الفتوى رقم: ١١٣٦

الصنف: فتاوى الصلاة - أحكام الصلاة

في اختلاف دخول وقت الوتر عند جمع التقديم بين المغرب والعشاء

السؤال:

هل تُشْرَعُ صلاةُ الوتر عند الجمع بين المغرب والعشاء مباشرةً أم يُنتظرُ دخولُ وقت العشاء الأصليِّ؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فلا خلافَ بين أهل العلم أنَّ ما بعد صلاة العشاء إذا أدِّيَتْ بعد دخول وقتها بمغيب الشفق إلى طلوع الفجر هو وقتٌ للوتر إجماعًا(١)، غير أنهم يختلفون في وقت الوتر في حقِّ مَنْ جَمَع العشاءَ مع المغرب جَمْعَ تقديمٍ، ومنشأُ اختلافهم في تقريرِ تبعية الوتر وارتباطه، بمعنى: هل الوتر تابعٌ لصلاة العشاء ومُرتبِطٌ بها، أم أنه متعلِّقٌ بوقتٍ خاصٍّ مبدؤه العشاءُ وهو مغيبُ الشفق؟ وإذا ارتبط بوقت العشاء: فهل يجوز أداءُ الوتر قبل صلاة العشاء أم لا يصحُّ إلَّا بعدها؟

فمذهب الشافعية والحنابلة جوازُ صلاة الوتر بعد صلاة العشاء ولو لم يَغِبِ الشفقُ(٢)، أي: يصلِّي الوترَ بعد الفراغ مِنْ صلاة العشاء مِنْ غير اشتراطٍ لدخول وقتها، وقد علَّلوا بأنَّ الوتر تابعٌ لفريضة العشاء ومرتَّبٌ عليها مطلقًا، سواءٌ صلَّى العشاءَ في وقتها أو مجموعةً مع المغرب، مُستدِلِّين بعموم قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ زَادَكُمْ صَلَاةً وَهِيَ الْوِتْرُ، فَصَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ العِشَاءِ إِلَى صَلَاةِ الفَجْرِ»(٣)، وبقول عائشة رضي الله عنها: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ـ وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ: العَتَمَةَ ـ إِلَى الفَجْرِ، إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً»(٤)، ولم يفصِّل الحديثان بين العشاء في وقتها والعشاءِ المجموعةِ مع المغرب، وذلك يفيد العمومَ عملًا بقاعدةِ: «تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الِاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ».

أمَّا مذهب المالكية فهو عدمُ جواز صلاة الوتر إلَّا بعد مغيب الشفق(٥)، أي: بعد دخول وقت العشاء والفراغِ مِنْ صلاتها، وللشافعية وجهٌ أنه يجوز أَنْ يصلِّيَ الوترَ في وقت العشاء ولو قبل الفريضة(٦)، وعلَّلوا مذهبَهم بأنَّ الوتر تابعٌ للوقت الخاصِّ وهو ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فيكون الليلُ المخصوصُ كُلُّه محلًّا لوقت صلاة الوتر، وأوَّلُ الليل المعهودُ مِنْ بعد مغيب الشفق، واستدلُّوا بحديثِ عائشة رضي الله عنها قالَتْ: «مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ»(٧)؛ فدلَّ ذلك أنَّ ما قبل مغيب الشفق ليس محلًّا للوتر، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَقَدْ أَمَدَّكُمُ اللهُ ـ اللَّيْلَةَ ـ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»، قَالَ: فَقُلْتُ: «مَا هِي يَا رَسُولَ اللهِ؟» قَالَ:«الوِتْرُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ العِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ»(٨)، وظاهرُ لفظ «الليلة» في الحديث ينصرف إلى الوقت الخاصِّ؛ فيفيدُ تحديدَ بدءِ وقتِ الوتر بما بعد مَغِيب الشفق، كما أنَّ فيه دليلًا على أنه لا اعتدادَ بالوتر قبل صلاة العشاء ولو بعد دخول الوقت.

وفي تقديري أنَّ مذهب المالكية ـ في هذه المسألة ـ أرجحُ وأحوطُ، وذلك مِنْ وجوهٍ:

ـ لأنه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في حدود علمي ـ مع كثرة جَمْعِه للحرج أنه أوتر بعد صلاة العشاء مجموعةً مع المغرب، ولا نُقِل عن أصحابه رضي الله عنهم فعلُ ذلك.

