلَ شيئًا عبثًا، بل هو الحكيمُ في أفعاله وأقواله ـ سبحانه وتعالى ـ ثمَّ مِنْ حكمته ما أَطْلَعَ بَعْضَ خَلْقِه عليه، ومنه ما استأثر ـ سبحانه ـ بعلمه».

(٤) هو أبو عيسى محمَّدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرَةَ بنِ موسى بنِ الضحَّاك السُّلَميُّ البوغيُّ التِّرْمِذِيُّ، أَحَدُ الأئمَّةِ المشهورين بالإتقان والحفظِ الذين يُقْتدى بهم في عِلْمِ الحديث، وهو أَحَدُ تلاميذِ الإمام البخاريِّ، شارَكَه في بعضِ شيوخه. مِنْ مُؤلَّفاته: «الجامع الصحيح» و«العِلَل» و«الشمائل» و«أسماء الصحابة». تُوُفِّيَ بتِرْمِذَ سنة: (٢٧٩ﻫ).

انظر ترجمته في: «الفهرست» للنديم (٢٨٩)، «الكامل» (٧/ ٤٦٠) و«اللباب» (١/ ٢١٣) كلاهما لابن الأثير، «وفيات الأعيان» لابن خِلِّكان (٤/ ٢٧٨)، «سِيَر أعلام النُّبَلاء» (١٣/ ٢٧٠) و«ميزان الاعتدال» (٣/ ٦٧٨) و«الكاشف» (٣/ ٨٦) و«دُوَل الإسلام» (١٦٨) كُلُّها للذهبي، «البداية والنهاية» لابن كثير (١١/ ٦٦)، «تهذيب التهذيب» (٩/ ٣٨٧) و«تقريب التهذيب» (٢/ ١٩٨) كلاهما لابن حجر، «طبقات الحُفَّاظ» للسيوطي (٢٨٢)، «تاريخ التراث العربي» لسزكين (١/ ٢٤١).

(٥) الحديث أخرجه الترمذيُّ في «الدعَوَات» (٥/ ٥٣٠) باب (٨٣)، والحاكمُ في «المُسْتدرَك» في «الإيمان» (١/ ١٦)، وابنُ حِبَّان في «صحيحه» في «الأذكار» (٢/ ٨٨) ذِكْرُ تفصيلِ الأسامي التي يُدْخِلُ اللهُ مُحْصِيَها الجنَّةَ، وابنُ منده في «التوحيد» (٢/ ٢٠٥)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (١٠/ ٢٧) في «الإيمان» بابُ أسماءِ الله ـ عزَّ وجلَّ ثناؤُه ـ، وفي «الاعتقاد» (١٨) بابُ ذِكْرِ أسماءِ الله وصِفاتِه، وفي «الأسماء والصفات» (١/ ٢٨) بابُ بيانِ الأسماء التي مَنْ أَحْصاها دَخَلَ الجنَّةَ، والبغويُّ في «شرح السنَّة» (٥/ ٣٢) في «الدعَوَات» بابُ أسماءِ الله ـ سبحانه وتعالى ـ، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ للهِ ـ تَعَالَى ـ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ، هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، المَلِكُ القُدُّوسُ ...» الحديث، وذَكَرَ منها «العَدْلَ» و«الحكيم».

وأصلُ الحديثِ ثابتٌ في الصحيحين بدونِ سَرْدٍ لأسماءِ الله ـ تعالى ـ؛ فقَدْ أخرجه البخاريُّ في «الشروط» (٥/ ٣٥٤) بابُ ما يجوز مِنَ الاشتراط والثُّنْيا في الإقرار، وفي «الدعَوَات» (١١/ ٢١٤) باب: لله مائةُ اسْمٍ غيرَ واحدةٍ، ومسلمٌ في «الذِّكْر والدعاء» (١٧/ ٥) بابٌ في أسماء الله ـ تعالى ـ وفضلِ مَن أَحْصاها.

