العقائد الإسلامية
مِنَ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

للشيخ عبد الحميد بنِ باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)

بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ

«التصفيف الثالث: بيان قواعد الإسلام الخمس (٣)»

سَادِسًا: أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى المُكَلَّفِ مِنْ مُسْلِمٍ بَلَغَ، أَوْ كَافِرٍ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الإِسْلاَمِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ(١)، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المُتَقَدِّمِ، وَلِحَدِيثِ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ(٢)(٣):

«لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ(٤) وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ(٥)، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ»، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُمَيَّةَ: «يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟!» فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدَانِ عَلَيْهِ(٦) تِلْكَ المَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: «هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ»(٧)، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ»(٨)(٩).

وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا(١٠)، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ(١١)»(١٢)(١٣).

سَابِعًا: لاَ يَكْفِي النُّطْقُ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ إِذَا كَانَ النَّاطِقُ بِهِمَا لاَ يَفْهَمُ أَصْلَ مَعْنَاهُمَا(١٤) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَيُؤْمِنُوا بِي، وَبِمَا جِئْتُ بِهِ»(١٥).

ثَامِنًا: وَيَكْفِي لِلدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُمَا(١٦)، لِحَدِيثِ بَنِي جَذِيمَةَ(١٧) قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ(١٨) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ(١٩) إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: «أَسْلَمْنَا»، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: «صَبَأْنَا صَبَأْنَا»، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ(٢٠): «وَاللهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلاَ يَقْتُلُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ»، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَاهُ لَهُ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ(٢١)مَرَّتَيْنِ»»(٢٢). رَوَاهُ البُخَارِيُّ(٢٣).



(١) التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وتركُ عبادة ما سواه هو أوَّل ما يُدْخَل به الإسلامُ -كما صرَّح به المصنِّف- وآخرُ ما يُخْرَج به من الدنيا على ما أشار إليه بحديث وفاة أبي طالبٍ، وقد قال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» [أخرجه أبو داود (٣/ ٤٨٦)، والحاكم (١/ ٣٥١) وقال: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي. والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» برقم: (٣١١٦)].

فالأمر بإخلاص العبادة لله تعالى أوَّل ما دعت إليه الرسلُ عليهم السلام، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٦]، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٧]، قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (٢/ ١٣): «ففاتحة دعوة الرسل الأمرُ بالعبادة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»، وذلك يتضمَّن الإقرارَ به وعبادتَه وحده، فإنَّ الإله هو المعبود، ولم يقل حتى يشهدوا أن لا ربَّ إلاَّ الله، فإنَّ اسم الله أدلُّ على مقصود العبادة له، التي لها خُلق الخلقُ وبها أُمروا». فشهادة أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله هي أوَّل واجبٍ وآخر واجبٍ، وتوحيد الإلهية هو أوَّل الأمر وآخره.

هذا والمصنِّف -رحمه الله- عبَّر عن أوَّل واجبٍ على المكلَّف بأنْ يعلم أنْ لا إله إلاَّ الله، وهي عبارةٌ غير دقيقةٍ لأنَّ الشهادة من العلم كما قال تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: ٨٦]، والمراد بالشهادة العلمُ والنطق باللسان، لأنَّ الشاهد مُخْبِرٌ عن علمٍ فلا يكفي فيه مجرَّد الإخبار، بل لا بدَّ من علمٍ وإخبارٍ وقبولٍ وإقرارٍ وانقيادٍ، ولعلَّ المصنِّف عنى بالعاجز عن النطق، فإنه يكفيه العلمُ بها ليصير مسلمًا مع الإتيان بكلِّ ما هو من خصائص الإسلام ومبانيه كالصلاة والزكاة والصوم والحجِّ، أمَّا مع القدرة على النطق فإنه لا يكفي الاعتقادُ بقلبه، وقد تقدَّم الإجماع المنقول من شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأنه ليس بمسلمٍ حتى ينطق بها، ذلك لأنَّ كلمة «أشهد» تدلُّ على الإخبار، والإخبار متضمِّنٌ للنطق، ولهذا قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لعمِّه: «قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» ولم يقل له: «اعلم» أو «اعتقد أنْ لا إله إلاَّ الله».

هذا، وجديرٌ بالبيان والتنبيه أنَّ العلماء يختلفون في أوَّل واجبٍ على المكلَّف على أقوالٍ: وقول عامَّة أهل الكلام من الأصوليين الذين أبطلوا إيمانَ المقلِّد وزعموا أنَّ الإيمان لا يصحُّ بالتسليم والانقياد لنصوص الشرع من غير استدلالٍ عقليٍّ، بَنَوْا مقالتَهم على أنَّ أوَّل فرضٍ على العباد هو النظر والاعتبار والاستدلال، على تفصيلٍ فيما بينهم. [«فتح الباري» لابن حجر (١٣/ ٣٤٩)].

والصحيح ما قرَّره المصنِّف من أنَّ أوَّل ما يجب على المكلَّف: «شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله» لا النظر ولا القصد إلى النظر، قال ابن أبي العزِّ في «شرح العقيدة الطحاوية» (٧٥): «ولهذا كان الصحيح أنَّ أوَّل واجبٍ يجب على المكلَّف: «شهادة أنْ لا إله إلاَّ الله»، لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشكُّ كما هي أقوالٌ لأرباب الكلام المذموم، بل أئمَّة السلف كلُّهم متَّفقون على أنَّ أوَّل ما يؤمر به العبدُ الشهادتان، ومتَّفقون على أنَّ من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيبَ بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميَّز عند من يرى ذلك، ولم يوجب أحدٌ منهم على وليِّه أن يخاطبه حينئذٍ بتجديد الشهادتين، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبًا باتِّفاق المسلمين، ووجوبُه يسبق وجوبَ الصلاة، لكن هو أدَّى هذا الواجبَ قبل ذلك».

