الكلمة الشهرية رقم: ١٩

الإخلاص بركة العلم وسر التوفيق

فضيلة العلم الشرعيِّ والحضُّ على طَلَبِه:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فإنَّ اكتسابَ مادَّةِ كُلِّ عِلْمٍ ينبغي أَنْ تكون وَفْقَ أُسُسٍ يبني عليها طالبُ العلمِ مسيرتَه التحصيليةَ، والعلمُ الشرعيُّ لا يخرج عن هذا المعنى؛ لأنَّ الأصل في الإنسانِ الجهلُ؛ لقوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡ‍ٔٗا[النحل: ٧٨]، لكنَّه مأمورٌ بطلبه في قوله تعالى: ﴿فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ[محمَّد: ١٩]، وقولِه عزَّ وجلَّ: ﴿ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٩٨[المائدة]، وكُلُّ ما أَمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ به فهو عبادةٌ؛ فيكون طَلَبُ العِلْمِ في طليعة العبادات وأَجَلِّها، بل جَعَله اللهُ قسيمًا للجهاد في سبيل الله(١) وهو منه؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ ١٢٢[التوبة]؛ ذلك لأنَّ العلمَ الشرعيَّ سببُ الهداية، وقائدٌ إلى تقوَى الله، وسبيلُ النجاةِ والوقايةِ مِنَ النار؛ قال اللهُ تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا[التحريم: ٦]، ووقايةُ النَّفْسِ والأهل مِنَ النار إنما تكون بالإيمان والعمل الصالح، ولا يتمُّ ذلك إلَّا بالعلم الشرعيِّ الصحيح حتَّى يتمكَّن مِنْ أدائه والقيامِ به على الوجه المطلوب شرعًا؛ لذلك كان مَنْ حَظِيَ برزقِ اللهِ إيَّاه العلمَ الشرعيَّ فقَدْ فَتَح اللهُ عليه به وأراد اللهُ به خيرًا، ومَنْ مُنِعَ فقَدْ حُرِم الخيرَ(٢)؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»(٣).

ولَمَّا كان العلمُ الشرعيُّ عبادةً فإنه ينبغي طَلَبُه ضِمْنَ هيئةٍ راسخةٍ في نَفْسِ الطالب ليُؤْثِرَ بها الحقَّ والفضيلةَ، ويرغب في رفعِ الجهل عنه وإزالتِه عن غيره، وحُبِّ المعروف وترسيخه، تلك الهيئةُ المطلوبةُ هي النيَّةُ الخالصة الصادقةُ التي تتكيَّفُ بها جميعُ الأعمالِ صحَّةً وفسادًا تبعًا لها؛ إذ «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(٤)، والنيَّةُ في الطَّلَب يجب فيها الإخلاصُ لله سبحانه؛ فهو شرطُ العبادةِ ورُكْنُ التوحيد؛ قال تعالى: ﴿وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ[البيِّنة: ٥]، وقال تعالى: ﴿فَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ ٢[الزُّمَر].

قاعدة الإخلاص قوام المطالب العلمية:

هذا، وقاعدةُ الإخلاص في الطلب إنما تتأتَّى بنيَّةِ التقرُّب إلى الله تعالى بكُلِّ ما يَسْتلزِمُ محبَّتَه ورِضاه، مِنَ العِلْمِ به سبحانه وبصفاته، وما يجب له مِنَ القيام بأَمْرِه، وتنزيهِه مِنَ العيوب والنقائص، وبمعرفةِ ما يجب على المكلَّف مِنْ أمرِ دِينه في عباداته ومُعامَلاته، ومعرفةِ حلاله مِنْ حرامه، ساعيًا في ذلك بعزمٍ في رفعِ الجهل عن نَفْسه، وحِفْظِ شريعةِ الله تعالى بالتعلُّم وضَبْطِ حفظِه في الصدر وتقييده بالكتابة، والعملِ بما حَفِظه وضَبَطَه امتثالًا لأوامر الشرع ووقوفًا عند حدوده؛ لأنَّ ثمرة العلمِ العملُ، وبقاءَ العلم ببقاء العمل، بل هو مِنْ لوازم الإخلاص وسببُ نمائه وزيادتِه؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَثَلُ العَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ: يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ»(٥)؛ ذلك لأنَّ العمل هو شُكْرُ الله على نعمةِ العلم، وقد قال تعالى: ﴿لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡ[إبراهيم: ٧]، ومَنْ عَمِلَ بما عَلِمَ ورَّثه اللهُ عِلْمَ ما لم يعلم، ومَنْ لم يعمل بعلمه لَمْ يكن صادقًا في طَلَبِه وعُوقِبَ بنسيانِ العلمِ وضياعِ مَعارِفِه وحرمانه مِنَ الخير، واستحقَّ المقتَ والآفاتِ؛ قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ [المائدة: ١٣]، ويتبيَّن مِنَ الآية أنَّ تَرْكَ العملِ بالعلم يُورِّثُ فشلًا في الطلب ومَحْقًا للبركة ونسيانًا ذِهنيًّا وعمليًّا بترك النهوض به والقيامِ بلوازمه، قال الثوريُّ ـ رحمه الله ـ: «العِلْمُ يَهْتِفُ بِالعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ»(٦)؛ مِنْ أَجْلِ ذلك كان الصدقُ خُلُقًا مُقترِنًا بالإخلاص يتحلَّى به الطالبُ قبل العِلْم، ولا يتحقَّقُ الارتقاءُ في مَدارِجِ الكمالِ والعلمِ إلَّا لصادقٍ، قال الأوزاعيُّ ـ رحمه الله ـ: «تَعَلَّمِ الصِّدْقَ قَبْلَ أَنْ تَتَعَلَّمَ العِلْمَ»، وقال وكيعٌ ـ رحمه الله ـ: «هَذِهِ الصَّنْعَةُ لَا يَرْتَفِعُ فِيهَا إِلَّا صَادِقٌ»(٧).

