العقائد الإسلامية
مِنَ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

للشيخ عبد الحميد بنِ باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)

بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ

«التصفيف الثامن عشر: عقيدة الإيمان بالله (٢)»

 السَّابِعُ وَالثَّلاَثُونَ: فَهُوَ الغَنِيُّ بِذَاتِهِ عَنِ جَمِيعِ المَوْجُودَاتِ، وَهِيَ المُفْتَقِرَةُ كُلُّهَا -ابِتِدَاءً وَدَوْمًا- إِلَيْهِ(١)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ﴾(٢)، ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾(٣)، ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ. فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾(٤)، ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾(٥)...(يتبع).



(١) فاللهُ سبحانه وحدَه الذي له الغِنى التامُّ المطلق من كُلِّ وجهٍ لا يعتريه نَقْصٌ ولا يلحقه عيبٌ لكماله سبحانه وكمالِ صفاته، وغناه مِن لوازم ذاته، إذ إنَّ غناه ثابتٌ له لذاته لا لأمرٍ أوجب غناه.

والخلقُ فقيرٌ محتاجٌ إلى ربِّه بالذات لا لعلَّةٍ أوجبت تلك الحاجة، وكُلُّ ما يُذْكَر من عِلَّة الحاجة سواءٌ كانت «الإمكان» كما هو عند الفلاسفة أو «الحدوث» كما هو عند المتكلِّمين فإنَّ الإمكان والحدوث والاحتياج إنما هي أدلَّةٌ على الحاجة والافتقار لا عللٌ لها ولا أسبابٌ. قال ابن القيِّم -رحمه الله- في «طريق الهجرتين» (١٠): «وفقرُ العالَم إلى الله سبحانه أمرٌ ذاتيٌّ لا يُعَلَّل فهو فقيرٌ بذاته إلى ربِّه الغنيِّ بذاته، ثمَّ يُستدَلُّ بإمكانه وحدوثه وغيرِ ذلك من الأدلَّة على هذا الفقر».

ومِن كمال غناه ومُلْكِه وعدم نفاده أنَّ الله تعالى لم يتَّخذ صاحبةً ولا ولدًا ولا شريكًا في الملك ولا وليًّا من الذُّلِّ، وخزائنُه سبحانه لا تَنْفَدُ ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأَوَّلين والآخرين من الجِنِّ والإنس ما سألوه مجتمعين كلَّهم في مكان واحدٍ، وتمنَّى كلُّ واحدٍ منهم أقصى ما يتمنَّاه، وسأل غايةَ ما يريده، واستجاب الله للجميع فأعطى كلاًّ منهم ما أراد وسأل وما بلغت أمانيُّه ما نقص ذلك مِن مُلك الله شيئًا مهما كان قليلاً، فعن أبي ذرٍّ الغفاريِّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيما يرويه عن ربِّه عزَّ وجلَّ أنه قال: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ.. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوني فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ» [أخرجه مسلم في «البرِّ والصلة والآداب» (١٦/ ١٣١-١٣٣) باب تحريم الظلم، وأحمد في «مسنده» (٥/ ١٦٠) من حديث أبي ذرٍّ الغفاريِّ رضي الله عنه]. وهدا التعبير في الجملة الأخيرة يراد به «تقريبُ الأفهام بما شاهدوه، فإنَّ البحر مِن أعظم المرئيَّات عيانًا وأكبرِها، والإبرة مِن أصغر الموجودات، فوق أنها صقيلةٌ لا يتعلَّق بها ماءٌ»، إذا انغمست في البحر. [«شرح مسلم» للنووي (١٦/ ١٣٣)]، فكانت الحقيقة أنه لا يَنْقُص مِن مُلك الله تعالى أيَّ شيءٍ، ويدلُّ عليه قولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يَمِينُ اللهِ مَلأَى لاَ يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ» [أخرجه البخاري في «التوحيد» (١٣/ ٤٠٣)، باب: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ﴾، ومسلم في «الزكاة» (٧/ ٨٠)، باب الحثِّ على النفقة وتبشير المنفق بالخَلَف من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

ومِن كمال غناه أنَّ مُلْكَه سبحانه على غاية الكمال لا يزيد بطاعة جميع المخلوقين ولو كانوا على أكمل صفات البرِّ والتقوى ولا ينقص بمعصيتهم ولو كان جميعُ الخلق عصاةً قلوبُهم على أفجر رجلٍ منهم؛ لأنَّ الله تعالى الغنيُّ المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله «قَالَ تَعَالَى: يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» [تقدَّم تخريجه قريبًا من حديث أبي ذرٍّ الغفاريِّ رضي الله عنه].

