Skip to Content
الأربعاء 15 شوال 1445 هـ الموافق لـ 24 أبريل 2024 م

الكلمة الشهرية رقم: ١٥٠

[الحلقة الثالثةَ عَشْرَة]

[ ٢ ]

[الجزءُ الثاني]

قال الشيخ عبد الحميد بنُ باديس ـ رحمه الله ـ:

«الأصلُ الأوَّلُ
[انعقاد الإمامة بالاختيار والبيعة]

لا حقَّ لأحدٍ في ولايةِ أمرٍ مِنْ أمورِ الأُمَّةِ إلَّا بتَوليةِ الأُمَّةِ، فالأُمَّةُ هي صاحبةُ الحقِّ والسُّلطةِ في الوِلاية والعَزْلِ، فلا يَتولَّى أحدٌ أمرَها إلَّا بِرِضاها، فلَا يُورَثُ شيءٌ مِنَ الوِلاياتِ، وَلَا يُسْتَحَقُّ بِالاعْتِبَارِ الشَّخْصِيِّ.

وهذا الأصلُ مأخوذٌ مِنْ قوله: «وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ» أي: قد ولَّاني غيري وهو أنتم(٢)».

ـ يُتبَع ـ

 



(١) «الآثار» (٣/ ٤٠١).

(٢) هذه إحدى الطُّرقِ التي تَنعقد بها وِلايةُ الإمامةِ الكُبرَى وهي طريقةُ: الاختيارِ والبَيْعَةِ مِن أهلِ الحَلِّ والعَقْدِ، وهم القادةُ مِنَ العلماء والأُمراءِ والوُجَهاءِ الَّذين يتَّصفونَ بالعِلمِ والرَّأيِ والمَشُورةِ والتَّوجيهِ، لا يُشترَطُ فيهم عددٌ مُعيَّنٌ أو إجماعُهم على البَيعَةِ، وإنَّما المُعتبَرُ في ذلك بَيعَةُ جمهورِ أهل الحَلِّ والعَقْدِ الذين يُخوَّلُ لهم ـ نيابةً عنِ الأُمَّة ـ اختيارُ مَن يَرَوْنَ فيه الكفاءةَ لوِلاية الإمامةِ وَفْقَ شُروطِ الإمامةِ ومَعايِيرِها، فالبَيعَةُ له ـ بهذا الاعتبارِ ـ هي الأَمْرُ الذي تجب بعده طاعتُه، وتثبتُ به الوِلايةُ، وتحرُمُ المُخالَفةُ، وبهذه الطَّريقِ تَمَّتْ خِلافَةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، وانعقدَتْ خلافتُه رضي الله عنه بالبَيعَة والاختيارِ في سَقِيفةِ بني سَاعِدةَ ـ كما تقدَّم ـ وهو مذهبُ كثيرٍ مِن أهلِ الحديثِ، وهو روايةٌ عن أحمدَ، قالت به طائفةٌ مِنَ الحنابلةِ، وهو مَذهبُ المعتزلةِ والأشاعرةِ والمَاتُريديَّةِ وأهلِ الكلامِ، خلافًا لِمَن يرى أنَّ خلافةَ أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه إنَّما ثَبتَتْ بالنَّصِّ الجَليِّ أي: بمجموعِ دَلالةِ الأدلَّةِ القَوليَّةِ والفِعليَّةِ، وهو مَذهبُ جماعةٍ مِن أهلِ الحديثِ وطائفةٍ مِنَ الشَّافعيةِ، وهو روايةٌ عن أحمدَ، وبه قال ابنُ حَزْمٍ وغيرُه، وثَمَّةَ مَن يرى ـ أيضًا ـ أنَّ خِلافتَه رضي الله عنه ثَبتَتْ بالنَّصِّ الخَفيِّ والإشارةِ، وبهذا قال الحَسَنُ البصريُّ وطائفةٌ مِن أهلِ الحديثِ؛ [انظر: «الفصل في المِلَل» لابن حزم (٥/ ١٠٧)، «أصول الدِّين» لأبي منصور البغدادي (٢٧٩)، «شرح العقيدة الطحاويَّة» لابن أبي العِز (٥٣٣)].