هذا، والحديثُ فيه اختلافٌ شديدٌ في سَرْدِ الأسماء: هل هو مرفوعٌ أو مُدْرَجٌ في الخبر مِنْ بعضِ الرُّواة، وقد ذَهَبَ أَكْثَرُ الحُفَّاظ إلى أنَّ تعيين الأسماءِ في الحديثِ لا يَثْبُتُ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنما هو مُدْرَجٌ مِنْ بعضِ السلف أو الرُّواة، ونُقِلَ عن أبي الحسن الداوديِّ أنه قال: «لم يَثْبُتْ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عيَّن الأسماءَ المذكورة»، وقال ابنُ العربيِّ ـ رحمه الله ـ: «يحتمل أَنْ تكون الأسماءُ تكملةَ الحديثِ المرفوع، ويحتمل أَنْ تكون مِنْ جمعِ بعض الرُّواة وهو الأَظْهَرُ عندي» [انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١١/ ٢١٧)].

وإلى هذا ذَهَبَ ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ مُقَرِّرًا له في «مجموع الفتاوى» (٦/ ٣٧٩، ٣٨٠، ٨/ ٩٦، ٢٢/ ٤٨٢)، وقال ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في [«تفسيره» (٢/ ٢٦٩)]: «الذي عوَّل عليه جماعةٌ مِنَ الحُفَّاظ أنَّ سَرْدَ الأسماءِ في هذا الحديثِ مُدْرَجٌ فيه».

كما أكَّد ذلك ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ في [«الفتح» (١١/ ٢١٧)] بقوله: «وإذا تَقرَّرَ رجحانُ أنَّ سَرْدَ الأسماءِ ليس مرفوعًا فقَدِ اعتنى جماعةٌ بتَتَبُّعِها مِنَ القرآن مِنْ غيرِ تقييدٍ بعددٍ»، وفي [«بلوغ المَرام» (٤/ ٢٠٧)] بقوله: «والتحقيقُ أنَّ سَرْدَها إدراجٌ مِن بعضِ الرُّواة».

وعلَّق الصنعانيُّ ـ رحمه الله ـ في [«سُبُل السلام» (٤/ ٢٠٨)] على كلامِ ابنِ حجرٍ ـ رحمه الله ـ بقوله: «اتَّفَقَ الحُفَّاظُ مِنْ أئمَّةِ الحديثِ أنَّ سَرْدَها إدراجٌ مِن بعضِ الرُّواة».

والحديث ضعَّفه الألبانيُّ بسَرْدِ الأسماءِ في «ضعيف الجامع» (٢/ ١٧٨) وفي «ضعيف سنن الترمذي» (٤٠٩).

هذا، وقد ذَهَبَ آخَرون إلى تصحيحِ روايةِ الترمذيِّ التي عوَّل عليها غالِبُ مَنْ شَرَحَ الأسماءَ الحُسْنى كابنِ منده والبيهقيِّ وغيرِهما، قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ في [«فتح الباري» (١١/ ٢١٥)]: «... فمَشَى كثيرٌ منهم على الأوَّل [أي: أنَّ سَرْدَ الأسماءِ مرفوعٌ]، واستدلُّوا به على جوازِ تسميةِ اللهِ ـ تعالى ـ بما لم يَرِدْ في القرآنِ بصيغةِ الاسْمِ؛ لأنَّ كثيرًا مِنْ هذه الأسماءِ كذلك».