هذا، وكما أنَّ مِنَ الإخلاص أَنْ ينويَ رَفْعَ الجهلِ عن نَفْسِه فعليه أَنْ يَسْتتبِعَه ـ أيضًا ـ بِنيَّةِ رفعِ الجهل عن غيره؛ وذلك بالدعوة إلى الله تعالى بتبليغِ العلم للناس وبيانِ ذِكْرِ الله وما نَزَل مِنَ الحقِّ، ونَشْرِه ليحصل به النفعُ والهدى؛ مِصْداقًا لقول الله تعالى: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي[يوسف: ١٠٨]، وقولِه تعالى: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ[آل عِمران: ١٨٧]، ويعمل على حمايةِ جناب التوحيد، وصيانةِ كمال الدِّين ممَّا قد يُقْحَم فيه ممَّا ليس منه، والدفاعِ عن شريعة الله التي جاء بها المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم وحِفْظِها مِنْ زيادة المُبْتَدِعين واستدراكات المُسْتدرِكين.

اختلاف النيات في تحصيل العلم:

فمَنْ صاحَبَتْه هذه النيَّةُ الخالصةُ الصادقةُ بالعمل الصالح كان على هُدًى وبصيرةٍ، وخيرٍ ونعمةٍ وَتُقًى؛ قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ زَادَهُمۡ هُدٗى وَءَاتَىٰهُمۡ تَقۡوَىٰهُمۡ ١٧[محمَّد]، وفَتَحَ اللهُ له أبوابَ الخير، وأَتَتْهُ الدنيا راغمةً، وحَصَلَ له ثوابُ الآخرة؛ لسلامةِ قصدِه وصلاحِ نيَّته؛ قال تعالى: ﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٩٧[النحل]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»(٨)، وقال إبراهيمُ النَّخَعِيُّ ـ رحمه الله ـ: «مَنِ ابْتَغَى شَيْئًا مِنَ العِلْمِ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ سُبْحَانَهُ آتَاهُ اللهُ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ»(٩).

