مسائل النهي

[في الأمر بالشيء نهيٌ عن أضداده والعكس]

• قال الباجي -رحمه الله- في بيان مسائل النهي [ص ١٨٠]:

«الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ الأَمْرَ بالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بأَحَدِ أَضْدَادِهِ».

[م] الأمر يقتضي النهي عن ضدِّه وأضداد المأمور به من حيث المعنى، فإنَّ قولك: «اسكن» يقتضي النهي عن الحركة لاستحالة اجتماع الضِّدَّين، فالأمر به هو أمر بلوازمه وليس طريقه قصد الآمر، وإنما يثبت بطريق اللزوم العقلي(١).

أمَّا من جهة اللفظ فإنَّ الأمر بالشيء ليس هو النهي عن ضِدِّه؛ لأنَّ المعلوم أنَّ لفظ الأمر غير لفظ النهي، ثمَّ إنَّ اقتضاء النهي عن أضداد المأمور به إنما يكون وقت الامتثال.

ولَمَّا كان النهي فرعًا عن الأمر، فالأمر هو الطلب، والطلب قد يكون للفعل أو للترك، كان لكلِّ مسألة من الأوامر وِزان من النواهي على العكس، وعليه فإنَّ النهي عن الشيء أمر بضدِّه هذا إذا كان له ضدٌّ واحد، وأمَّا إن كان له أضداد فهو أمر بأحدها من جهة المعنى، وهو مذهب الجمهور؛ لأنَّ النهي يوجب عليه ترك المنهي عنه، إذ المطلوب في النهي الانتهاء، ولا يمكنه ترك المنهي عنه إلَّا بفعل ضِدِّه، فكان فعل ضِدِّه واجبًا التزامًا لا صيغةً، عملًا بقاعدة أنَّ «الأَمْر بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِلَوَازِمِهِ»، ويترتَّب على هذا القول أنَّ الزوج إن قال لزوجته: «إن خالفت أمري فأنت طالق» ثمَّ قال لها: «لا تقومي» فقامت فإنها تطلق؛ لأنَّ النهي عن الشيء أمر بضدِّه(٢).

[في أقسام النهي]

• وفي الصفحة نفسها [١٨٠] يقول الباجي -رحمه الله-:

«وَالنَّهْيُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: نَهْيٌ عَلَى وَجْهِ الكَرَاهَةِ، وَنَهْيٌ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ».

[م] ودليل هذا التقسيم أنَّ حكم الله هو: طلبه أو إذنه أو وضعه، والطلب إمَّا أن يكون للفعل أو الترك، وهو في كليهما: إمَّا أن يكون على سبيل التحتيم، وإمَّا على سبيل الترجيح، وما كان طلبًا للفعل على سبيل التحتيم فهو الإيجاب، وما كان طلبًا على سبيل الترجيح فهو الندب أو الاستحباب، وما كان طلبًا للترك على سبيل التحتيم فهو التحريم، وما كان طلبًا للترك على سبيل الترجيح فهو الكراهة(٣).

هذا، ويجدر التنبيه إلى أنَّ المكروه الذي يقابل المندوب، يُطلق على ترك المندوب، أو على ترك كلِّ مصلحة راجحة، فإنه قد يُطلق على الحرام ـ أيضًا ـ؛ لأنَّه بغيض إلى النفوس العارفة، إذ كلُّ بغيض إلى النفوس فهو مكروه في اللغة، ومنه قوله تعالى: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا[سورة الإسراء: ٣٨]، وعليه فقد تطلق الكراهة على المحظور والحرام فتسمَّى بالكراهة التحريمية، وعلى التنزيه فتسمَّى بالكراهة التنزيهية كما هو معهودٌ من كلام العلماء، غير أنه إذا أطلق لفظ المكروه في اصطلاح الفقهاء انصرف إلى كراهة التنزيه، وهذا هو المكروه الذي هو قسيم المحظور، وهو: ما ترجَّح تركه من غير وعيدٍ فيه إلى أن يقوم دليلٌ يصرفه إلى التحريم(٤).

