الفتوى رقم: ١١٨١

الصنف: فتاوى طبِّية

في الموت الدماغيِّ وانتفاءِ تأثيره على الأحكام

السؤال:

يرى كثيرٌ مِنَ الأطبَّاء المعاصِرِين أنَّ موت الدماغ يُوجِبُ الحكمَ بموت صاحِبِه، غير أنَّ المعروف ـ عادةً ـ أنَّ الحكم عليه بالموت إنما يكون عند توقُّفِ قلبه عن النبض نهائيًّا، فهل علامةُ موت الإنسان بموت دماغه أم بموت قلبه؟ وبناءً عليه: فهل يجوز رفعُ أجهزة الإنعاش عن المريض عند تعطُّلِ دماغه كُلِّيًّا، ولو مع بقاءِ نبضاتِ قلبِه بالتنفُّس الاصطناعيِّ؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فلا تحصل حقيقةُ الموت ـ عند الفقهاء ـ إلَّا بمفارَقةِ الروحِ للبدن، بمعنى: زوالِ الحياة عمَّا وُجِدَ فيه الحياةُ أو عمَّنْ يتَّصِفُ بها بالفعل(١).

ومعيارُ مفارَقةِ الروحِ للبدن: علامةٌ واضحةٌ على تحقُّقِ الموت الفعليِّ، وهو ما تقتضيه النصوصُ الشرعية وتُؤكِّدُه، منها: حديثُ أمِّ سَلَمة رضي الله عنها قالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ»»(٢)، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم في حديثِ البراء بنِ عازبٍ رضي الله عنهما واصفًا قَبْضَ الملائكةِ روحَ المؤمن: «.. فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا ـ أي: مَلَكُ الموت ـ»(٣)، قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «فقَدِ استفاضَتِ الأحاديثُ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ الأرواح تُقْبَضُ وتُنعَّمُ وتُعذَّبُ ويقال لها: اخْرُجِي أيَّتُها الروحُ الطيِّبة»(٤).

وإذا كان الاستدلال على تحقُّقِ الحياة وحصولِهَا بنفخ الروح في البدن كما في قوله تعالى: ﴿فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا[التحريم: ١٢]، وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَجَلُهُ، وَرِزْقُهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ»(٥)؛ فإنه يُسْتدَلُّ بقياس العكس على حصول الموت وتحقُّقه بمفارَقةِ الروح للبدن.

وإذا تَقرَّرَ ما سَبَقَ فإنَّ العلماء والأطبَّاء لم يختلفوا في هذه الحقيقةِ الشرعية المتمثِّلةِ في مفارَقةِ الروح البدنَ؛ بل حكموا بالوفاة على مَنْ تَلِفَتْ خلايا دماغِه وتعطَّلَتْ جميعُ وظائفه وتوقَّفَ قلبُه عن النبض توقُّفًا كُلِّيًّا، وعليه فإنه ـ في تحرير مَحَلِّ النزاع ـ يتقرَّر أنَّ اجتماع العلَّتَيْن والاستدلالَ بهما على تحقُّقِ الموت ووقوعِ الوفاة بمفارَقةِ الروحِ البدنَ أمرٌ مُجْمَعٌ عليه، هذا مِنْ جهةٍ.

كما أنه لا خلافَ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ في الحكم بحياة المريض إذا طَرَأَ على دماغه عارضٌ معلومٌ زوالُه يمنعه في ذلك الوقتِ مِنَ القيام بمَهَمَّتِه.

وإنما يتوجَّهُ الخلافُ بينهم فيما إذا استمرَّ القلبُ في نبضاته مع تَلَفِ جذعِ الدماغ، فهل يُحْكَمُ عليه ـ شرعًا ـ بالموت أم لا بُدَّ مِنِ اجتماع العلَّتين السابقتَيْن حتَّى يُقَرَّرَ فيه هذا الحكمُ؟

والقول المعتمَدُ في هذه المسألة: عدمُ اعتبار موت الدماغ موتًا حقيقيًّا دون قلبِه، ولا تترتَّبُ عليه آثارُ موته به حتَّى يتوقَّفَ قلبُه عن النبض توقُّفًا نهائيًّا، ويُتيَقَّنَ مِنْ مفارَقةِ الروح للبدن بأماراتٍ ذَكَرَها الفقهاء، منها: شخوصُ البصر، وتوقُّفُ التنفُّس، وبرودةُ البدن، واسترخاءُ القدمين، وانخسافُ الصُّدْغين، ونحوُ ذلك مِنَ العلامات الدالَّةِ على الوفاة يقينًا، ولا يجوز العملُ فيها بالشكِّ ولا غَلَبةِ الظنِّ؛ لأنَّ الأصل في المريض الحياةُ، فتُستصحبُ حياتُه ولا يُجْزَمُ بموته إلَّا بعد التيقُّنِ مِنْ زوالها منه؛ إذ «الأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ»(٦)، والحكمُ بموت دماغه مع بقاء نبضات قلبه وتنفُّسِه وغيرِهما مِنْ علامات الحياة: هو شكٌّ في موته؛ لذلك وَجَبَ العملُ باليقين المُوجِبِ للحكم بحياته وهو الأصلُ ـ كما تَقدَّمَ ـ عملًا بقاعدةِ: «اليَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ»(٧)، قال ابنُ قدامة ـ رحمه الله ـ: «وإِنِ اشتبه أمرُ الميِّت اعتُبِر بظهور أمارات الموت، مِنِ استرخاء رجليه، وانفصالِ كفَّيْه، وميلِ أنفِه، وامتدادِ جلدة وجهه، وانخسافِ صُدْغيه، وإِنْ مات فجأةً كالمصعوق، أو خائفًا مِنْ حربٍ أو سَبُعٍ، أو تردَّى مِنْ جبلٍ؛ انتُظِرَ به هذه العلاماتُ حتَّى يُتيقَّنَ موتُه»(٨)، وقال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «فإِنْ شكَّ بأَنْ لا يكون به علَّةٌ، واحتمل أَنْ يكون به سكتةٌ، أو ظهرَتْ أماراتُ فزعٍ أو غيرِه؛ أُخِّرَ إلى اليقين بتغيير الرائحة أو غيرِه»(٩).