وإذا لم يكن النظر واجبًا وجوبًا عامًّا لعدم فعل السلف له وأمرِهم به إلاَّ أنه قد يجب على بعض الناس الذين قد يطرأ عليهم ما يُفسد فطرتَهم فيحتاجون إلى نظرٍ يحصل لهم به معرفة الله تعالى، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية مستدلاًّ بأنه لو كان النظر أوَّلَ واجبٍ لكان يجب على الرسل أن يَدْعوا الناسَ أوَّل ما يَدْعونهم إلى النظر، وهذا ممَّا عُلم فسادُه من دين الإسلام، فإنَّ كلَّ كافرٍ إذا أراد الدخولَ في دين الإسلام أوَّل ما يؤمن بالشهادتين، فلو قال: أنا أُقِرُّ بالخالق لم يكن مسلمًا، ولو قال: أنا أعرف اللهَ أنه ربُّ العالمين ورازقهم ومدبِّرهم لم يَصِرْ بذلك مسلمًا. [«مجموعة الرسائل الكبرى» لابن تيمية (٢/ ٣٤٦-٣٤٨)].

هذا، وقد تفرَّع على هذه المسألة أنَّ الواجب على كلِّ أحدٍ معرفةُ الله بالأدلَّة الدالَّة عليه، وأنه لا يكفي التقليدُ في ذلك، والصحيح أنَّ إيمان المقلِّد معتبرٌ غيرُ مشروطٍ فيه النظرُ والاستدلال، إذ لو كان واجبًا لَفَعَله الصحابة وأمروا به، لكنَّهم لم يفعلوا، ولو فعلوا لنُقل عنهم، والاعتراض بأنَّ الصحابة كانت معرفتُهم بالعقائد مبنيَّةً على الدليل اكتفاءً بصفاء أذهانهم واعتمادهم على السليقة ومشاهدتهم الوحيَ يردُّه أنَّ الصحابة رضي الله عنهم لمَّا فتحوا البلدانَ والأمصار قبلوا إيمانَ العجم والأعراب والعوامِّ وإن كان تحت السيف أو تبعًا لكبيرٍ منهم أسلم، ولم يأمروا أحدًا منهم بترديد النظر، ولا سألوه عن دليل تصديقه، ولا أرجؤوا أَمْرَه حتى ينظر، بل لم يقل النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لأحدٍ: لا أقبل إسلامَك حتى أعلم أنك نظرتَ واستدللتَ، قال ابن حزمٍ في «الفصل» (٥/ ٢٤٤): «فإذا لم يقل عليه الصلاة والسلام ذلك فالقول به واعتقادُه إفكٌ وضلالٌ، كذلك أجمع جميعُ الصحابة رضي الله عنهم على الدعاء إلى الإسلام وقبوله من كلِّ أحدٍ دون ذكر الاستدلال، ثمَّ هكذا جيلاً فجيلاً حتى حدث من لا وزن له»، ولأنَّ الاستدلال والنظر ليس هو المقصودَ في نفسه، وإنما هو طريقٌ إلى حصول العلم حتى يصير بحيث لا يتردَّد، فمن حصل له هذا الاعتقاد الذي لا شكَّ فيه من غير دلالةٍ، فقد صار مؤمنًا وزال عنه كُلْفة طلب الأدلَّة، ولو كان النظر في معرفة الله واجبًا لأدَّى إلى الدور، لأنَّ وجوبَ النظر المأمورَ به متوقِّفٌ على معرفة الله، ومعرفةُ الله متوقِّفةٌ على النظر، ومن أنعم الله عليه بالاعتقاد الصافي من الشبه والشكوك فقد أنعم الله عليه بكلِّ أنواع النِّعَم وأجلِّها، حتى لو لم يَكِلْهُ إلى النظر والاستدلال لا سيَّما العوامُّ، فإنَّ كثيرًا منهم تجد الإيمانَ في صدره كالجبال الراسيات أكثر ممَّن شاهد ذلك بالأدلَّة، ومن كان هذا وَصْفَه كان مقلِّدًا في الدليل.

(٢) هو أبو طالبٍ عبدُ منافِ بنُ عبد المطَّلب، عمُّ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ومجيره والقائم دونه، كان للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلم عضدًا وناصرًا يذبُّ عنه ويردُّ كلَّ ما يؤذيه وهو مقيمٌ مع ذلك على دين قومه، من أولاده: جعفرٌ، وعليٌّ، وعقيلٌ رضي الله عنهم، توفِّي أبو طالبٍ في ذي القعدة قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد خروج المسلمين من الشِّعب، وعمره بضعٌ وثمانون سنةً.

انظر: «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم (٣٧)، «البداية والنهاية» لابن كثير (٣/ ١٢٢)، «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (٢/ ٩٠)، «الإصابة» لابن حجر (٤/ ١١٥)، «فتح الباري» لابن حجر (٧/ ١٩٣)، «نهاية الأرب» للقلقشندي (٣١١)].

(٣) والثابت من الأحاديث أنَّ أبا طالبٍ مات كافرًا مشركًا خلافًا لِما تعتقده الشيعة الرافضة مِن أنه مات مسلمًا، وقد جاء التصريح بموته مشركًا فيما رواه أبو داود (٣/ ٥٤٧)، والنسائي (٤/ ٨٩)، والبيهقي (٣/ ٣٩٨)، من حديث عليٍّ رضي الله عنه قال: لمَّا مات أبو طالبٍ قلت: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ»، قَالَ: «اذْهَبْ فَوَارِهِ»، قُلْتُ: «إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا»، فَقَالَ: «اذْهَبْ فَوَارِهِ»، والحديث صحَّحه ابن حجرٍ والألبانيُّ في «صحيح سنن أبي داود» برقم (٣٢١٤).

قال ابن حجرٍ في «الفتح» (٧/ ١٩٥): «ووقفتُ على جزءٍ جمعه بعضُ أهل الرفض أَكْثَرَ فيه من الأحاديث الواهية الدالَّة على إسلام أبي طالبٍ، ولا يثبت من ذلك شيءٌ، وبالله التوفيق، وقد لخَّصتُ ذلك في ترجمة أبي طالبٍ من كتاب «الإصابة» (٤/ ١١٥)».