[في اقتضاء النهي المطلق للتحريم]

• وقول المصنِّف بعدها في الصفحة نفسها:

«…النَّهْيُ إِذَا وَرَدَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ إِلاَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بهِ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الكَرَاهَةِ».

[م] صيغة النهي تقتضي التحريم حقيقة، ولا يحمل على غيره إلَّا بقرينة، وبه قال جمهور أهل العلم، وعليه إجماع السلف وأهل اللسان واللغة.

وصيغة النهي تقتضي انتهاء عن المنهي عنه على الفور، وتقتضي دوام الترك، أي: تكراره، وهو الحقُّ؛ لأنَّ المنهي عنه قبيح شرعًا، والقبيح يجب اجتنابه على الفور وفي كلِّ وقت، وقياسه على الأمر فاسد للفرق؛ ذلك لأنَّ الأمر يقتضي وجود المأمور مُطلقًا، والنهي يقتضي أن لا يوجد المنهي مُطلقًا، والنفي المطلق يَعُمُّ، والوجود المطلق لا يَعُمُّ، فكلُّ ما وُجد مَرَّة فقد وجد مُطلقًا، وما انتفى مَرَّة فما انتفى مُطلقًا(٥).

[في دلالة النهي على فساد المنهي عنه]

• وقوله -رحمه الله- في [ص ١٨١]:

«وَالنَّهْيُ إِذَا وَرَدَ دَلَّ عَلَى فَسَادِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، وَبهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرِهِمْ».

[م] ويضاف إلى هذه القاعدة عبارة: «إِلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ»، وبهذا القول قال جمهور العلماء: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأهل الظاهر مطلقًا سواء ورد النهي في العبادات أو في المعاملات، واختاره الغزالي في «المنخول»، وذهب بعض الحنفية والشافعية إلى عدم فساد المنهي، وبه قال القفال(٦) وإمام الحرمين والغزالي في «المستصفى»، وفصَّل آخرون بين العبادات والمعاملات فالنهي يقتضي فسادًا في العبادات دون المعاملات، وبه قال الباقلاني وأبو الحسين البصري(٧) واختاره الفخر الرازي، غير أنَّ أصحاب هذا المذهب يختلفون في جهة الفساد هل ثبتت باللغة أم بالشرع؟ وما عليه أكثر الأصوليِّين هو اقتضاء الفساد شرعًا لا لغةً؛ لأنَّ صيغة النهي في اللغة إنما تدلُّ على مُطلق الترك على سبيل اللزوم والجزم، وأمَّا دلالة الفساد والبطلان فقدرٌ زائدٌ يفتقر إلى دليل غير اللغة.

هذا، ويمكن أن يكون النهي اقتضى الفساد مطلقًا من جهة المعنى لا من جهة اللغة والشرع لدلالة النهي على قبح المنهي عنه ومذموميتِه وحَظْرِه، وهو بهذا الاعتبار مضادٌّ للمشروعية، وقريب من القول السابق في التفريق بين العبادات والمعاملات ما ذهب إليه التلمساني في تحقيق المذهب أنَّ النهي عن الشيء إن كان لحقِّ الله تعالى يفسد المنهي عنه، وإن كان لحقِّ العبد فلا يفسد المنهي عنه، وفي المسألة أقوال أخرى(٨).

هذا، وقد استدلَّ المصنِّف لمذهب الجمهور بإجماع الأُمَّة من الصحابة رضي الله عنهم وغيرِهم على الاستدلال بمجرَّد النهي في القرآن أو في السُّنَّة على فساد العقد المنهي عنه كفساد عقود الرِّبا بقوله تعالى: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا[البقرة: ٢٧٨]، وعن بيع الذهب متفاضلًا بنهي النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن بيع الذهب بالذهب متفاضلًا في حديث متفق عليه(٩)، وعن تحريم نكاح المشركات وفساده بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ[البقرة: ٢٢١]، وغيرها من المسائل ممَّا لا تحصى كثرة.