وممَّنْ صحَّح الحديثَ ابنُ حِبَّان والحاكمُ، وحسَّنه النوويُّ في «الأذكار» (٩٤)، وأيَّدهُ الشوكانيُّ في «تحفة الذاكرين» (٧٠)، وردَّ على مَقالةِ ابنِ كثيرٍ بقوله: «ولا يَخْفاكَ أنَّ هذا العددَ قد صحَّحه إمامان وحسَّنه إمامٌ؛ فالقولُ بأنَّ بعضَ أهلِ العلمِ جَمَعَها مِنَ القرآنِ غيرُ سديدٍ، ومجرَّدُ بلوغِ واحدٍ أنه رَفَعَ ذلك لا يَنْتهِضُ لمُعارَضةِ الروايةِ ولا تُدْفَعُ الأحاديثُ بمِثْلِه، وأمَّا الحديثُ الذي ذَكَرَهُ [أي: ابنُ كثيرٍ] عن الإمام أحمد [الذي يأتي قريبًا، انظر: الرابط] فغايتُه أنَّ الأسماءَ الحُسْنى أَكْثَرُ مِنْ هذا المقدارِ، وذلك لا يُنافي كونَ هذا المقدارِ هو الذي وَرَدَ الترغيبُ في إحصائه وحِفْظِه، وهذا ظاهرٌ مكشوفٌ لا يخفى».

وعليه، فمَنْ صحَّح الروايةَ المشهورة عن الوليد بنِ مسلمٍ عن شعيب بنِ أبي حمزة عند الترمذيِّ فإنه أَثْبَتَ اسْمَ: «العَدْلِ» وأَحْصاهُ مِنْ أسماءِ الله الحُسْنى كإحصاءِ ابنِ منده وابنِ العربيِّ والبيهقيِّ، ومَنْ حَكَمَ على هذه الروايةِ وبقيَّةِ الروايات الأخرى في سَرْدِ الأسماء الحُسْنى بالضعف: إمَّا مِنْ جهةِ السند أو المتن أو كِلَيْهما فإنه لم يَثْبُتْ هذا الاسْمُ عنده؛ لأنَّ أسماء اللهِ لا تَثْبُتُ إلَّا بنصٍّ، ولم يَصِحَّ حديثٌ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حَصْرِ الأسماء بعددٍ مُعيَّنٍ، ولا في تعيينِ الأسماءِ الواردِ فضلُها ممَّا يمكن أَنْ يُحْتَجَّ به، وإِنْ وَرَدَ ذلك الاسْمُ في الصفةِ إلَّا أنه يدلُّ على معنًى قائمٍ بالذات فقط ولا يُشْتَقُّ الاسْمُ مِنْ تلك الصفةِ.

علمًا بأنه رُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال في دعائه: «اللَّهُمَّ أَنْتَ العَدْلُ فِي قَضَائِكَ» [«التوحيد» لابن منده (٢/ ١٤٩)]، وسُمِّيَ بالعَدْل لعدوله عن الجَوْر إلى القصد؛ فاللهُ ـ تعالى ـ عادلٌ في أحكامه وقضائه عن الظلم والجَوْر، وأفعالُه حَسَنةٌ على غايةٍ مِنَ الكمالِ كما أَخْبَرَ عن نَفْسِه بقوله: ﴿وَٱللَّهُ يَقۡضِي بِٱلۡحَقِّۖ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَقۡضُونَ بِشَيۡءٍ[غافر: ٢٠].

أمَّا اسْمُ «الحكيم» فلم يَخْتلِفِ العُلَماءُ في تَعْدادِه مِنَ الأسماء الحُسْنى لثبوته في آياتٍ مُتكاثِرةٍ منها: قولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ[الأنعام: ١٨، ٧٣؛ سبأ: ١]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٢٦[النساء: ٢٦؛ وغيرها]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم[البقرة: ٢٢٨، ٢٤٠؛ وغيرها]، وقولُه ـ تعالى ـ: ﴿وَكَانَ ٱللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمٗا ١٣٠[النساء].

واسْمُ «الحكيم» يدلُّ على ثبوتِ كمالِ الحُكْمِ لله وَحْدَه لا شريكَ له، يحكم بين الناسِ بما يَشاءُ بالحقِّ ويقضي فيهم بما يُريدُ بعَدْله؛ فحُكْمُه في خَلْقِه نافذٌ، لا رادَّ لحُكْمِه ولا مُعَقِّبَ لقضائه، قال ـ تعالى ـ: ﴿أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَٰكِمِينَ ٨[التين]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا ٢٦[الكهف]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَٱللَّهُ يَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ ٤١[الرعد].

