في صفحة (٤٤) مِن «الفتح المأمول»: مثَّلتم للكراهةِ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى المَسْجِدِ؛ فَلاَ يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؛ فَإنَّهُ فِي صَلاَةٍ» وجعلتم الصارفَ... للمزيد

الفتوى رقم: ٩٢٩

الصنف: فتاوى الأصول والقواعد - أصول الفقه

في صحَّة صارف النهي عن التشبيك إلى الكراهة

السؤال:

في صفحة (٤٤) مِن «الفتح المأمول»: مثَّلتم للكراهةِ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى المَسْجِدِ؛ فَلاَ يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؛ فَإنَّهُ فِي صَلاَةٍ»(١)، وجعلتم الصارفَ مِن التحريمِ إلى الكراهة ما ثَبَتَ في الصحيح: أنه صلَّى الله عليه وسلَّم «شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابعِهِ» وذلك في المسجد في حديثِ ذي اليدين(٢).

فالإشكالُ أنَّ تشبيكَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان بَعْدَ الصلاةِ، ونهيَه عنه قبل الصلاةِ وأثناءَها بدليلِ تعليله في آخِرِ الحديث بقوله: «فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ». وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فلا تَعارُضَ بين الحديثين؛ لأنَّ حديثَ النهيِ عن تشبيكِ الأصابع إنما وَرَدَ فيمَن كان في المسجدِ أو ماشيًا إليه، سواءٌ كان في الصلاة أو قبلها أو بعدها، قال الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ: «وهو مَنْهِيٌّ عنه في الصلاةِ ومقدِّماتها ولواحقها مِن الجلوس في المسجد والمشيِ إليه»(٣)، ويُستأنس لهذا المعنى بما وَرَدَ ضعيفًا مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي المَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ؛ فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ فِي المَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ»(٤)، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان في المسجد وشَبَّك بين أصابِعِه ولم يخرج منه؛ لذلك كان حديثُ ذي اليدين: «...ثُمَّ سَلَّمَ فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي المَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»(٥) صارفًا لظاهِرِ النهي ـ الذي هو للتحريم ـ إلى الكراهة، وبه يتمُّ الجمعُ بين الحديثين بحَمْلِ النهي على الكراهة.

وإذا كانَتْ علَّةُ النهي عن تشبيك الأصابِعِ في المسجد هي العَبَثَ ـ على أَرْجَحِ الأقوال(٦) ـ فإنه يمكن توسيعُ دائرةِ الكراهة مِن المسجد إلى سائِرِ مَواضعِ العبادات كالسعي والطواف وغيرها، ومَجالِسِ العلم والذِّكر والمُدارَسة؛ لأنَّ العبث لا يتجانس مع مضمون العبادة والديانة.

ويُقوِّي ذلك أنَّ تشبيك الأصابعِ يُنهى عنه في الصلاة، سواءٌ في المسجد أو خارِجَه؛ وعليه فإنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فضلًا عن كونه في المسجد ـ كما في حديثِ ذي اليدين ـ فإنَّ تشبيكه بعد الصلاةِ كان في مَحَلِّ الذِّكر والتسبيح؛ فكان فِعْلُه صلَّى الله عليه وسلَّم لذلك نادرًا يرفع التحريمَ ولا يرفع الكراهةَ.

هذا، وإذا كان التشبيكُ المَنْهِيُّ عنه مِن أجلِ العَبَث فإنه يخرج مِن النهي ما كان سبيلُه التعليمَ والبيانَ؛ فقَدْ ثَبَتَ عن جابرٍ رضي الله عنه أنه قال: «... فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الأُخْرَى وَقَالَ: «دَخَلَتِ العُمْرَةُ فِي الحَجِّ»»(٧)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ(٨).

ففي الحديثين وجهٌ للتشبيه والمبالَغةِ في البيان. قال ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «ويستفاد منه أنَّ الذي يريد المبالَغةَ في بيانِ أقواله يُمثِّلها بحركاته ليكون أَوْقَعَ في نَفْسِ السامع»(٩).

والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٧ جمادى الثانية ١٤٢٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٢١ جوان ٢٠٠٨م

 


(١) أخرجه أبو داود في «الصلاة» بابُ ما جاء في الهدي في المشي إلى الصلاة (٥٦٢)، والترمذيُّ ـ واللفظُ له ـ في «الصلاة» بابُ ما جاء في كراهيةِ التشبيك بين الأصابع في الصلاة (٣٨٦)، مِن حديث كعب بنِ عُجْرةَ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٤٤٢).

(٢) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» بابُ تشبيكِ الأصابع في المسجد وغيرِه (٤٨٢)، ومسلمٌ ـ دون ذِكْرِ التشبيك ـ في «الصلاة» (٥٧٣)، مِن حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(٣) «نيل الأوطار» للشوكاني (٣/ ٢٣٠).

(٤) أخرجه أحمد في «مسنده» (١١٣٨٥) مِن حديث أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الهيثميُّ في «مَجْمَع الزوائد» (٢/ ١٣٩)، قال ابنُ حجرٍ في «الفتح» (٢/ ١٤٢): «وفي إسنادِه ضعيفٌ ومجهولٌ»، وضعَّفه الألبانيُّ في «السلسلة الضعيفة» (٦٨١٥).

(٥) سبق تخريجه، انظر: الهامش (٢)، وهو المعروف بحديث ذي اليدين.

(٦) وقيل: لِما فيه مِن التشبُّهِ بالشيطان، وقيل: لدلالةِ الشيطان على ذلك، [انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٣/ ٢٢٢٩)].

(٧) أخرجه مسلمٌ في «الحجِّ» (١٢١٨) مِن حديث جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.

(٨) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» بابُ تشبيكِ الأصابعِ في المسجد وغيرِه (٤٨١)، ومسلمٌ في «البرِّ والصلة والآداب» (٢٥٨٥)، مِن حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه.

(٩) «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ٤٥٠).

 

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)