الكُسَعِيُّ وقوْسُه | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الخميس 9 شوال 1445 هـ الموافق لـ 18 أبريل 2024 م



الكُسَعِيُّ وقوْسُه

الكُسَعِيُّ رجلٌ منسوبٌ إلى كسع، قبيلةٍ باليمن، واسمه محارب بن قيسٍ، وبندامته يُضرَب المثل، يُقال: أندم من الكسعي.

ومن حديثه أنه كان يرعى إبِلًا بوادٍ كثير العشب والخمْط، فبينما هو يرعاها بَصُرَ بِنَبْعَةٍ على صخرةٍ، فقال: «ينبغي أن تكون هذه قوسًا»، فجعل يتعهَّدها ويُقوِّمها حتى أدركت، فقطعها، فلمَّا جفَّت اتَّخذ منها قوسًا، وأنشأ يقول:

يَا رَبِّ وَفِّقْنِي لِنَحْتِ قَوْسِي * فَإِنَّهَا مِنْ لَذَّتِي لِنَفْسِي

وَانْفَعْ بِقَوْسِي وَلَدِي وَعِرْسِي * أَنْحِتُهَا صَفْرَاءَ مِثْلَ الوَرْسِ

صَلْدَاءَ لَيْسَتْ كَقِسِيِّ النُّكْسِ

ثمَّ دهنها وخطمها بوترٍ، واتَّخذ مِنْ بُرايتها خمسةَ أسهمٍ، وجعل يقلِّبها في كفِّه ويُنشد:

هُنَّ وَرَبِّي أَسْهُمٌ حِسَانُ * يَلَذُّ لِلرَّامِي بِهَا البَنَانُ

كَأَنَّمَا قَوَّمَهَا مِيزَانُ * فَأَبْشِرُوا بِالخصْبِ يَا صِبْيَانُ

إِنْ لَمْ يَعُقْنِي الشُّؤْمُ وَالحِرْمَانُ *

ثمَّ أتى قُتَرَةً على مواردِ حُمُرٍ، فكَمَنَ فيها، فمرَّ به قطيعٌ، فرمى عَيْرًا منها بسهمٍ، فأنفذه وجازه وأصاب الجبل، فأَوْرَى (أشعل) نارًا، فظنَّ أنه أخطأه، فأنشد يقول:

أَعُوذُ بِاللهِ العَزِيزِ الرَّحْمَنْ * مِنْ نَكَدِ الجَدِّ مَعًا وَالحِرْمَانْ

مَا لِي رَأَيْتُ السَّهْمَ بَيْنَ الصَّوَّانْ * يُورِي شَرَارًا مِثْلَ لَوْنِ العِقْيَانْ

فَأَخْلَفَ اليَوْمَ رَجَاءَ الصِّبْيَانْ

ثمَّ مرَّ به قطيعٌ آخر، فرمى عَيْرا فأنفذه السهم فصنع صنيعَه الأوَّل، فأنشأ يقول:

لَا بَارَكَ الرَّحْمَنُ فِي رَمْيِ القَتَرْ * أَعُوذُ بِالخَالِقِ مِنْ شَرِّ القَدَرْ

أَأَمخطُ السَّهْم لِإِرْهَاقِ الضَّرَرْ * أَمْ ذَاكَ مِنْ سُوءِ احْتِيَالٍ وَنَظَرْ

أَمْ لَيْسَ يُغْنِي حَذَرٌ عَنْهُ قَدَرْ

ثمَّ مرَّ به قطيعٌ آخر فرمى عيرًا، فأمخطه السهم، فصنع صنيعَه الأوَّل فأنشأ يقول:

مَا بَالُ سَهْمِي يُوقِدُ الحُبَاحِبَا * قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَائِبَا

فَأَخْطَأَ العَيْرَ وَوَلَّى جَانِبَا * فَصَارَ رَأْيِي فِيهِ رَأْيًا خَائِبَا

ثمَّ مرَّ به قطيعٌ آخر فرمى عيرًا بسهم فأمخطه السهم وصنع ما صنع أوَّلًا فأنشأ يقول:

يَا أَسَفَا وَالجَد النَّكِدْ * فِي قَوْسِ صِدْقٍ لَمْ تُزَيَّنْ بِأَوَدْ

أَخْلَفَ مَا أَرْجُو لِأَهْلٍ وَوَلَدْ * فِيهَا وَلَمْ يُغْنِ الحِذَارُ وَالجَلَدْ

فَخَابَ ظَنُّ الأَهْلِ جَمْعًا وَالوَلَدْ

ثمَّ مرَّ قطيعٌ آخر فرمى عيرًا بسهم فأمخطه السهم وصنع كما صنع أوَّلًا فأنشأ يقول:

أَبَعْدَ خَمْسٍ قَدْ حَفِظْتُ عَدَّهَا * أَحْمِلُ قَوْسِي وَأُرِيدُ رَدَّهَا

أَخْزَى الإِلَهُ لينَهَا وَشَدَّها * وَاللهِ لَا تَسْلَمُ مِنِّي بَعْدَهَا

وَلَا أُرَجِّي ـ مَا حَيِيتُ ـ رِفْدَهَا

ثمَّ أخذ القوس فكسرها على حجرٍ وبات، فلمَّا أصبح أبصر الأعيار الخمسة مطروحةً حوله، فأسِفَ وندم على كسر القوس، وعضَّ على إبهامه فقطعها تلهُّفًا، وأنشأ يقول:

ندمت ندامةً لو أنَّ نفسي * تطاوعني إذًا لقطعت خمسي

تبيَّن لي سفاهُ الرأي مني * لعمرُ أبيك حين كسرت قوسي

 وبالكسعي يتمثَّل الفرزدق حين يقول:

نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لَمَّا * غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوَارُ

وَكَانَتْ جَنَّتِي فَخَرَجْتُ مِنْهَا * كَآدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُ الضِّرَارُ

وَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ يَدِي وَنَفْسِي * لَأَصْبَحَ لِي عَلَى القَدَرِ اخْتِيَارُ

وَكُنْتُ كَفَاقِئٍ عَيْنَيْهِ عَمْدًا * فَأَصْبَحَ مَا يُضِيءُ لَهُ نَهَارُ

[«شرح مقامات الحريري» للشريشي (١/ ٢٥٨)]