ثمَّ قال (٧/ ١٩٦): «من عجائب الاتِّفاق أنَّ الذين أدركهم الإسلامُ من أعمام النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أربعةٌ: لم يسلم منهم اثنان وأسلم اثنان، وكان اسم من لم يسلم ينافي أساميَ المسلمين وهما أبو طالبٍ واسمُه عبد منافٍ، وأبو لهبٍ واسمه عبد العزَّى، بخلاف من أسلم وهما حمزة والعبَّاس».

(٤) هو أبو جهلٍ عمرو بنُ هشام بنِ المغيرة المخزوميُّ، وكنيته أبو الحكم، وكنَّاه المسلمون بأبي جهلٍ، وكان أشدَّ الناس عداوةً للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأكثرهم أذًى له ولأصحابه، وهو الذي قتل سميَّةَ أمَّ عمَّار بنِ ياسرٍ، وأفعاله مشهورةٌ، وقُتل ببدرٍ، قتله ابنا عفراء، وأجهز عليه عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه. [انظر: «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم (١٤٥)، «البداية والنهاية» لابن كثير (٣/ ٢٧٨)، «الكامل» لابن الأثير (٢/ ٧٣)].

(٥) هو عبد الله بن أمية المخزوميُّ، صهر النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وابن عمَّته عاتكة، وأخو أمِّ سلمة زوج النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، كان شديدَ العداوة للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ثمَّ أسلم وحَسُنَ إسلامُه، وشهد مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فتح مكَّة، وشهد حنينًا، واستُشهد بسهمٍ يوم الطائف سنة ثمانٍ من الهجرة. [انظر: «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٣/ ٨٦٨)، «الإصابة» لابن حجر (٢/ ٢٧٧)، «البداية والنهاية» لابن كثير (٤/ ٣٥١)، «الكامل» لابن الأثير (٢/ ٧٦)].

(٦) في البخاري: «ويعودان»، وفي مسلمٍ: «ويعيد له». قال النووي في «شرح مسلم» (١/ ٣١٤): «فهكذا وقع في جميع الأصول: «ويعيد له» يعني: أبا طالبٍ، وكذا نقله القاضي -رحمه الله- عن جميع الأصول والشيوخ، قال: وفي نسخةٍ «ويعيدان له» على التثنية لأبي جهل وابن أبي أميَّة. قال القاضي: وهذا أشبه».

(٧) من أحسن الآداب والتصرُّفات: أنَّ من حكى قولَ غيره القبيحَ أتى به بضمير الغَيْبة لقُبح صورة لفظه الواقع. [النووي في «شرح مسلم» (١/ ٢١٤)].

(٨) أخرجه البخاري في «الجنائز» (٣/ ٢٢٢) باب إذا قال المشرك عند الموت: «لا إله إلاَّ الله»، ومسلم في «الإيمان» (١/ ٢١٤) باب وفاة أبي طالبٍ وما نزل في شأنه، من حديث سعيد بن المسيِّب عن أبيه، وتمامه: «فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [التوبة: ١١٣]، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [القصص: ٥٦].

قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (٧/ ٥٥٣): «وأبو طالبٍ إنما كانت محبَّتُه للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لقرابته منه لا لله، وإنما نصره وذبَّ عنه لحميَّة النسب والقرابة، ولهذا لم يتقبَّل اللهُ ذلك منه، وإلاَّ فلو كان ذلك عن إيمانٍ في القلب لَتكلَّم بالشهادتين ضرورةً، والسبب الذي أوجب نَصْرَه للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم -وهو الحميَّة- هو الذي أوجب امتناعَه من الشهادتين».

«وفي الحديث جواز زيارة القريب المشرك وعيادته، وأنَّ التوبة مقبولة ولو في شدَّة مرض الموت حتى يصل إلى المعاينة فلا يقبل لقوله تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥]. وأنَّ الكافر إذا شهد شهادةَ الحقِّ نجا من العذاب، لأنَّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله» [«فتح الباري» لابن حجر (٧/ ١٩٦)].

(٩) ذكر المصنِّف في مطلع المسألة السادسة أنَّ أوَّل واجبٍ على المكلَّف هو الشهادتان، واستشهد بحديث وفاة أبي طالبٍ وليس فيه سوى شهادةٍ واحدةٍ عرضها عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم المتجلِّية في كلمة الإخلاص، ولعلَّ جوابه أنه لم يقل فيها: «محمَّد رسول الله» لأنَّ الكلمتين صارتا كالكلمة الواحدة، ويحتمل -أيًضًا- أن يكون أبو طالبٍ متحقِّقًا أنه رسول الله، غير أنه لم يُقِرَّ بالتوحيد، فاقتصر على أمره له بقول: «لا إله إلاَّ الله»، فإذا أقرَّ بالتوحيد لم يتوقَّف على الشهادة بالرسالة. [انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٧/ ١٩٦)].

(١٠) في الحديث منعُ قتل من قال: «لا إله إلاَّ الله» ولو لم يزد عليها، وعلى الصحيح من المذاهب أنه لا يصير مسلمًا بمجرَّد قوله ذلك، بل يجب الكفُّ عن قتله حتى يُختبر، فإن شهد بالرسالة والتزم بأحكام الإسلام حُكِم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارةُ بالاستثناء لقوله: «إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ». قال ابن حجر في «الفتح» (١٢/ ٢٧٩): «قال البغوي: الكافر إذا كان وثنيًّا أو ثنويًّا لا يُقِرُّ بالوحدانية فإذا قال: «لا إله إلاَّ الله» حُكم بإسلامه ثمَّ يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كلِّ دينٍ خالف دينَ الإسلام.

وأمَّا من كان مُقِرًّا بالوحدانية منكرًا للنبوة فإنه لا يُحكم بإسلامه حتى يقول: «محمَّدٌ رسول الله».

فإن كان يعتقد أنَّ الرسالة المحمَّدية إلى العرب خاصَّةً فلا بدَّ أن يقول: «إلى جميع الخلق».

فإن كان كفر بجحود واجبٍ أو استباحةِ محرَّمٍ فيحتاج أن يرجع عما اعتقده».