أمَّا مَنْ أُصيبَتْ نيَّتُه في صميمِ صِدْقِ طَلَبِ العلم بِكَدَرٍ وَزَغَلٍ، وجَعَلَ تحصيلَه له مَطِيَّةً لأغراضٍ وأعراضٍ: مِنْ طَلَبِ الدنيا والمالِ والرئاسةِ والظهورِ والتفوُّقِ والسُّمْعَةِ والرِّياء والمَحْمَدةِ وغيرِها مِنَ المَقاصِدِ السيِّئة؛ فإنَّ إرادته تَشُوبُها شوائبُ الفساد والبطلان، وتزول مِنْ جرَّائها بركةُ العلم وترتفع خيريتُه؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ»(١٠) يعني: رِيحَها، وفي حديثٍ آخَرَ: «مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ العُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ»(١١)، وقد يَنالُ بعلمه ما يبتغيه بنيَّته الفاسدةِ مِنْ إحراز دُنياهُ، ولا يحصِّل منها إلَّا ما كُتِب له، لكنَّ جزاءَه الفقرُ والتشتيتُ والغفلةُ والضَّياعُ في الدنيا، وكان عاقبةُ أمرِه خُسْرًا؛ قال الله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيۡهِمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فِيهَا وَهُمۡ فِيهَا لَا يُبۡخَسُونَ ١٥[هود]، فمَنْ جرَّد قَصْدَه إلى الدنيا يُعْطِهِ اللهُ تعالى بعَمَلِه ثوابَ الدنيا إذا شاءَ سبحانه كما جاء تقييدُ الآية في قوله تعالى: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصۡلَىٰهَا مَذۡمُومٗا مَّدۡحُورٗا ١٨[الإسراء]، وليس له أَنْ يطلب بالعلم الشرعيِّ أمرًا غيرَ ما شُرِع له لأنه عبادةٌ، ومَنِ ابتغى بالعبادةِ غيرَ ما شُرِعَتْ له فقَدْ ناقَضَ الشريعةَ، وجزاءُ مَنْ ناقَضَهَا بطلانُ العمل، وقد يُعامَلُ بنقيضِ مقصوده؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ»(١٢)، قال الحسنُ بنُ أبي الحسنِ البصريُّ ـ رحمه الله ـ: «مَنْ طَلَبَ شَيْئًا مِنْ هَذَا العِلْمِ فَأَرَادَ بِهِ مَا عِنْدَ اللهِ يُدْرِكْ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا فَذَاكَ حَظُّهُ مِنْهُ»(١٣)؛ ذلك لأنه استعمل العبادةَ فيما لم تُشْرَع لأجله، واتَّخذها مَطِيَّةً لتحصيلِ غَرَضِه؛ فكان ظُلمًا في حقِّ الله على عباده، وتلاعبًا بالشريعة بوضعِ الأمور في غيرِ مَواضِعِها؛ فاستوجب أَنْ يكون أوَّلَ الناسِ يُقضى يومَ القيامة: ثلاثةٌ أجهدوا أَنْفُسَهم في الطاعات والعبادات، ولم تنفعهم طاعتُهم وعبادتُهم، وإنما صارَتْ عذابًا لأنهم لم يبتغوا بها وَجْهَ الله تعالى، فمِنْ هؤلاء: «... رَجَلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ القُرآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: «فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟» قَالَ: «تَعَلَّمْتُ العِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ»، قَالَ: «كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ»، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ»(١٤).

وصِنْفٌ آخَرُ تعيَّنَتْ دوافعُ طَلَبِه في غيرِ المَقاصِدِ الدنيوية، وإنما قَصَرَ نِيَّةَ الطلب على تحصيل العلم في ذاته والظفرِ بالحِكمة مجرَّدةً عن العمل، وهذا ـ أيضًا ـ يشوبُ صفاءَ الإخلاصِ بِكَدَرٍ؛ لأنه لم يُخْلِص لله تعالى مِنْ جهةٍ، وجَعَلَ طَلَبَ العلمِ وسيلةً لعبادةٍ لم تُقِرَّها الشريعةُ؛ إذ لا يخفى أنَّ العلم المطلوبَ الذي نحتاج إليه وأخبرنا اللهُ تعالى به وعلَّمَنا إيَّاه هو: ما كان وسيلةً إلى العمل به، والعمل بما يقتضيه العلمُ مِنَ الإيمان به والإقبالِ على الطاعات والقيامِ بها بامتثالِ أوامره واجتنابِ نواهيه وغيرِها مِنَ الأعمال؛ فإنَّ ذلك العلمَ مطلوبٌ لا في ذاته ولكِنْ لثمرته وهي العملُ به؛ فمَنْ عَلِمَ ولم يَعْمَلْ فقَدْ شابَهَ اليهودَ المغضوبَ عليهم، ومَنْ عَمِلَ بلا عِلْمٍ فقَدْ شابَهَ النصارى الضالِّين، ومَنْ جَمَعَ بين العلم النافع والعملِ الصالح واتَّصف بهما ﴿فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا ٦٩[النساء]. قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «ونظيرُ هذا ما يُذْكَر أنَّ بعض الناسِ بَلَغَه أنه: «مَنْ أَخْلَصَ للهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا تَفَجَّرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ»(١٥)؛ فأَخْلَصَ ـ في ظنِّه ـ أربعين صباحًا لِيَنَالَ الحكمةَ فلم يَنَلْهَا؛ فشَكَا ذلك إلى بعضِ حُكَماءِ الدِّين فقال: إنك لم تُخْلِصْ لله سبحانه وإنما أَخْلَصْتَ للحكمة، يعني: أنَّ الإخلاص لله سبحانه وتعالى إرادةُ وجهِه، فإذا حَصَلَ ذلك حَصَلَتِ الحكمةُ تَبَعًا، فإذا كانَتِ الحكمةُ هي المقصودَ ابتداءً لم يقع الإخلاصُ لله سبحانه، وإنما وَقَعَ ما يُظَنُّ أنه إخلاصٌ لله تعالى، وكذلك قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ»(١٦)، فلو تَواضَعَ ليرفعه اللهُ سبحانه لم يكن مُتواضِعًا؛ فإنه يكون مقصودُه الرفعةَ، وذلك يُنافي التواضعَ»(١٧).