كما يدلُّ هذا الاسْمُ العظيمُ على ثبوتِ الحكمةِ لله ـ تعالى ـ في خَلْقِه ودِينِه، وشَرْعِه وأَمْرِه؛ فيَضَعُ الأشياءَ مَواضِعَها، ويُنْزِلُها مَنازِلَها، ولا يَقْدَحُ في حكمته مَقالٌ ولا يَتوجَّهُ إليه سؤالٌ.

(٦) أخرجه أحمد في «مسنده» (١/ ٣٩١)، وابنُ أبي شيبة في «مُصنَّفه» في «الدعاء» (٦/ ٤١) بابُ ما قالوا في الرجلِ إذا أصابَهُ هَمٌّ أو حَزَنٌ، والحاكم في «مُسْتدرَكه» (١/ ٥٠٩) كتاب «الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذِّكْر»، وابنُ حِبَّان في «صحيحه» (٣/ ٢٥٣) في باب الأدعية: ذِكْر الأمر لمَن أصابَهُ حُزْنٌ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ ذهابَه عنه وإبدالَه إيَّاهُ فرحًا، والبيهقيُّ في «القضاء والقَدَر» بابُ ذِكْرِ البيانِ أنَّ الله ـ تبارك وتعالى ـ عادلٌ، والهيثميُّ في «موارد الظمآن» (٥٨٩) في «الأذكار» بابُ ما يقول إذا أصابَهُ هَمٌّ أو حزنٌ، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه.

والحديثُ صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٢/ ١٧٦) رقم: (١٩٩) وفي «صحيح مَوارِدِ الظمآن» (٢/ ٤٣٠)، ولفظُ الحديثِ بتمامه هو: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا»، قَالَ: فَقِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟» فَقَالَ: «بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا».

ويدلُّ قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ» على أنَّ الله ـ تعالى ـ عادلٌ في أفعاله بعبدِه مِنْ قضائه كُلِّه: خيرِه وشرِّه، وحُلْوِه ومُرِّه، وفِعْلِه وجزائه؛ فإنَّ الله ـ سبحانه ـ مُنَزَّهٌ عن أَنْ يَضَعَ الأشياءَ في غيرِ مَواضِعِها اللائقةِ بها؛ لأنه ظُلْمٌ حرَّمه اللهُ على نَفْسِه؛ فلا يَتصرَّفُ ـ سبحانه ـ إلَّا بالعَدْلِ والحكمة والمَصْلحة والرحمة، لا يظلم عِبادَه ولا يُعاقِبُهم بما لم يعملوه، ولا يَهْضِمُهم حسناتِ ما عَمِلوه؛ ولهذا فهو العدلُ الذي يَضَعُ الأمورَ في مَواضِعِها اللائقةِ بها ويُنْزِلُها مَنازِلَها المُناسِبةَ لها؛ فدلَّ الحديث ـ مِنْ جهةٍ ـ على الإيمانِ بالقَدَر وهو التوحيد، كما دلَّ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ على الإيمانِ بأنَّ الله عادلٌ فيما قَضَاهُ وهو العَدْلُ، وقد تَسَمَّى ـ سبحانه ـ بالحَكَمِ العَدْلِ.

وفي الحديثِ ردٌّ على طائفتَيِ القَدَريةِ والجبرية، يُفْصِحُ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«شفاء العليل» (٢/ ٧٥٥)] عن وجهِ الردِّ بما نصُّه: «والقَدَريةُ تُنْكِرُ حقيقةَ اسْمِ «الحَكَم» وتَرُدُّهُ إلى الحُكْمِ الشرعيِّ الدينيِّ، وتزعم أنها تُثْبِتُ حقيقةَ العَدْلِ والعَدْلُ عندهم إنكارُ القَدَر، ومع هذا فيَنْسِبونه إلى غايةِ الظلم؛ فإنهم يقولون: إنه يُخَلِّدُ في العذابِ الأليمِ مَن أَفْنَى عُمُرَه في طاعته ثمَّ فَعَلَ كبيرةً واحدةً وماتَ عليها.