(١١) وفي قوله: «وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» معناه فيما يستسرُّون به دون ما يُخِلُّون به من الأحكام الواجبة عليهم في الظاهر، فإنْ أخلُّوا بشيءٍ ممَّا يَلزمهم في الظاهر فإنهم يطالَبون بموجَبه. قال الخطابيُّ في «معالم السنن» (٢/ ٢٠٦): «وفيه دليلٌ أنَّ الكافر المستسرَّ بكفره لا يُتعرَّض له إذا كان ظاهرُه الإسلامَ، وتُقْبَل توبتُه إذا أظهر الإنابةَ مِن كفرٍ عُلم بإقراره أنه كان يستسرُّ به وهو قول أكثر أهل العلم، وذهب مالك بن أنسٍ إلى أنَّ توبة الزنديق لا تُقْبَل، ويحكى ذلك أيضًا عن أحمد بن حنبلٍ».

قال ابن حجرٍ في «الفتح» (١٢/ ٢٨٠): «ومحلُّ الخلاف إنما هو فيمن اطَّلع على معتقده الفاسد فأظهر الرجوعَ هل يُقبل منه أو لا ؟ وأمَّا من جُهل أَمْرُه فلا خلاف في إجراء الأحكام الظاهرة عليه».

هذا، وإذا كانت الأحكام تجري على الظاهر والله يتولَّى السرائر، فإنَّ مَن أظهر شعارَ الدين أُجري عليه حكمُه وإن لم يكشف عن باطن أمره، ولو وُجد مختونٌ فيما بين قتلى غُلْفٍ عُزل عنهم في المدفن، ولو وُجد لقيطٌ في بلد المسلمين حُكم بإسلامه، وفي الحديث أحكامٌ وفوائد أخرى. [انظر: «شرح السنَّة» للبغوي (١/ ٧٠)، «شرح مسلم» للنووي (١/ ٢١٢)، «فتح الباري» لابن حجر (١٢/ ٢٧٩)].

(١٢) حديثٌ متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري في «الزكاة» (٣/ ٢٦٢) باب وجوب الزكاة، وفي «استتابة المرتدِّين» (١٢/ ٢٧٥) باب قتل مَن أبى قبول الفرائض، وفي «الاعتصام» (١٣/ ٢٥٠) باب الاقتداء بسنن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ومسلمٌ في «الإيمان» (١/ ٢٠٠) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ لمسلمٍ.

(١٣) قال ابن حجر في «الفتح» (١/ ٧٧): فإن قيل: مقتضى الحديث قتالُ كلِّ من امتنع من التوحيد، فكيف تركُ قتال مؤدِّي الجزية والمعاهد ؟ فالجواب من أوجهٍ:

- أحدها: دعوى النسخ بأن يكون الإذنُ بأخذ الجزية والمعاهدة متأخِّرًا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخِّرٌ عن قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥].

- ثانيها: أن يكون من العامِّ الذي خُصَّ منه البعض، لأنَّ المقصود من الأمر حصولُ المطلوب، فإذا تخلَّف البعض لدليلٍ لم يقدح في العموم.

- ثالثها: أن يكون من العامِّ الذي أريد به الخاصُّ، فيكون المراد بالناس في قوله: «أُقَاتِلَ النَّاسَ» أي: المشركين من غير أهل الكتاب، ويدلُّ عليه رواية النسائي بلفظ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ المُشْرِكِينَ». [أخرجه النسائي في «تحريم الدماء» (٧/ ٧٥) من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه].

(١٤) إنَّ فهم الخطاب يستدعي القدرةَ على الفهم، ولا يتأتَّى إلاَّ بسلامة العقل وكمالِه وارتفاعِ العوارض المانعة من إدراكه، وقصدُ الامتثال والطاعةِ يستدعي القدرةَ على القصد، ولا يتأتَّى إلاَّ بالفهم والعلم، وعليه فلا تُعتبر الشهادة إلاَّ لمن تكلَّم بها عارفًا لمعناها عاملاً بمقتضاها ظاهرًا وباطنًا، وقوله: «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ..»، والتلفُّظ بالشهادتين لكونهما صارت عَلَمًا على ذلك، وقد تقدَّم معنى: «لا إله إلاَّ الله، محمَّدٌ رسول الله». قال ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (١٠/ ٢٦٣): «إنَّ جميع الدين داخلٌ في «الشهادتين»، إذ مضمونهما ألاَّ نعبد إلاَّ الله، وأن نطيع رسوله، و«الدين» كلُّه داخلٌ في هذا: في عبادة الله بطاعة الله وطاعة رسوله، وكلُّ ما يجب أو يُستحبُّ داخلٌ في طاعة الله ورسوله».

(١٥) أخرجه مسلم في «الإيمان» (١/ ٢١٠) باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: «لا إله إلاَّ الله، محمَّدٌ رسول الله»، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومقصود المصنِّف أنه لا يكفي النطقُ بكلمتَيِ الشهادة، بل لا بدَّ من أن يكون عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها ظاهرًا وباطنًا، فلا يكفي المقرَّ بالتوحيد أن يقول: «لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله»، ويقيمَ الصلاة ويؤتيَ الزكاة، بل لا بدَّ مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وطاعتِه فيما أمر، وتصديقِه فيما أخبر، واجتنابِ ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد اللهُ إلاَّ بما شرع، وأن يعظَّم أمرُه ونهيه فلا يقدَّم عليه قولُ أحدٍ كائنًا من كان كما جاء في هذه الرواية: «وَيُؤْمِنُوا بِي، وَبِمَا جِئْتُ بِهِ».

(١٦) حاصل القصَّة التي استدلَّ بها المصنِّف: أنَّ خالد بن الوليد غزا بأمر النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قومًا فقالوا: «صبأْنا» وأرادوا: «أسلمْنا»، فلم يقبل خالدٌ ذلك منهم، وقتلهم بناءً على ظاهر اللفظ، فبلغ النبيَّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم ذلك فأنكره، فدلَّ على أنه يُكتفى من كلِّ قومٍ بما يُعرف من لغتهم، ولهذا بوَّب لها البخاريُّ (٦/ ٢٧٤) بابُ: إذا قالوا: صبأْنا ولم يُحسنوا: أسلمْنا، .. وقال عمر: إذا قال: مَتَّرس فقد آمنه، إنَّ الله يعلم الألسنةَ كلَّها»، قال ابن المنيِّر: مقصودُ الترجمة أنَّ المقاصد تُعتبر بأدلَّتها كيفما كانت الأدلَّة لفظيةً أو غيرَ لفظيةٍ بأيِّ لغةٍ كانت» [«فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٢٧٤)].