ـ ولأنَّ محلَّ الوتر هو الليل الخاصُّ، أي: ما بعد مغيب الشفق إلى طلوع الفجر، وهو وقتٌ خاصٌّ بالوتر لا يتقدَّم عليه وإِنْ قُدِّمَتْ صلاةُ العشاء؛ ذلك لأنَّ المقصود بالعشاء في الأحاديث السالفة الذِّكْرِ إنما هي عشاءٌ صحيحةٌ مؤدَّاةٌ في وقتها الأصليِّ، وهو الذي عَنَاهُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم دون صلاة العشاء المجموعةِ مع المغرب؛ فهي ـ بهذه الصورة ـ مقدَّمةٌ عن وقت وجوبها، وإنما جُوِّز فعلُها فيه ـ ترخيصًا للعذر ـ تبعًا للأولى وهي صلاة المغرب، و«التَّابِعُ فِي حُكْمِ مَتْبُوعِهِ» فلا يتقدَّم عليه ولا يخرج عن وقته؛ لذلك لم تكن الأحاديثُ الصحيحة داخلةً في باب العموم؛ لأنَّ إيقاع الوتر ـ في أصل التوقيت ـ قبل مغيب الشفق غيرُ مأذونٍ فيه؛ لذلك ينصرف الوقتُ إلى ما هو معهودٌ شرعًا وعرفًا.

ـ لا خلافَ في أنَّ صلاةَ تراويحِ رمضانَ بما فيها مِنْ وترٍ كان الناسُ يقومونها أوَّلَ الليل بعد عشاءٍ صحيحةٍ، ثمَّ استمرَّ العملُ على هذا إلى يومِنا ولم يُنْقَلِ الخروجُ عن ذلك.

ـ ولأنَّ إيقاعَ صلاةِ الوتر في الوقت الخاصِّ المُجْمَع عليه أحوطُ للدين وأحفظُ للوفاق؛ عملًا بقاعدةِ: «يُسْتَحَبُّ الخُرُوجُ مِنَ الخِلَافِ»(٩).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٣ ربيع الثاني ١٤٣٣ﻫ
الموافق ﻟ: ١٦ مـارس ٢٠١٢م

 


(١) انظر: «الإجماع» لابن المنذر (٢٩)، «المهذَّب» للشيرازي (١/ ٩٠)، «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٢٠٢).

(٢) انظر: «المغني» لابن قدامة (٢/ ٢٨١)، «روضة الطالبين» للنووي (١/ ٤٠٢).

(٣) أخرجه أحمد (٢٣٨٥١)، والطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (٢١٦٧)، والحاكم (٦٥١٤)، مِنْ حديثِ أبي بصرة الغفاريِّ رضي الله عنه. وصحَّح إسنادَه الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (٢/ ١٥٨) و«السلسلة الصحيحة» (١/ ٢٢١) برقم: (١٠٨).

(٤) أخرجه مسلمٌ في «صلاة المسافرين وقصرها» (٧٣٦) مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

(٥) انظر: «الفواكه الدواني» للنفراوي (٢/ ٢٧٣)، «شرح زروق على متن الرسالة» (١/ ١٨٤).

أمَّا الحنفية فالظاهر أنه لا تَرِدُ المسألة ـ عندهم ـ لأنهم خصُّوا الجمعَ بعَرَفةَ ومُزدلِفةَ، والجمعُ بمزدلفة يكون بتأخير المغرب إلى العشاء في وقت العشاء، فلا إشكالَ في ذلك، واللهُ أعلمُ.

(٦) انظر: «المجموع» للنووي (٤/ ١٣).

(٧) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الوتر» بابُ ساعاتِ الوتر (٩٩٦)، واللفظ لمسلمٍ في «صلاة المسافرين وقصرها» (٧٤٥)، مِنْ حديث عائشة رضي الله عنها.

(٨) أخرجه أحمد (٣٩/ ٤٤٥) مِنْ حديثِ خارجة بنِ حذافة العدويِّ رضي الله عنه. وصحَّحه محقِّقو المسند «الموسوعة الحديثية». وأخرجه الترمذيُّ في «الوتر» بابُ ما جاء في فضل الوتر (٤٥٢). قال الألبانيُّ في «الإرواء» (٢/ ١٥٦): «صحيحٌ دون قوله: هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ».

(٩) انظر القاعدةَ في: «الأشباه والنظائر» للسيوطي (١٣٦).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)