فإِنْ قِيلَ: فالقضاءُ بالجزاءِ عَدْلٌ إِذْ هو عقوبةٌ على الذَّنْب فيكونُ القضاءُ بالذَّنْب عدلًا على أصول أهل السنَّة؟ وهذا السؤال لا يَلْزَمُ القدريةَ ولا الجبريةَ: أمَّا القدريةُ فعندهم أنه لم يَقْضِ المعصيةَ، وأمَّا الجبرية فعندهم أنَّ كُلَّ مقدورٍ عَدْلٌ، وإنما يَلْزَمُكم أنتم هذا السؤالُ.

قيل: نعم، كُلُّ قضائه عَدْلٌ في عَبْده فإنه وُضِعَ له في موضعه الذي لا يَحْسُنُ في غيره؛ فإنه وَضَعَ العقوبةَ ووَضَعَ القضاءَ بسببها ومُوجَبِها في موضعه؛ فإنه ـ سبحانه ـ كما يُجازي بالعقوبة في موضعها فإنه يُعاقِبُ بنفسِ قضاءِ الذَّنْب فيكون حكمُه بالذَّنْب عقوبةً على ذَنْبٍ سابقٍ؛ فإنَّ الذنوب تُكْسِبُ بعضُها بعضًا، وذلك الذَّنْبُ السابقُ عقوبةٌ على غفلته عن ربِّه وإعراضِه عنه، وتلك الغفلةُ والإعراضُ هي في أصلِ الجِبِلَّةِ والنشأة، فمَنْ أراد أَنْ يُكَمِّلَه أَقْبَلَ بقلبه إليه وجَذَبه إليه وأَلْهَمَه رُشْدَه وأَلْقى فيه أسبابَ الخير، ومَنْ لم يُرِدْ أَنْ يُكَمِّلَه تَرَكَه وطَبْعَه وخلَّى بينه وبين نَفْسِه؛ لأنه لا يصلح للتكميل، وليس مَحَلُّه أهلًا ولا قابلًا لِما يُوضَعُ فيه مِنَ الخير، وها هنا انتهى عِلْمُ العباد بالقَدَر.

وأمَّا كونُه ـ تعالى ـ جَعَلَ هذا مُصْلِحًا وأعطاهُ ما يَصْلُحُ له، وهذا لا يَصْلُحُ فمَنَعه ما لا يَصْلُحُ له؛ فذلك مُوجَبُ ربوبيته وإلهيته وعِلْمِه وحكمته؛ فإنه ـ سبحانه ـ خالِقُ الأشياءِ وأضدادِها، وهذا مقتضى كمالِه وظهورِ أسمائه وصِفاته... والمقصودُ أنه أَعْدَلُ العادلين في قضائه بالسبب وقضائه بالمسبَّب؛ فما قَضَى في عَبْدِه بقضاءٍ إلَّا وهو واقعٌ في مَحَلِّه الذي لا يَليقُ به غيرُه؛ إذ هو الحَكَمُ العَدْلُ الغنيُّ الحميد».

هذا، ويدلُّ قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ» على أنَّ أسماءَ اللهِ ـ تعالى ـ أَكْثَرُ مِنْ تسعةٍ وتسعين، وأنَّ لله ـ تعالى ـ أسماءً وصِفاتٍ استأثرَ بها في علمِ الغيب عنده لا يعلمها غيرُه، وبهذا قال جماهيرُ المسلمين [انظر: «مَعارِج القَبول» للحَكَمي (١/ ١١٧)].

وخالَفَهم ابنُ حزمٍ وطائفةٌ فزعموا أنَّ أسماءَه ـ تعالى ـ تَنْحصِرُ في هذا العَدَدِ [انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١١/ ٢٢١)].