(١٧) نسبةً إلى جَذِيمة بن عامر بن عبد مَناة بن كِنانة [«جمهرة أنساب العرب» لابن حزم (١٨٧)].

(١٨) هو الصحابيُّ أبو عبد الرحمن عبدُ الله بن عمر بن الخطَّاب العدويُّ المدنيُّ الفقيه، أحد الأعلام في العلم والعمل، وُلد بعد المبعث بيسيرٍ، واستُصغر يوم أُحُدٍ، وأوَّل مشاهده الخندق، وهو من أهل بيعة الرضوان، ومن المكثرين من رواية الحديث، وأحدُ العبادلة، وكان من أشدِّ الناس اتِّباعًا للأثر، وله فضائل ومناقب جمَّةٌ، منها ثناؤه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عليه، ووصفُه بالصلاح، توفِّي سنة (٧٣ﻫ).

انظر ترجمته في: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٢/ ٣٧٣-٤/ ١٤٢)، «التاريخ الكبير» للبخاري (٥/ ٢، ١٢٥)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٣/ ٩٥٠)، «جامع الأصول» لابن الأثير (٩/ ٦٤)، «أسد الغابة» لابن الأثير (٣/ ٢٢٧)، «البداية والنهاية» لابن كثير (٩/ ٤)، «وفيات الأعيان» لابن خلِّكان (٣/ ٢٨)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (٣/ ٢٠٣)، «مرآة الجنان» لليافعي (١/ ١٥٤)، «الإصابة» لابن حجر (٢/ ٣٤٧)، «طبقات الحفَّاظ» للسيوطي (١٨)، «الرياض المستطابة» للعامري (١٩٤).

(١٩) هو الصحابيُّ أبو سليمان خالدُ بن الوليد بن المغيرة القرشيُّ المخزوميُّ المكيُّ رضي الله عنه سيفُ الله تعالى، وفارس الإسلام، وليث المشاهد، وهو ابن أخت أمِّ المؤمنين ميمونةَ بنتِ الحارث. مناقب خالدٍ رضي الله عنه غزيرةٌ، وفتوحاته وشجاعته معلومةٌ بالاستفاضة، توفِّي بحمص سنة (٢١ﻫ).

انظر ترجمته في: «المعارف» لابن قتيبة (١٩، ٢٩)، «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٣/ ٣٥٦)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٢/ ٤٢٧)، «أسد الغابة» لابن الأثير (٢/ ٩٣)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١/ ٣٦٦)، «البداية والنهاية» لابن كثير (٧/ ١١٣)، «تهذيب التهذيب» (٣/ ١٢٤) و«الإصابة» (٢/ ٤١٣) كلاهما لابن حجر، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ٢٣٢)، «الرياض المستطابة» للعامري (٦٢).

(٢٠) جملة: «حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ» ساقطةٌ، و«يومٌ» بالتنوين أي: من الأيَّام، و«كان» تامَّةٌ.

(٢١) قال الخطَّابي: «الحكمة في تبرُّئه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن فعل خالدٍ مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهدًا: أنْ يعرف أنه لم يأذن له في ذلك خشيةَ أن يعتقد أحدٌ أنه كان بإذنه، ولينزجر غيرُ خالدٍ بعد ذلك عن مثل فِعله» [«فتح الباري» لابن حجر (١٣/ ١٨٢)]، وقال أيضًا: «أنكر عليه العَجَلَةَ وترك التثبُّت في أمرهم قبل أن يعلم المرادَ من قولهم: صبأْنا» [فتح الباري لابن حجر: ٨/ ٥٧]، وقال ابن تيمية في «منهاج السنَّة» (٤/ ٤٨٧): «لأنَّ الأمير إذا جرى منه خطأٌ أو ذنبٌ أُمر بالرجوع عن ذلك وأُقِرَّ على ولايته، ولم يكن خالدٌ معانِدًا للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بل كان مطيعًا له، ولكن لم يكن في الفقه في الدين بمنزلة غيره، فخفي عليه حكمُ هذه القضيَّة»، وقال ابن حجر في «الفتح» (١٣/ ١٨٢): «والذي يظهر أنَّ التبرؤ من الفعل لا يستلزم إثمَ فاعله ولا إلزامَه الغرامةَ، فإنَّ إثم المخطئ مرفوعٌ وإن كان فعلُه ليس بمحمودٍ».

(٢٢) أخرجه البخاري (٦/ ٢٧٤) كتاب «الجزية» باب إذا قالوا: صبأنا ولم يحسنوا: أسلمنا، (٨/ ٥٦) كتاب «المغازي» باب: بعث النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة (١١/ ١٤١) كتاب «الدعوات» باب: رفع الأيدي في الدعاء (١٣/ ١٨١)، في كتاب «الأحكام»، باب: إذا قضى الحاكم بجَورٍ أو خلاف أهل العلم فهو ردٌّ.

كما أخرجه أحمد في «مسنده» (٢/ ١٥٠)، والنسائي (٨/ ٢٣٦) في كتاب «آداب القضاة»، باب الردِّ على الحاكم إذا قضى بغير حقٍّ، كلُّهم من طريق الزهريِّ عن سالمٍ عن أبيه رضي الله عنهم.

(٢٣) هو أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاريُّ الجعفيُّ، أمير المؤمنين في الحديث، شهد له الأئمَّة بعلوِّ مَنْزلته وعظيم قدره، فأخبارُه مع شيوخه وأهل العلم وأخبارُ حفظه وإتقانه كثيرةٌ، له رحلتان، روى عن الإمام أحمد وغيره، وروى عنه مسلمٌ والترمذيُّ والنسائيُّ وسواهم، شهرته تقوم على كتابه «الجامع الصحيح»، وقد اتَّفقت الأمَّة على أنه أصحُّ كتب الدين بعد المصحف الكريم، وللبخاريِّ تصانيف أخرى منها: «التاريخ الكبير» و«التاريخ الأوسط» و«التاريخ الصغير» و«الأدب المفرد» و«الكنى»، توفِّي رحمه الله تعالى سنة (٢٥٦ﻫ).