والمصنِّف اكتفى بذكر بعض الأدلة النقلية وفيها غُنْية، واستأنس آخرون ممَّن استدلَّ لهذا المذهب بإضافة أدلَّة عقلية تظهر من ناحيتين:

الناحية الأولى: إنه ثبت بالاستقراء التامِّ وتتبّع النصوص أنَّ الشارع لا ينهى عن شيء إلَّا لكون المفسدة متعلِّقة بالمنهي عنه، والمفسدة ضرر، والضرر يجب إزالته وإعدامه وهو مناسب له عقلًا وشرعًا.

الناحية الثانية: إنَّ الأمر يقابل النهي فإذا كان الأمر بالشيء يقتضي إيجاده وعدم تركه فالنهي عنه يقتضي تركه وعدم فعله بل اجتنابه، وإذا كان الأمر يقتضي صلاحَ المأمورِ به وجب أن يكون النهي يدلُّ على فساد المنهي عنه مطلقًا.

هذا، وإذا كان يدلُّ على هذا المذهب عموم قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(١٠)، الشامل للمنهي عنه في العبادات والمعاملات، وللمنهي عنه لعينه ولغيره، أو لحقِّ الله وحقِّ العبد، فضلًا عن إجماع الصحابة رضي الله عنهم على بطلان الأفعال والعقود بنهي الشارع عنها، إلَّا أنَّ ما يراه جمهور العلماء في النهي عن العمل لوصف مجاور ينفك عنه، غير لازم له أنه لا يقتضي بطلان العمل ولا فساده بل يبقى صحيحًا مُتَّصفًا بالمشروعية ومنتجًا لآثاره غير أنه يترتَّب على فاعله الإثم كالصلاة بخاتم من ذهب للرجال، والنهي عن الوطء في الحيض، والنهي عن سوم المسلم على سوم أخيه، والخطبة على خطبة أخيه، فإنَّ جهة المشروعية فيه تخالف جهة النهي فلا تلازم بينهما، فمخالفة الشرع تستوجب الإثم لا تخلف ترتَّب الأثر على ذلك العمل(١١).

هذا، والخلاف بين العلماء في هذه المسألة ليس لفظيًّا بل تترتَّب عليه جملةٌ من الآثار نذكر منها:

أوّلًا: الناذر لصيام يوم العيد فإنه عند الجمهور يبطل نذره، ولا يصحُّ صومه إن صام ولا يسقط القضاء عنه؛ لأنَّ النهي يقتضي فساد المنهي عنه، بخلاف الحنفية فيرون أنَّ النذر صحيح بأصله دون وصفه، ويجب عليه الفطر والقضاء، فإن صام ذلك اليوم فصومه صحيح مع الإثم، فالنهي عندهم لا ينافي المشروعية وإنما يقتضي صِحَّة المنهي عنه.

ثانيًا: نكاح المُحْرِم في الحجّ فاسد بالنهي الوارد في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ»(١٢)، وهو مذهب جمهور أهل العلم خلافًا لمن صحّحه بناءً على التقعيد السابق.

وبقية الآثار المترتِّبة على هذا الأصل من هذا القبيل.

 



(١) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١١/ ٦٧٥)، (٢٠/ ١١٨).

(٢) انظر: «مذكرة الشنقيطي الأصولية» (٢٨).

(٣) «الفتح المأمول في شرح مبادئ الأصول» للمؤلِّف (٣٩).

(٤) انظر: «شرح مختصر الروضة» للطوفي (١/ ٣٨٢)، «مذكرة الشنقيطي» (٢١).