هذا، ومِنْ أقوالِ بعض السلف في باب العمل بالعلم وحُسْنِ النيَّة فيه: قولُ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رضي الله عنه: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ تَعْلَمُوا، فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالعِلْمِ حَتَّى تَعْمَلُوا»(١٨)، وقولُ أبي الدرداء رضي الله عنه: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لَا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ»(١٩)، وقال أيضًا: «مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي أَنْ يُقَالَ لِي: مَا عَلِمْتَ، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يُقَالَ لِي: مَاذَا عَمِلْتَ؟»(٢٠).

ومع ذلك فإنَّ مُبْتَغِيَ العلمِ المُحِبَّ له الطامعَ في تحصيله قد يَرُدُّهُ العلمُ إلى النيَّة الصالحة فيفتحُ اللهُ تعالى عليه بابَ العملِ والخير والنفع؛ فقَدْ جاء عن مُجاهدِ بنِ جَبْرٍ ـ رحمه الله ـ قولُه: «طَلَبْنَا هَذَا العِلْمَ وَمَا لَنَا فِيهِ كَبِيرُ نِيَّةٍ، ثُمَّ رَزَقَ اللهُ بَعْدُ فِيهِ النِّيَّةَ»(٢١)، وقال مَعْمَرُ بنُ راشدٍ ـ رحمه الله ـ: «كَانَ يُقَالُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَطْلُبُ العِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ، فَيَأْبَى عَلَيْهِ العِلْمُ حَتَّى يَكُونَ للهِ»(٢٢).

وقد وَرَدَ في الصحيحين مِنْ حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه تمثيلُ الانتفاع بالهدى والعلمِ الذي جاء عن المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم ممَّنْ لا ينتفع به بما يَقْرُب شَبَهًا بأصحاب النِّيَّات على اختلاف البواعث والدوافع في تحصيل العلم الشرعيِّ، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا؛ فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ؛ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ(٢٣): لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»(٢٤).

قال ابنُ حَجَرٍ ـ رحمه الله ـ: «قال القرطبيُّ وغيرُه: ضَرَبَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لِمَا جاء به مِنَ الدِّين مَثَلًا بالغيث العامِّ الذي يأتي الناسَ في حالِ حاجتهم إليه، وكذا كان حالُ الناسِ قبل مَبْعثه؛ فكما أنَّ الغيثَ يُحْيِي البلدَ الميِّت فكذا علومُ الدين تُحيي القلبَ الميِّت، ثمَّ شبَّهَ السامعين له بالأرض المُخْتلِفةِ التي ينزل بها الغيثُ، فمنهم العالِمُ العامِل المعلِّمُ، فهو بمنزلة الأرض الطيِّبة شَرِبَتْ فانتفعَتْ في نَفْسها وأنبتَتْ فنفعَتْ غيرَها، ومنهم الجامعُ للعلم المُسْتغرِقُ لزمانه فيه، غيرَ أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقَّهْ فيما جَمَعَ لكنَّه أدَّاه لغيره؛ فهو بِمَنْزلةِ الأرض التي يَسْتَقِرُّ فيها الماءُ فينتفع الناسُ به، وهو المُشارُ إليه بقوله: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا»(٢٥)، ومنهم مَنْ يسمع العلمَ فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره؛ فهو بِمَنْزلة الأرض السَّبْخَةِ أو الملساء التي لا تقبل الماءَ أو تُفْسِده على غيرها، وإنما جَمَع في المَثَلِ بين الطائفتَيْن الأُوليَيْن المحمودتَيْن لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأَفْرَد الطائفةَ الثالثة المذمومة لعَدَمِ النفع بها»(٢٦).

سِمَة محقق الإخلاص:

هذا، ومِنْ علامات مُحقِّق الإخلاص والصدق:

أن يُحِبَّ الدِّينَ ويعملَ على التواصي بالحقِّ والصبر عليه، وإذا ما خُيِّر بين أمرين عُرِضَا عليه: أحَدُهما لله والآخَرُ للدنيا؛ اختار نصيبَه مِنَ الله وآثَرَه على الدنيا لفَنائها وبقاءِ الآخرة، وهو يعلم أنَّ الباقية خيرٌ مِنَ الفانية، ﴿وَلَلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لَّكَ مِنَ ٱلۡأُولَىٰ ٤[الضحى]، ﴿وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧[الأعلى]، ﴿قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ[النساء: ٧٧].