انظر ترجمته في: «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٧/ ١٩١)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (٢/ ٤، ٣٣)، «اللباب» لابن الأثير (١/ ١٥٢)، «وفيات الأعيان» لابن خلِّكان (٤/ ١٨٨)، «دول الإسلام» (١/ ١٥٥) و«سير أعلام النبلاء» (١٢/ ٣٩١) كلاهما للذهبي، «مرآة الجنان» لليافعي (٢/ ١٦٧)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١١/ ٢٤، ٢٦)، «التهذيب» لابن حجر (٩/ ٤٧)، «طبقات المفسِّرين» للداودي (٢/ ١٠٤)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٢/ ١٣٤)، «الأعلام» للزركلي (٦/ ٢٥٨)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (٣/ ١٣٠)، «الفضل المبين» للقاسمي (١١٩)، «الفكر السامي» للحجوي (٢/ ٨٠)، «التراث العربي» لسزكين (١/ ١٧٣).

... يتبع ...

الجزائر في: ٠٤ رمضان ١٤٢٧ﻫ
المـوافق ﻟ: ٢٧ سبتمبر ٢٠٠٦م

العقائد الإسلامية
مِنَ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

للشيخ عبد الحميد بنِ باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)

بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ

«التصفيف الرابع: بيان قواعد الإسلام الخمس (٤)»

تاسِعًا: وَلاَ يَكْفِي النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَفَهْمُ مَعْنَاهُمَا إِلاَّ مَعَ التَّصْدِيقِ التَّامِّ وَالاِعْتِقَادِ الجَازِمِ بِهِ(١)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ﴾(٢)، وَلِقَوْلِه تَعَالَى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾(٣).

عَاشِرًا: مَنْ حَصَلَ لَهُ اليَقِينُ بِإِخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَفَاهُ ذَلِكَ اليَقِينُ لِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ(٤) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ أَنَسٌ(٥) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟» فَقُلْنَا(٦): «هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ المُتَّكِئُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: «ابْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟»(٧) فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَجَبْتُكَ»، فَقَالَ: «إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ، فَلاَ تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ»، فَقَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ»، فَقَالَ: «أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟» فَقَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، قَالَ: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ تَعَالَى(٨)، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟» قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، قَالَ: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟» قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، قَالَ: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟» فَقَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ»، فَقَالَ الرَّجُلُ: «آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ(٩)»»(١٠). رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا(١١).

الحَادِي عَشَرَ: يَجِبُ عَلَى المُؤْمِنِ مَعَ تَصْدِيقِهِ وَجَزْمِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي آيَاتِ اللهِ وَيَسْتَعْمِلَ عَقْلَهُ لِلْفَهْمِ(١٢) كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الوَاجِبَاتِ فِي الإِسْلاَمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(١٣)، ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾(١٤)، ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾(١٥)، ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾(١٦)(١٧).



(١) فأصل الشهادة أنه يواطئ اللسان القلبَ، هذا بالنطق وذلك بالاعتقاد الجازم، فلا بدَّ من التلازم بين الظاهر والباطن، فالظاهر دليلٌ على إيمان القلب ثبوتًا وانتفاءً، وهو عنوان الباطن، وقد أفصح عن هذا المعنى شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في مَعْرِض بيان أنَّ الصراط المستقيم هو أمورٌ باطنةٌ في القلب: من اعتقاداتٍ وإراداتٍ وغيرها، وأمورٌ ظاهرةٌ: من أقوالٍ أو أفعالٍ: عباداتٍ كانت أو عاداتٍ، حيث قال -رحمه الله- في «الاقتضاء» (١/ ٩٢): «وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباطٌ ومناسبةٌ، فإنَّ ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرةً، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالاً».

وقد ساير هذا المعنى أبو إسحاق الشاطبيُّ عند بيانه أنَّ المسبَّبات في العادة تجري على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج، حيث قال -رحمه الله- في «الموافقات» (١/ ٢٣٣): «فمن التفت إلى المسبَّبات من حيث كانت علامةً على الأسباب في الصحَّة أو الفساد لا من جهةٍ أخرى؛ فقد حصل على قانونٍ عظيمٍ يضبط به جريانَ الأسباب على وزان ما شُرع أو على خلاف ذلك، ومن هنا جُعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرمًا حُكم على الباطن بذلك، أو مستقيمًا حُكم على الباطن بذلك أيضًا، وهو أصلٌ عامٌّ في الفقه وسائر الأحكام العاديَّات والتجريبيَّات، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافعٌ في جملة الشريعة جدًّا».

هذا وقد استدلَّ المصنِّف على ذلك بما أكذب اللهُ تعالى المنافقين وفضحهم بقوله: ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١]، لأنه لم تواطئ قلوبهم ألسنتَهم على تصديق رسول الله، واعتقادهم أنه غير رسولٍ، فهم كاذبون عند الله وعند من عرف حالهم، أو كاذبون عند أنفسهم، ذلك لأنَّ «الشهادة أخصُّ من الخبر، ولأنهم ضمَّنوا شهادتَهم التأكيدَ المشعر بالقسم والموحيَ بمطابقة القول لِما في القلب ولا سيَّما في هذا المقام وهو مقام الإيمان والتصديق، فأكذبهم الله في كون إخبارهم بصورة الشهادة، والحالُ أنهم لم يأتوا بالشهادة على وجهها: وهو عدمُ مطابَقتها لاعتقادهم» [تتمَّة «الأضواء» لعطيَّة محمَّد سالم (٤/ ٣٢١)].

قلت: وحال المنافق الذي يُظهر الإسلامَ ويُبطن الكفرَ أنه تجري عليه أحكامُ الإسلام باعتبار ظاهره الذي أقرَّ به في أحكام الدنيا، أمَّا الحكم الأخرويُّ فهو معدودٌ من الكافرين. [انظر: «الأمَّ» للشافعي (١/ ٢٩٥، ٢٦٠، ٦/ ١٥٧، ١٦٥)، و«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٧/ ٦٢٠، ٦٢١)].