ومِن كمال غناه وفضلِه وَجُودِه أنَّ الناس كلَّهم عيالٌ عند الله، وهو وحده الغنيُّ، وهم مفتقرون إليه في جلب مصالحهم ودفعِ مضارِّهم في أمور دينهم ودنياهم، فهو الذي يأمرهم بدعائه ويَعِدُهم بإجابة دعائهم، ويجزيهم مِن فضله، ويُسعفهم مِن رحمته، ويؤتيهم ما سألوه وطمعوا فيه وما لم يسألوا عنه، فجُوده سبحانه على خَلْقه غيرُ منقطعٍ ونِعَمُه متواصلةٌ بالليل والنهار، وخيرُه على الخلق مدرارٌ ومتواصلٌ وهو مغني أهل الجنَّة من النعيم واللَّذَّات المتواصلات والخيرات المتتابعات، وهو المغني لجميع خَلْقه غنًى عامًّا، والمغني لخواصِّ خلقه بما أفاض على قلوبهم مِن المعارف الربَّانية والحقائق الإيمانية.

هذا، والله سبحانه إذ يأمر عباده وينهاهم لا لينتفع بطاعتهم ولا ليدفع الضرَّ بمعصيتهم، بل النفع في ذلك كلِّه لهم، فهو الغنيُّ لذاته الغنى المطلقُ، وخلقُه مفتقرٌ إليه الفقرَ الذاتيَّ، لذلك وجب أن تتَّجه القلوبُ والعقول والأبصار والأسماع بالخضوع والعبودية الحقَّة، فمنه يُستمدُّ العونُ وبه التوفيق تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥].

(٢) الآيات: ١٥، ١٦، ١٧ من سورة فاطر.

قال ابن القيِّم -رحمه الله- في «طريق الهجرتين» (١٠): «والمقصود أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرةٌ إليه سبحانه كما أخبر عن ذاته المقدَّسة، وحقيقته أنه غنيٌّ حميدٌ.

فالفقر المطلق من كلِّ وجهٍ ثابتٌ لذواتهم وحقائقِهم من حيث هي، والغنى المطلقُ من كلِّ وجهٍ ثابتٌ لذاته تعالى وحقيقتِه من حيث هي، فيستحيل أن يكون العبد إلاَّ فقيرًا، ويستحيل أن يكون الربُّ سبحانه إلاَّ غنيًّا، كما أنه يستحيل أن يكون العبد إلاَّ عبدًا ويستحيل أن يكون الربُّ إلاَّ ربًّا».

(٣) جزءٌ من الآية ١٧ من سورة المائدة.

(٤) الآية ٣١، ٣٢ من سورة يونس.

(٥) جزءٌ من الآية ١٤ من سورة الأنعام.

وقد جاءت آياتٌ أخرى في غير مواضع استشهاد المصنِّف تُبرز هذا المعنى من غنى الله تعالى وفقرِ عباده له وحاجتِهم إليه، كقوله تعالى: ﴿وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ [محمَّد: ٣٨]، وقولِه تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٨]، وقوله تعالى: ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التغابن: ٦]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: ٥٦-٥٨].

وقد هدَّد الله تعالى المقلِّبين لهذه الحقيقة المعلومةِ من الدِّين بالضرورة الذين أعظموا الفريةَ على الله بقولهم: إنَّ الله فقيرٌ ونحن أغنياءُ، فقال تعالى: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [آل عمران: ١٨١].

 

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)