أَنْ تُرْضِيَهُ كلمةُ الحقِّ له أو عليه، وتُغْضِبَهُ كلمةُ الباطل له أو عليه؛ فهو لا يعمل لنَفْسِه، وإنما يسعى لإرضاءِ ربِّه سبحانه، ولو أدَّى ذلك إلى سخطِ الناس عليه وسقوطِ قَدْرِه في قلوبهم، وصِغَرِه في أَعْيُنِهم مِنْ أجلِ إصلاحِ قلبه مع الله تعالى، و«الجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ»، و«المُعَامَلَةُ بِنَقِيضِ القَصْدِ»؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ، وَمَنْ أَسْخَطَ اللهَ بِرِضَا النَّاسِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ»(٢٧)، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «لَمَّا كان المتزيِّنُ بما ليس فيه ضِدَّ المُخْلِصِ ـ فإنه يُظْهِرُ للناس أمرًا وهو في الباطن بخلافه ـ عَامَلَهُ اللهُ بنقيضِ قَصْدِه؛ فإنَّ المُعاقَبةَ بنقيضِ القَصْدِ ثابتةٌ شرعًا وَقَدَرًا، ولَمَّا كان المُخْلِصُ يُعجَّل له ـ مِنْ ثوابِ إخلاصِه ـ الحلاوةُ والمحبَّةُ والمَهابةُ في قلوب الناسِ عُجِّل للمتزيِّن بما ليس فيه مِنْ عقوبته أَنْ شَانَهُ اللهُ بين الناسِ؛ لأنَّه شَانَ باطِنَه عند الله، وهذا مُوجَبُ أسماءِ الربِّ الحُسنى وصِفاتِه العُلْيَا وحِكمتِه في قضائِه وشرعِه»(٢٨).

أَنْ يكره المُخْلِصُ أَنْ يطَّلِعَ غيرُه على عَمَلِه أو يُنْسَبَ إليه، قال الشافعيُّ ـ رحمه الله ـ: «وَدِدْتُ أنَّ الخَلْقَ يتعلَّمون هذا العلمَ ولا يُنْسَبُ إليَّ منه شيءٌ»(٢٩).

وأَنْ يَوَدَّ ـ في ميدان تعليم الناسِ الخيرَ وإفتائِهم بالحقِّ ـ أَنْ يَكْفِيَه غيرُه مؤونةَ الفتوى والبيان، وإذا استوجبَ المَقامُ تَصَدِّيَه للفتوى والتوجيهِ حَرَصَ على تَجرُّده للحقِّ بسلوكِ سبيلِه، مُعْرِضًا عن حظوظ النفس والاعتزاز بها، مترفِّعًا عن الهوى وشَرَكِهِ.

وإِنْ خاصَمَ غيرَهُ فلا يعملُ على غَلَبةِ خَصْمِه بالشُّبُهات والباطل؛ لأنه يعلم أنه ليس مِنَ التقوى والإخلاص؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ ـ وَهُوَ يَعْلَمُهُ ـ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ»(٣٠)، وإنما يتمنَّى أَنْ يُظْهِرَ اللهُ الحقَّ على لسانِ مُنَاظِرِهِ، قال الشافعيُّ ـ رحمه الله ـ: «ما ناظَرْتُ أحَدًا قطُّ إلَّا أحبَبْتُ أَنْ يُوفَّقَ ويُسدَّدَ ويُعانَ، ويكونَ عليه رعايةٌ مِنَ اللهِ وحفظٌ، وما ناظَرْتُ أحَدًا إلَّا ولم أُبَالِ بَيَّنَ اللهُ الحقَّ على لساني أو لسانِه»(٣١).

وذَكَرَ أبو حامدٍ الغزَّاليُّ ـ رحمه الله ـ علاماتٍ أخرى للصادق المُخْلِصِ حيث قال: «فاعْلَمْ أنَّ لذلك علاماتٍ:

              – إحداها: أنه لو ظَهَرَ مَنْ هو أَحْسَنُ منه وَعْظًا أو أَغْزَرُ منه عِلْمًا والناسُ له أَشَدُّ قبولًا فَرِح به ولم يَحْسُدْه…

              – والأخرى: أنَّ الأكابر إذا حَضَروا مَجْلِسَهُ لَمْ يتغيَّر كلامُه، بل بقي كما كان عليه؛ فينظر إلى الخَلْق بعينٍ واحدةٍ.

              – والأخرى: أَنْ لا يحبَّ اتِّباعَ الناسِ له في الطريق، والمشيَ خَلْفه في الأسواق؛ ولذلك علاماتٌ كثيرةٌ يطول إحصاؤُها»(٣٢).