(٢) جزءٌ من الآية ١٩ من سورة محمَّد.

هذا، والعلم المطلوب يلزم معه إقرارُ القلب ومعرفتُه والعملُ بمقتضاه، والمراد بالعلم في الآية هو علمُ التوحيد، معرفته لازمةٌ عينًا على كلِّ فردٍ لا يسقط عن أحدٍ كائنًا من كان، بل الكلُّ مضطرٌّ إليه، ومسالك العلم بأنه: «لا إله إلاَّ الله» وطُرُقُه الموصِلة إليه تعرَّض إليها المصنِّف -كما سيأتي-، والعلم مطلوبٌ قبل القول والعمل، وقد بوَّب له البخاريُّ بذلك مستدلاًّ بالآية، قال ابن المنير: «أراد به أنَّ العلم شرطٌ في صحَّة القول والعمل، فلا يُعتبران إلاَّ به، فهو متقدِّمٌ عليهما، لأنه مصحِّحٌ للنيَّة المصحِّحة للعمل، فنبَّه المصنِّف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: «إنَّ العلم لا ينفع إلاَّ بالعمل» تهوينُ أمر العلم والتساهلُ في طلبه». [«فتح الباري» لابن حجر (١/ ١٦٠)].

(٣) الآية ١ من سورة المنافقون.

والآية تضمَّنت أَمْرَ المنافق من اختلافٍ بين ظاهره وباطنه، إذ ما يستقرُّ في القلب لا بدَّ من ظهور موجَبه في القول والعمل كما قال بعض السلف: «ما أسرَّ أحدٌ سريرةً إلاَّ أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه»، وقد قال تعالى -في المنافقين-: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمَّد: ٣٠]، قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (٧/ ٦٢٠): «وأساس النفاق الذي بُني عليه أنَّ المنافق لا بدَّ أن تختلف سريرتُه وعلانيته وظاهره وباطنه، ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: ١٠]، وقال: ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: ١]، وأمثال هذا كثيرٌ، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥]، وقال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٧]».

(٤) هو ضمام بن ثعلبة مِن بني سعد بن بكرٍ، قدم وافدًا على قومه سنة تسعٍ من الهجرة، وسأل النبيَّ صلَّى الله وعليه وآله وسلَّم عن شرائع الإسلام فأسلم ثمَّ رجع إلى قومه وأظهر إسلامَه، فما أمسى ذلك اليومَ في حاضره رجلٌ مشركٌ ولا امرأةٌ مشركةٌ، فما سُمع بوافدٍ قدم أفضلَ من ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه.

انظر ترجمته في: «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٢/ ٧٥١)، «أسد الغابة» (٣/ ٤٢) و«الكامل في التاريخ» (٢/ ٢٩٠) كلاهما لابن الأثير، «البداية والنهاية» لابن كثير (٥/ ٦٠)، «الإصابة» لابن حجر (٢/ ٢١٠).

(٥) هو الصحابيُّ أبو حمزة أنس بن مالك بن النضر الأنصاريُّ الخزرجيُّ النجَّاريُّ المدنيُّ ثمَّ البصريُّ، خادم رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وأحد المكثرين من الرواية عنه، كان عالِمًا مقرئًا محدِّثًا، له فضائل، وكان آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم سنة ٩٣ﻫ.

انظر ترجمته في: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٧/ ١٧)، «المعارف» لابن قتيبة (٣٠٨)، «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (٢/ ٢٨٦)، «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (١/ ١٠٩)، «البداية والنهاية» لابن كثير (٩/ ٨٨)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (٣/ ٣٩٥)، «الإصابة» لابن حجر (١/ ٧١)، «الرياض المستطابة» للعامري (٣٣).

(٦) عند البخاري (١/ ١٤٨): «وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ».

(٧) فيه نسبة الشخص إلى جدِّه إذا كان أشهرَ من أبيه، ومنه قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يوم حنينٍ:

أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ * أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ

[«فتح الباري» لابن حجر (١/ ١٥٣)].

(٨) في قوله: «أنشدك بالله» دليلٌ على جواز القراءة والعَرْض على المحدِّث، ثمَّ الرواية عنه كما سمع منه، وهو قول جماعةٍ من أئمَّة الحديث وأهل العلم. [«شرح السنَّة» للبغوي (١/ ١٤)].

ولفظ «تعالى» في المواضع الثلاثة من نصِّ المصنِّف مزيدةٌ لا توجد في الروايات المخرَّجة.

(٩) هم بنو سعد بن بكر بن هوازن ومنهم: حليمة السعدية ظئرُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم التي أرضعته وأولادَها: عبد الله، وأنيسة، والشَّيماء إخوة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الرضاعة، وقد جاءت الشَّيماء يوم حنينٍ فطرح لها ناحيةَ ردائه، وأعتق لها سبيَ قومها أجمعين. [انظر: «الاشتقاق» لابن دريد (٢٩١)، «جمهرة أنساب العرب» لابن حزم (٢٦٥)، «نهاية الأرب» للقلقشدي (٢٦٨)].

(١٠) وفي الحديث جملةٌ من الفوائد والأحكام ذكرها النوويُّ وابن حجرٍ، أمَّا ما يتَّصل بهذا الموضوع فقال النوويُّ في «شرح مسلم» (١/ ١٧١): «وفيه -أي: هذا الحديث- دلالةٌ لصحَّة ما ذهب إليه أئمَّة العلماء من أنَّ العوامَّ المقلِّدين مؤمنون وأنه يكتفى منهم بمجرَّد اعتقاد الحقِّ جزمًا من غير شكٍّ وتزلزلٍ، خلافًا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وذلك أنه صلَّى الله عليه وسلَّم قرَّر ضمامًا على ما اعتمد عليه في تعرُّف رسالته وصدقه ومجرَّد إخباره إيَّاه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك ولا قال: يجب عليك معرفة ذلك بالنظر في معجزاتي والاستدلال بالأدلَّة القطعية». قلت: وقد مضى بيانه مفصَّلاً في القاعدة السادسة.