وعلى مذهبِ الجمهور فإنَّ التقييد بالعدد في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» إنما هو عائدٌ إلى الأسماءِ الموصوفة بأنها هي هذه الأسماءُ.

قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ في [«مجموع الفتاوى» (٦/ ٣٨١)]: «فهذه الجملةُ ـ وهي قولُه: «مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» ـ: صفةٌ للتسعة والتسعين، ليسَتْ جملةً مُبْتَدَأةً، ولكنَّ موضعَها النصبُ، ويجوز أَنْ تكون مُبْتدَأةً والمعنى لا يختلف، والتقديرُ: أنَّ لله أسماءً بقَدْرِ هذا العَدَدِ، مَنْ أَحْصاها دَخَلَ الجنَّةَ كما يقول القائل: إنَّ لي مائةَ غلامٍ أَعْدَدْتُهم للعِتْقِ وأَلْفَ درهمٍ أَعْدَدْتُها للحجِّ؛ فالتقييدُ بالعدد هو في الموصوفِ بهذه الصفةِ لا في أصلِ استحقاقه لذلك العَدَدِ؛ فإنه لم يَقُلْ: إنَّ أسماءَ اللهِ تسعةٌ وتسعون» [انظر: «شفاء العليل» لابن القيِّم (٢/ ٧٥٨)].

وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» فقَدِ اختلفَتْ عباراتُ العُلَماءِ في تحديدِ مَعْنَى الإحصاءِ في الحديثِ وحَصَرَه الخطَّابيُّ ـ رحمه الله ـ في [«شأن الدعاء» (٢٦ ـ ٣٠)] في أربعةِ أَوْجهٍ:

الأوَّل: أنَّ المراد بالإحصاء: العَدُّ حتَّى تُسْتوفى حفظًا، ثمَّ يُدْعى بها، مثل قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَأَحۡصَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ عَدَدَۢا ٢٨[الجن]، ويُؤيِّدُه قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم في روايةٍ لمسلمٍ: «للهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» [تَقدَّمَ تخريجه، انظر: الرابط].

ورجَّح هذا المعنى الخطَّابيُّ في «شأن الدعاء»، والنوويُّ في «شرح مسلم» (١٧/ ٥) و«الأذكار» (٩٥) [انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١١/ ٢٢٥)].

الثاني: أنَّ المُرادَ بالإحصاء: الطاقةُ كقوله ـ تعالى ـ: ﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ[المزَّمِّل: ٢٠]، ويكون المعنى: أَنْ يُطيقَ العبدُ الأسماءَ الحُسْنى: يُحْسِن المُراعاةَ لها، والمُحافَظةَ على حدودِها تُجاهَ ربِّه، ويعمل بمُقْتضاها.

فإذا قال ـ مثلًا ـ: «السميع البصير» عَلِمَ أنَّ الله ـ سبحانه ـ يَسْمعُه ويَراهُ، وأنه لا تخفى عليه خافيةٌ؛ فيَخافُهُ في سِرِّه وعَلَنِه، ويُراقِبُه في كافَّةِ أحواله، وإذا قال: «الرزَّاق» جَزَمَ أنَّ الله ـ تعالى ـ هو الذي يرزقه ويَسوقُ رِزْقَه إليه في وقته، ويعلمُ أنه لا رازِقَ إلَّا اللهُ، ولا كافِيَ له سِواهُ.

الثالث: المُرادُ بالإحصاء: العقلُ والمعرفة، مأخوذةٌ مِنَ الحَصَاةِ وهي العقلُ. والعربُ تقول: فلانٌ ذو حَصَاةٍ أي: ذو عقلٍ ومعرفةٍ بالأمور؛ فيكون المعنى: أنَّ مَنْ عَرَفَها وعَقَلَ مَعانِيَها وآمَنَ بها دَخَلَ الجنَّةَ.

الرابع: المُرادُ بالإحصاء: قراءةُ القرآنِ جميعًا حتَّى يَخْتِمه؛ فيكونُ القارئُ قد استوفى الأسماءَ كُلَّها في أضعافِ التلاوة [انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١١/ ٢٢٥ ـ ٢٢٦)].