مشقة الإخلاص في تثبيت تحول القلب:

إنَّ الصِّدْقَ في الإخلاصِ أَشَقُّ الأعمالِ صعوبةً على النفس، وأَشَدُّها على القلب لاستبقائه سالِمًا مِنَ المَقاصِدِ السيِّئة، بعيدًا عن أغراض الدنيا وشهواتها؛ ذلك لأنَّ القلوبَ كثيرةُ التقلُّبِ والتحوُّل في نواياها وقصودها فلا تثبتُ على حالٍ؛ لذلك بيَّن النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حقيقةَ تَحَوُّلِ القلبِ في وجهته وقَصْدِه؛ فكثيرًا ما كان يدعو بالتثبيت على الدِّينِ حيثُ قال: «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ ... وَالمِيزَانُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ، يَرْفَعُ أَقْوَامًا، وَيَخْفِضُ آخَرِينَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»(٣٣)، وكان يقول في دعائه: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»(٣٤)، ويُكْثِرُ في قَسَمِهِ عبارةَ: «لَا، وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ»(٣٥).

فالإخلاصُ شديدٌ، وقد لاقى كثيرٌ مِنَ العلماء والصالحين مُعاناةً لعلاجِ نِيَّتهم به، فيُؤْثَرُ عن سفيانَ الثوريِّ ـ رحمه الله ـ أنه قال: «مَا عَالَجْتُ شَيْئًا أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي لِأَنَّهَا تَتَقَلَّبُ عَلَيَّ»(٣٦)، وسأل الفضلُ بنُ زيادٍ ـ رحمه الله ـ الإمامَ أحمد ـ رحمه الله ـ فقال: «كيف النيَّةُ؟» قال أحمد: «يُعَالِجُ نَفْسَهُ: إِذَا أَرَادَ عَمَلًا لَا يُرِيدُ بِهِ النَّاسَ»(٣٧).

ولَمَّا كانَتِ النفسُ بِطَبْعِهَا تَميلُ إلى الشرِّ، وَتَفِرُّ مِنَ الخير، وتأمر بالسوء، وتَنْجَرِفُ مع الهوى، وتركن إلى الشهوات، والعبدُ قد يُؤْتَى مِنْ جهلِه أو مِنْ قِلَّةِ حذرِه؛ كان لزامًا عليه معرفةُ ما يُضادُّ الإخلاصَ ويُنافيهِ ليتحرَّزَ منه ويعملَ على أَنْ يأخذ نَفْسَهُ بمُراقبةِ الله تعالى حتَّى يتيقَّن أنه سبحانه عالِمٌ بِسِرِّه، رقيبٌ على أعماله، مُسْتَشْعِرًا الراحةَ في الاستعانة به وعلى طاعته، مُسْتأنِسًا بذِكْرِهِ والتعوُّذِ به مِنْ كُلِّ قَبيحةٍ ورذيلةٍ، ويعمل على مُحاسَبةِ نَفْسِه على عَمَلِ يومِه؛ فإِنْ رأى ظلمًا نَدِمَ عليه واستغفر وأناب، وعَمِل مِنَ الخير ما يراه مُصْلِحًا لِمَا أَفْسَدَ، في تواصلٍ وصَبْرٍ ـ جهادًا في ذات الله سبحانه ـ لتَطْهُرَ نَفْسُه وتَزْكُوَ؛ حتَّى يُصْبِحَ أهلًا لكرامة الله ورِضاه، ويسلكَ بها سبيلَ المؤمنين المُخْلِصين الصادقين مِنْ أهلِ الصبر واليقين مُقْتَدِيًا بهم ومُقْتَفِيًا آثارَهم.

نسألُ اللهَ تعالى أَنْ يَهَبَنَا العلمَ والإيمان، وهما أَسْمَى هِبَاتِ الرحمن، وأهلُهما هم خُلاصةُ الوجود ولُبُّه، وأهلُ التأهيل للمَراتِبِ العُلْيَا والدرجاتِ الرفيعة.

قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «أفضلُ ما اكتسبَتْه النفوسُ، وحصَّلَتْهُ القلوبُ، ونال به العبدُ الرِّفعةَ في الدنيا والآخرة هو العلمُ والإيمانُ؛ ولهذا قَرَنَ بينهما سبحانه في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ وَٱلۡإِيمَٰنَ لَقَدۡ لَبِثۡتُمۡ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡبَعۡثِ[الروم: ٥٦]، وقولِه تعالى: ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖ[المجادلة: ١١]»(٣٨).