(١١) أخرجه البخاري في «العلم» (١/ ١٤٨) باب ما جاء في العلم وقوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، ومسلم في «الإيمان» (١/ ١٦٩) باب السؤال عن أركان الإسلام، وأبو داود في «الصلاة» (١/ ٣٢٦) باب ما جاء في المشرك يدخل المسجد، والبغوي في «شرح السنَّة» (١/ ١٢) من كتاب «الإيمان» من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.

(١٢) والمصنِّف أراد بوجوب النظر -بعد تحصيل الإيمان والتصديق والاعتقاد الجازم- ذلك النظرَ المفيد للعلم المبنيَّ على دليلٍ ينفع ويحصل به الهدى وهو قائمٌ على التفكُّر والاعتقاد والاستحضار، وهي ضروبُ ذكرِ القلب:

- فالقرآن الكريم يأمر بالتدبُّر في عظمة الله وجلاله، وفي جبروته وملكوته، وفي خلقه وتدبيره، والتفكير في آياته في أرضه وسماواته وجميع مخلوقاته، ويُرشد إلى التأمُّل في أنواع آلائه وعظيم نعمائه على خلقه عامَّةً وعلى الإنسان خاصَّةً بما سخَّر له منها وما يسَّر له من أسباب الانتفاع بها والاعتبار لِما يعطيه من الثواب لأوليائه المؤمنين من النصر والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به التي تدلُّ على التوحيد أعظمَ دلالةٍ، والتي تبيِّن وحدانيتَه في الربوبية وانفرادَه بالألوهية أتمَّ بيانٍ، وهذا الضرب هو أعظمُ الأذكار وأجلُّها وأولاها وأحسنها، لأنَّ العقيدة لا تثبت إلاَّ بهذا التفكير، وبه يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد، ويحصل للناظر طمأنينة اليقين بحيث يكون كالجبال الراسيات لا تزلزله الشبه والخيالات، بل لا يزداد -على تكرُّر الباطل والشبه- إلاَّ نموًّا وكمالاً، قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨].

- أمَّا الاعتقاد فهو متفرِّعٌ عن التفكير والاعتبار: وهو الاعتقاد الجازم بالإيمان بالله وملائكته وكُتُبه ورسله واليوم الآخر والقدر كلِّه بالفهم والإدراك الصحيح، فهو اعتقادٌ يرسخ في النفوس وينطبع في العقول.

- وأمَّا استحضار عظمة الله وقدرته وفضله ووعده ووعيده وما ينبغي فعلُه استحقاقًا له فيما أُذن فيه بقلبٍ خالصٍ لوجهه الكريم فهو أساس التقوى وسرُّ الخشية، ولا يستمرُّ دوامُه إلاَّ إذا كان قائمًا على عقيدةٍ راسخةٍ متولِّدةٍ عن اطمئنان القلب ويقينه، لذلك كان الاستحضار متوقِّفًا على الاعتقاد الجازم وعلى التأمُّل والتفكير الذي هو طريق العلم الذي يوجب بَذْلَ الجهد في التألُّه له والتعبُّد للربِّ الكامل الذي له كلُّ حمدٍ ومجدٍ وجلالٍ وجمالٍ. فالعلم لا بدَّ فيه من إقرار القلب ومعرفته، وتحصيل مقتضاه قولاً وعملاً.

(١٣) جزءٌ من الآية ١٠١ من سورة «يونس».

ومعنى الآية: أنَّ الله يرشد عبادَه بالتفكُّر في آلائه، والاعتبار فيما خلق في السماوات والأرض والتأمُّل لِما فيها من الآيات الباهرة لذوي الألباب، الدالَّة على عظيم خالقها وكماله، وأنه المستحقُّ للعبودية وحده لا شريك له، وقد أشار لمثل ذلك في قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصِّلت: ٥٣]، وقد توعَّد سبحانه وتعالى من لم يمتثل لهذا الأمر بأنه قد يفاجئه الموت ويقترب أجلُه قبل النظر فيما أمر اللهُ أن ينظر فيه وهو في غفلةٍ معرضٌ فلا يتمكَّن من استدراك الفارط، ففيه تنبيهٌ على وجوب المبادرة إلى الامتثال لأمر الله، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ [الأعراف: ١٨٥].

والظاهر أنَّ هذه وغيرها التي استدلَّ بها المصنِّف على وجوب النظر والاستدلال إنما يُحتجُّ بها على الوجوب لمن طرأ على فطرته ما يُفسدها أو يعكِّر صفوَها، أمَّا غيره فالمعرفة حاصلةٌ له بأصل الفطرة، لكن يُستحبُّ له النظر ويُرغَّب فيه تثبيتًا للأصل وتفاديًا لأيِّ طارئٍ مفسدٍ على الفطرة أو معكِّرٍ لها.

(١٤) الآية ٥ من سورة «الطارق».

(١٥) الآية ٢٤ من سورة «عبس».

(١٦) الآيات ١٧، ١٨، ١٩، ٢٠ من سورة «الغاشية».

(١٧) اقتصر المصنِّف في استدلاله بالآيات على وجوب النظر بنوعِ طريقِ علمٍ واحدٍ الموصلِ إلى توحيد الله سبحانه، المتمثِّل فيما أقامه الله من الأدلَّة الأفقية والنفسية التي تدلُّ على التوحيد أعظمَ دلالةٍ، وتشهد بلسان حالها على لطف صنعته وبديعِ حكمته وغرائب خلقِه.

غير أنه توجد أنواعُ طرقِ علمٍ أخرى ترشد لتوحيده عزَّ وجلَّ، وأعظمها: تدبُّر أسمائه وصفاته وأفعاله الدالَّة على كماله وعظمته وجلاله فإنها توجب تعلُّق القلب به ومحبَّته والتألُّه له وحده لا شريك له -كما تقدَّم بيانُه-. [انظر «تفسير السعدي» (٨٦٤)].

 

... يتبع ...

الجزائر في: ١٢ ذو القعدة ١٤٢٧ﻫ
المـوافق ﻟ: ٠٣ ديسمبر ٢٠٠٦م

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)