وعليه، يظهر أنه ليس المُرادُ بالإحصاءِ هو التعدادَ المجرَّدَ، أو الطاقةَ بمُفْرَدِها، أو العقل والفهم لوَحْدِهما؛ فإنَّ هذه المذكوراتِ تحمل جزئياتِ معنى الإحصاءِ لا المعنى الكُلِّيَّ، وقد نَقَلَ ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ في [«فتح الباري» (١١/ ٢٢٦)] عن أبي نُعَيْمٍ ـ رحمه الله ـ أنه قال: «الإحصاءُ المذكورُ في الحديثِ ليس هو التَّعدادَ، وإنما هو العملُ والتعقُّلُ بمَعاني الأسماءِ والإيمانُ بها»، وعن أبي محمَّدٍ الأصيليِّ ـ رحمه الله ـ قولَه: «ليس المُرادُ بالإحصاءِ عَدَّها فقط؛ لأنه قد يَعُدُّها الفاجرُ، وإنما المُرادُ: العملُ بها».

وبهذا يَتبيَّنُ أنَّ المُرادَ بإحصاءِ الأسماءِ الحُسْنى الموعودِ عليه بدخولِ الجنَّة هو المجموعُ الكُلِّيُّ لِمَعاني الإحصاء المُتقدِّمةِ مِنْ عَدِّ ألفاظها، وحِفْظِها وفهمِها، ودعاءِ الله ـ تعالى ـ بها، والعملِ بمُقْتضاها. وقد أَفْصَحَ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ عن ذلك في [«بدائع الفوائد» (١/ ١٦٤)] بيانًا لمَراتبِ إحصاءِ أسماءِ الله الحُسْنى في ثلاث مَراتِبَ:

«الأولى: إحصاءُ ألفاظِها وعَدَدِها.

المرتبة الثانية: فَهْمُ مَعانيها ومدلولها.

المرتبة الثالثة: دعاؤه بها كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ فَٱدۡعُوهُ بِهَا [الأعراف: ١٨٠] وهو مرتبتان:

إحداهما: دُعاءُ ثَناءٍ وعِبادةٍ.

والثاني: دُعاءُ طَلَبٍ ومسألةٍ.

فلا يُثْنى عليه إلَّا بأسمائه الحُسْنى وصِفاته العُلى، وكذلك لا يُسألُ إلَّا بها».

ونَقَلَ ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ في [«فتح الباري» (١٣/ ٣٧٨)] ـ أيضًا ـ عن ابنِ بطَّالٍ ـ رحمه الله ـ أنه قال: «الإحصاءُ يَقَعُ بالقول ويَقَعُ بالعمل:

فالذي بالعمل أنَّ لله أسماءً يختصُّ بها كالأَحَدِ والمُتَعالِ والقدير ونحوِها؛ فيجب الإقرارُ بها والخضوعُ عندها، وله أسماءٌ يُسْتَحَبُّ الاقتداءُ بها في مَعانِيها كالرحيم والكريم والعَفُوِّ ونحوِها؛ فيُسْتَحَبُّ للعبد أَنْ يَتَحلَّى بمَعانِيها لِيُؤدِّيَ حَقَّ العملِ بها؛ فبهذا يَحْصُلُ الإحصاءُ العمليُّ.

وأمَّا الإحصاءُ القوليُّ فيحصل بجَمْعها وحفظِها والسؤال بها، ولو شارَكَ المؤمنَ غيرُه في العَدِّ والحفظ فإنَّ المؤمن يمتاز عنه بالإيمان والعملِ بها» [انظر: «مَعارِج القَبول» للحَكَمي (١/ ١٢٥)].