نسألُ اللهَ تعالى أَنْ يَعْصِمَنا مِنَ الخطإ والزَّلَل، وأَنْ يوفِّقَنَا إلى حقِّ العلم وخيرِ العِلم وأَكْمَلِ العمل؛ إنه وَلِيُّ ذلك والقادرُ عليه.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

 

الجزائر في: ٢٤ مِنْ ذي الحجّة ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ١٣ جانفي ٢٠٠٧م

 


(١)     قد يُفَضَّلُ طَلَبُ العِلم على الجهادِ أفضليةً مُطْلَقةً لا بالنسبة للأشخاص؛ لحاجةِ الناسِ كُلِّهم إليه في كُلِّ وقتٍ، بينما يُفَضَّلُ الجهادُ في القويِّ وكذا الأحوال والأزمنة والأمكنة؛ لذلك نُقِل عن الإمامِ أحمدَ أنَّ: «العلم لا يَعْدِلُه شيءٌ لمَنْ صَحَّتْ نيَّتُه» [انظر: «الآداب الشرعية» لابن مُفْلِح (٢/ ٣٥)]، وعنه قال: «الناسُ يحتاجون إلى العلم مِثْلَ الخبز والماء؛ لأنَّ العلم يُحتاج إليه في كُلِّ ساعةٍ، والخبز والماء في كُلِّ يومٍ مرَّةً أو مرَّتين» [انظر: «مسائل الإمام أحمد وإسحاقَ بنِ راهويه» للمروزي (١/ ٨٦)].

(٢)     قال ابنُ حجرٍ في «الفتح» (١/ ١٦٥): «ومفهومُ الحديثِ أنَّ مَنْ لم يتفقَّهْ في الدِّين ـ أي: يتعلَّمْ قواعدَ الإسلام وما يتَّصِلُ بها مِنَ الفروع ـ فقَدْ حُرِمَ الخيرَ».

(٣)     مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «العلم» باب: مَنْ يُرِدِ اللهُ به خيرًا يفقِّهه في الدِّين (٧١)، ومسلمٌ في «الزكاة» (١٠٣٧)، مِنْ حديثِ معاويةَ بنِ أبي سفيان رضي الله عنه.

(٤)     مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «بدء الوحي» باب: كيف كان بدءُ الوحي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (١)، ومسلمٌ في «الإمارة» (١٩٠٧)، مِنْ حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه.

(٥)     أخرجه الطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (٢/ ١٦٥، ١٦٧)، وابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (٧/ ١٨٢)، مِنْ حديثِ جندب بنِ عبد الله الأزديِّ رضي الله عنه. وحسَّن إسنادَه الألبانيُّ في «صحيح الترغيب والترهيب»(٢/ ٥٨٥) برقم: (٢٣٢٨).

(٦) «الموافَقات» للشاطبي (١/ ٧٥).

(٧) «المجموعة العلمية» لبكر أبو زيد (١٨٢).

(٨)    أخرجه الترمذيُّ في «صفة القيامة» (٢٤٦٥) مِنْ حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، وأخرجه ابنُ ماجه في «الزهد» بابُ الهمِّ بالدنيا (٤١٠٥) مِنْ حديثِ زيد بنِ ثابتٍ رضي الله عنه. وانظر: «السلسلة الصحيحة» (٢/ ٦٣٣، ٦٣٤) رقم: (٩٤٩، ٩٥٠).

(٩) «سنن الدارمي» (٢٧٣)، و«مصنَّف ابنِ أبي شيبة» (٧/ ٢٠٨).

(١٠)    أخرجه أبو داود في «العلم» بابٌ في طَلَبِ العلم لغير الله تعالى (٣٦٦٤)، وابنُ ماجه في «المقدِّمة» بابُ الانتفاع بالعلم والعمل به (٢٥٢)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الترغيب والترهيب» (١/ ١٥٣) برقم: (١٠٥).

(١١)    أخرجه الترمذيُّ في «العلم» بابُ ما جاء فيمَنْ يطلب بعلمه الدنيا (٢٦٥٤) مِنْ حديثِ كعبِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الترغيب والترهيب» (١/ ١٥٣) برقم: (١٠٦).

(١٢)   تقدَّم تخريجه مِنْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه، انظر: (الهامش ٨).

(١٣) «سنن الدارمي» (٢٦٠).

(١٤)   أخرجه مسلمٌ في «الإمارة» (١٩٠٥) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(١٥)   أخرجه القُضاعيُّ في «مسند الشهاب» (١/ ٢٨٥) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما مرفوعًا، وأبو نُعَيْمٍ في «الحِلْية» (٥/ ١٨٩) مِنْ حديثِ أبي أيُّوب الأنصاريِّ رضي الله عنه مرفوعًا. والحديث ضعَّفه الألبانيُّ في «ضعيف الجامع الصغير» (١/ ٧٧٥) رقم: (٥٣٦٩) وفي «ضعيف الترغيب والترهيب» (١/ ٢٠) برقم: (٦) وفي «السلسلة الضعيفة» (١/ ١١١) برقم: (٣٨).