ولا يُقاسُ الميِّتُ دماغيًّا على المولود الذي لم يصرخ حالَ ولادته ولو تَنفَّسَ أو تَحرَّكَ؛ لأنَّ اعتبار حياة المولود مِنْ موته مَحَلُّ نزاعٍ بين العلماء؛ فهو ـ إذن ـ مشكوكٌ في حياته، بخلاف المريض فإنَّ الأصل فيه الحياةُ ولو مات دماغُه، ما لم يُتيقَّنْ مِنْ مفارَقةِ الروحِ جسدَه بأماراتها؛ لذلك يَتعذَّرُ القياسُ عليه؛ لظهور الفارق بينهما.

وعليه، فلا تترتَّبُ الآثارُ التي تَعْقُبُ الموتَ مِنِ: اعتداد زوجته، وتنفيذِ وصاياهُ، وقسمةِ تركته، ونحوِ ذلك، إلَّا بعد تحقُّق وفاة الميِّت التي لا تكون إلَّا باجتماع العلَّتَيْن مِنْ تلفِ خلايا الدماغ، مع توقُّف القلب والتنفُّس نهائيًّا، وما يستتبعه مِنْ علامات الموت الأخرى على وجه اليقين، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «إذا شكَّ: هل مات مورِّثُه فيَحِلُّ له مالُه أو لم يَمُتْ؟ لم يَحِلَّ له المالُ حتَّى يتيقَّنَ موتَه»(١٠).

أمَّا عن رفعِ أجهزة الإنعاش عن المريض بعد موت دماغه: فقَدْ أفتى المَجْمَعُ الفقهيُّ وهيئةُ كبار العلماء بأنَّ المريض الذي رُكِّبَتْ على جسمه أجهزةُ الإنعاش يجوز رفعُها إذا تَعطَّلَتْ جميعُ وظائف دماغه تعطُّلًا نهائيًّا، وقرَّرَتْ لجنةٌ مِنْ ثلاثة أطبَّاءَ اختصاصيِّين خُبَراءَ أنَّ التعطُّلَ لا رجعةَ فيه، وإِنْ كان القلبُ والتنفُّس لا يَزالان يعملان آليًّا بفعل الأجهزة المركَّبة، لكِنْ لا يُحْكَمُ بموته شرعًا إلَّا إذا تَوقَّفَ التنفُّسُ والقلبُ توقُّفًا تامًّا بعد رفعِ هذه الأجهزة، كما سَبَقَ بيانُه.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٧ المحرَّم ١٤٣٧
الموافق ﻟ: ٣١ أكتوبر ٢٠١٥م

 



(١) انظر: «الكلِّيَّات» لأبي البقا (٨٥٧)، «التعريفات الفقهية» للبركتي (٢٢٠).

(٢) أخرجه مسلمٌ في «الجنائز» (٩٢٠) مِنْ حديثِ أمِّ سلمة رضي الله عنها.

(٣) أخرجه أحمد (١٨٥٣٤)، وابنُ خزيمة في «التوحيد» (١/ ٢٧٣)، والحاكم (١٠٧)، مِنْ حديثِ البراء بنِ عازبٍ رضي الله عنهما. وانظر: «أحكام الجنائز» للألباني (١٥٧).

(٤) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ٢٢٣).

(٥) أخرجه البخاريُّ في «أحاديث الأنبياء» بابُ خَلْقِ آدَمَ صلواتُ الله عليه وذرِّيَّتِه (٣٣٣٢)، ومسلمٌ في «القَدَر» (٢٦٤٣)، مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه.

(٦) انظر: «الأشباه والنظائر» للسيوطي (٥١).

(٧) انظر: المرجع السابق (٥٠).

(٨) «المغني» لابن قدامة (٢/ ٤٥٢).

(٩) «روضة الطالبين» للنووي (٢/ ٩٨).

(١٠) «بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٣/ ٢٧٣).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)