(٥) انظر تفصيل الخلاف في مسألة اقتضاء صيغة النهي للتحريم في المصادر المثبتة على هامش «الإشارة» (١٨١).

(٦) هو أبو بكر محمَّد بن علي بن إسماعيل، القفال الشاشي الكبير، الفقيه الشافعي، المحدِّث الأصولي اللغوي، وهو والد القاسم صاحب «التقريب»، وهو أول من صنَّف في الجدل الحسن عند الفقهاء، له «شرح الرسالة»، و«التفسير»، و«أدب القضاء»، و«محاسن الشريعة»، و«دلائل النبوة»، توفي سنة (٣٣٦ﻫ).

انظر ترجمته في: «طبقات الشيرازي» (١١٢)، «تبيين كذب المفتري» لابن عساكر (١٨٢)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٤/ ٢٠٠)، «سير أعلام النبلاء» (١٦/ ٢٨٣)، «دول الإسلام» كلاهما للذهبي (١/ ٢٢٦)، «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (١/ ١٤٨)، «مرآة الجنان» لليافعي (٢/ ٣٨١)، «طبقات الشافعية» للسبكي، (٣/ ٢٠٠)، «طبقات الشافعية» للإسنوي (٢/ ٤)، «طبقات المفسرين» للداودي (٢/ ١٩٨)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٣/ ٥١).

والجدير بالذكر أنه إذا ذكر القفال الشاشي، فالمراد صاحب الترجمة، أمَّا القفال المروزي، فهو القفال الصغير الذي كان بعد الأربعمائة، ثمَّ إنَّ الشاشي يتكرر ذكره في التفسير والحديث والأصول والكلام، أمَّا المروزي فيتكرر في الفقهيات. [انظر: «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (٢/ ٢٨٢ ـ ٢٨٣)].

(٧) هو أبو الحسين محمَّد بن علي بن الطيِّب البصري، أحد أئمَّة المعتزلة الأعلام، كان إمام المعتزلة في وقته، كبير الاطلاع غزير المادة، جيد العبارة، وله تصانيف في علم الأصول وغيرها، منها: «المعتمد»، و«تصفح الأدلة»، و«غرر الأدلة» و«شرح الأصول الخمسة»، وكتاب في الإمامة، سكن بغداد وتوفي بها سنة (٤٣٦ﻫ).

انظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (٣/ ١٠٠)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٤/ ٢٧١)، «سير أعلام النبلاء» (١٧/ ٥٨٧)، «دول الإسلام» (١/ ٢٥٨)، «ميزان الاعتدال» كلها للذهبي (٣/ ٦٥٤، ٦٥٥)، «الكامل» لابن الأثير (٩/ ٥٢٧)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١٢/ ٥٣)، «لسان الميزان» لابن حجر: (٥/ ٢٩٨)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٣/ ٢٥٩)، «هدية العارفين» للبغدادي (٢/ ٦٩).

(٨) راجع المصادر المثبتة على هامش كتاب «الإشارة» للباجي (١٨١) و«مفتاح الوصول» للتلمساني (٤١٨).

(٩) انظر تخريجه على هامش «الإشارة» (١٨٢).

(١٠) أخرجه مسلم (١٢/ ١٦) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد اتفق الشيخان على إخراجه بلفظ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه البخاري (٥/ ٣٠١)، ومسلم (١٢/ ١٦) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(١١) انظر المصادر المثبتة على كتاب «الإشارة» للباجي (١٨٣).

(١٢) أخرجه مالك في «الموطأ» (١/ ٣٢١)، وأحمد في «مسنده» (١/ ٥٧، ٦٨، ٧٣)، والدارمي في «سننه» (٢/ ٣٨ ،١٤١)، ومسلم (٩/ ١٩٣)، وأبو داود (٢/ ٤٢١)، وابن ماجه (١/ ٦٣٢)، والترمذي (٣/ ١٩٩) والنسائي (٥/ ١٩٢) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)