(١٦)   أخرجه مسلمٌ في «البرِّ والصِّلَة والآداب» (٢٥٨٨) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(١٧) «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (٦/ ٢٧٢).

(١٨)   أخرجه الدارميُّ في «سننه» (٢٦٦).

(١٩)   المصدر السابق (٢٦٨).

(٢٠)   أخرجه الدارميُّ في «سننه» (٢٧٠)، وابنُ أبي شيبة بهذا المعنى في «المصنَّف» (٣٤٥٩٨)، عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

(٢١)   أخرجه الدارميُّ في «سننه» (٣٧١) بابُ مَنْ طَلَبَ العلمَ بغيرِ نيَّةٍ فردَّه العلمُ إلى النيَّة.

(٢٢) «جامع مَعْمَر بنِ راشد» (٢٠٤٧٥).

(٢٣)   جمعُ قاعٍ، وهو الأرضُ المُسْتَوِيَةُ الملساءُ التي لا تُنْبِت، [انظر: «النهاية» لابن الأثير (٤/ ١٣٣)، «لسان العرب» لابن منظور (٢/ ٤٢٩)].

(٢٤)   مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «العلم» بابُ فضلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ (٧٩)، ومسلمٌ في «الفضائل» (٢٢٨٢)، مِنْ حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه.

(٢٥)   أخرجه أبو داود في «العلم» بابُ فضلِ نشرِ العلم (٣٦٦٠)، والترمذيُّ في «العلم» بابُ ما جاءَ في الحثِّ على تبليغِ السَّماع (٢٦٥٦)، وابنُ ماجه في «المقدِّمة» بابُ مَنْ بلَّغ علمًا (٢٣٠)، مِنْ حديثِ زيد بنِ ثابتٍ رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح سنن أبي داود» برقم: (٣٦٦٠) وفي «صحيح الترغيب» (١/ ١٤٧) برقم: (٩٠).

(٢٦) «فتح الباري» لابن حجر (١/ ١٧٧).

(٢٧)  أخرجه ابنُ حبَّان (٢٧٧)، والبغويُّ في «شرح السُّنَّة» ١٤/ ٤١٢()، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» ٥/ ٣٩٢() برقم: (٢٣١١).

(٢٨) «أعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٢/ ١٨٠).

(٢٩)   انظر: «حلية الأولياء» للأصفهاني (٩/ ١١٨)، و«الإحياء» للغزَّالي (١/ ٢٦)، و«صفة الصفوة» لابن الجوزي (٢/ ٢٥١)، و«جامع العلوم والحِكَم» لابن رجب (١/ ٢٣).

(٣٠)   أخرجه أبو داود في «الأقضية» بابٌ فيمَنْ يُعينُ على خصومةٍ مِنْ غيرِ أَنْ يعلم أَمْرَها (٣٥٩٧) مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (١/ ٢/ ٧٩٨) برقم: (٤٣٧) وفي «الإرواء» (٧/ ٣٤٩) برقم: (٢٣١٨).

(٣١) «حلية الأولياء» للأصفهاني (٩/ ١١٨)، و«الإحياء» للغزَّالي (١/ ٢٦)، و«صفة الصفوة» لابن الجوزي (٢/ ٥١)، و«فيض القدير» للمُناوي (٣/ ٩٠).

(٣٢) «إحياء علوم الدين» للغزَّالي (٣/ ٣٢٩).

(٣٣)  أخرجه ابنُ ماجه في «المقدِّمة» بابٌ فيما أنكرَتِ الجهمية (١٩٩)، والحاكم في «مُسْتَدْرَكه» (١/ ٧٠٦، ٤/ ٣٥٧)، مِنْ حديثِ النوَّاس بنِ سمعان الكلابيِّ رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «ظلال الجنَّة» (١/ ٩٨) رقم: (٢١٩) وفي «صحيح ابن ماجه» (١/ ٨٦) رقم: (١٦٦).

(٣٤)  جزءٌ مِنْ حديثِ نوَّاس بنِ سمعانَ رضي الله عنه السابق، انظر المصادرَ الحديثية السابقة.

(٣٥) أخرجه البخاريُّ في «الأيمان والنذور» باب: كيف كانَتْ يمينُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ (٦٦٢٨) مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما.

(٣٦)  «حلية الأولياء» للأصفهاني (٧/ ٥، ٦٢)، «الجامع لأخلاق الراوي» للبغدادي (١/ ٣١٧)، «جامع العلوم والحِكَم» لابن رجب (١/ ١٣).

([٣٧])      «جامع العلوم والحِكَم» لابن رجب (١/ ١٠).

(٣٨) «الفوائد» لابن القيِّم (١٠٣).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)