(٧) في الآيةِ خطابُ اللهِ لعِبادِهِ بأَنْ أَعْلَمَهم أنَّ الذي أصابَهم مِن المَصائبِ إنما وَقَعَ بسببِ ما كَسَبَتْ أيديهم مِنَ المعاصي والذنوب؛ فيُكفِّرُ عن العِبادِ ذنوبَهم بما أصابَهم مِنَ المِحَنِ والبلايا، ويعفو عن كثيرٍ مِنَ السيِّئات والذنوبِ التي يفعلها العِبادُ ولا يُعاقِبُهم عليها، بل يعفو عنها، والعفوُ يَصْدُقُ على مَحْوِ المعصيةِ وتكفيرِ الذَّنْبِ في حقِّ المؤمن، كما يَصْدُقُ على تأخيرِ العقوبةِ في حقِّ الكافر.

قال الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ في [«فتح القدير» (٤/ ٥٣٩)]: «قال الواحديُّ: وهذه أَرْجَى آيةٍ في كتابِ الله؛ لأنه جَعَلَ ذنوبَ المؤمنين صنفين: صنفٌ كفَّره عنهم بالمَصائبِ، وصنفٌ عَفَا عنه في الدنيا، وهو كريمٌ لا يرجع في عفوِه؛ فهذه سنَّةُ الله مع المؤمنين. وأمَّا الكافر فإنه لا يُعَجِّلُ له عقوبةَ ذَنْبه حتَّى يُوافَى به يومَ القيامة» [وانظر: «تفسير ابنِ كثير» (٤/ ١١٦)].

هذا، ومُناسَبةُ ذِكْرِ المُصنِّف ـ رحمه الله ـ لهذه الآيةِ: لبيانِ ما اقتضَتْه حكمةُ اللهِ ـ تعالى ـ وعَدْلُه: أَنْ يُجازِيَ بالمَصائِبِ والمِحَنِ والبلايا بسببِ اقتراف المَعاصي والذنوب، ومِنْ مقتضى رحمةِ الله وكَرَمِه وفَضْلِه أَنِ امتنَّ عليهم بنعمةِ التجاوز عن السيِّئات والعفوِ عن كثيرٍ منها، وفي هذا المَقامِ يُبيِّنُ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«زاد المَعاد» (٣/ ٢٣٨)] هذا المعنى بقوله: «... أنَّ هذا الذي أصابَهم إنما أُتُوا فيه مِن قِبَلِ أَنْفُسِهم، وبسببِ أعمالِهم، فقال: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٦٥[آل عمران]، وذَكَرَ هذا بعَيْنِه فيما هو أَعَمُّ مِنْ ذلك في السُّوَرِ المكِّيَّةِ فقال: ﴿وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ ٣٠[الشورى]، وقال: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَ[النساء: ٧٩]؛ فالحَسَنةُ والسيِّئةُ ـ هاهنا ـ: النعمةُ والمُصيبةُ؛ فالنعمةُ مِنَ اللهِ مَنَّ بها عليك، والمُصيبةُ إنما نَشَأَتْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِك وعَمَلِك: فالأوَّلُ فَضْلُه، والثاني عَدْلُه، والعبدُ يَتقلَّبُ بين فَضْلِه وعَدْلِه، جارٍ عليه فَضْلُه، مَاضٍ فيه حكمُه، عَدْلٌ فيه قضاؤه.

وخَتَمَ الآيةَ الأولى بقوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٦٥[آل عمران] بعد قوله: ﴿قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ[آل عمران: ١٦٥] إعلامًا لهم بعمومِ قدرته مع عَدْلِه، وأنه عادلٌ قادرٌ؛ وفي ذلك إثباتُ القَدَرِ والسبب؛ فذَكَر السببَ وأضافَه إلى نفوسهم، وذَكَرَ عمومَ القدرةِ وأضافَها إلى نَفْسِه؛ فالأوَّلُ ينفي الجَبْرَ، والثاني ينفي القولَ بإبطالِ القَدَر؛ فهو يُشاكِلُ قولَه: ﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن يَسۡتَقِيمَ ٢٨ وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٩[التكوير]».

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)