هذا، وإِنْ كانت خلافةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه انعقدَتْ بالاختيارِ والبَيعَةِ بإجماعِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم كما قال القُرطبيُّ ـ رحمه الله ـ [في «الجامع لأحكام القرآن» (١/ ٢٦٤)]: «وأجمعَتِ الصَّحابةُ على تقديمِ الصِّدِّيقِ بعدَ اختلافٍ وقَعَ بين المُهاجرينَ والأنصارِ في سَقِيفةِ بني سَاعِدةَ في التَّعيين»، إلَّا أنَّ إمامَتَه رضي الله عنه لم تكن ثابتةً بصِفةٍ مُستقلَّةٍ على أرجح أقوال العلماءِ؛ والتَّحقيقُ أنَّ خلافةَ أبي بكرٍ رضي الله عنه إنَّما ثَبَتَتْ تَبعًا لتَنصِيص النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم عليها في أخبارٍ صحيحةٍ مُبَيِّنةٍ لِمَنزلته وفضله، تُؤكِّدُ ـ فعلًا ـ أنَّه رضي الله عنه الأحقُّ بأمرِ الدِّين والأجدرُ بالإمامةِ العُظمَى، من أَوجُهٍ ثلاثَةٍ: الخَبَرُ وَالأَمْرُ وَالإِرْشَادُ كما بيَّنه ابن تيمية ـ رحمه الله ـ [في «مجموع الفتاوى» (٣٥/ ٤٨)] حيث قال ـ رحمه الله ـ ما نصُّه: «وَالتَّحْقِيقُ فِي «خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ» وهو الذي يَدُلُّ عليه كلامُ أحمد: أنَّها انْعَقَدَتْ باخْتِيَارِ الصَّحابةِ وَمُبَايَعَتِهِم له، وأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أَخْبَرَ بِوُقوعِها على سبيل الحَمْدِ لها والرِّضَى بها، وأنَّه أمر بطاعتِهِ وتفوِيضِ الأَمرِ إليهِ، وأنَّه دلَّ الأُمَّةَ وأرشدَهُمْ إلى بَيْعَتِهِ؛ فهذه الأَوْجُهُ الثَّلاثةُ: الخَبَرُ والأَمْرُ والإِرْشَادُ: ثابتٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم.

فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: «رَأَيْت كَأَنِّي عَلَى قَلِيبٍ أَنْزِعُ مِنْهَا فَأَتَى ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ» الحَدِيثُ؛ [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «فَضَائلِ الصَّحابَةِ» (٧/ ١٨) بابُ قولِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا»، ومسلمٌ في «فَضَائِلِ الصَّحابَةِ» (١٥/ ١٦٠) بابٌ: مِن فَضائِلِ عُمَرَ رضي الله عنه، مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه]، وَكَقَوْلِهِ: «كَأَنَّ مِيزَانًا دُلِّيَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فَوُزِنْت بِالأُمَّةِ فَرَجَحْت ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ» الحَدِيثُ؛ [أخرجه أحمدُ بنحوه في «مسنده» (٥٤٦٩) مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما؛ وصحَّحه الألبانيُّ في «ظِلال الجنَّة» (٢/ ٥٣٩)، وبهذا المعنى أخرجه ـ أيضًا ـ أبو داودَ في «السُّنَّةِ» (٥/ ٣٠) بابٌ في الخُلَفاءِ، والتِّرمِذِيُّ في «الرُّؤيَا» (٤/ ٥٤٠) بابُ ما جاءَ في رُؤيَا النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم الميزانَ والدَّلْوَ، مِن حديثِ أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه، وصَحَّحَهُ مُقبِلٌ الوَادِعِيُّ في «الصَّحيح المُسنَدِ» (٢/ ٢٢٥)]، وَكَقَوْلِهِ: «ادْعِي لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي» ثُمَّ قَالَ: «يَأْبَى اللهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ»؛ [أخرجَهُ مسلمٌ في «فَضَائِلِ الصَّحابَةِ» (١٥/ ١٥٥) بابٌ: مِنْ فَضائِلِ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه، مِن حديث عائشةَ رضي الله عنها]، فَهَذَا إخبارٌ منه بأَنَّ اللهَ والمؤمنين: لا يَعْقِدُونَهَا إلَّا لِأَبِي بَكرٍ الذي هَمَّ بالنَّصِّ عليه، وَكَقَوْلِهِ: «أُرِيَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ كَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ بِرَسُولِ اللهِ» الحَدِيثُ؛ [أخرجه أبو داودَ في «السُّنَّةِ» (٥/ ٣١) بابٌ في الخُلفَاءِ، مِنْ حديثِ جابرٍ رضي الله عنه، وضَعَّفهُ الألبانيُّ في «ضَعيف الجامِعِ» (٧٨٧)]، وَقَوْلِهِ: «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا»؛ [أخرجه أبو داودَ في «السُّنَّةِ» (٥/ ٣٧) بابٌ في الخُلَفاءِ، والتَّرمِذِيُّ في «الفِتَن» (٤/ ٥٠٣) بابُ ما جاء في الخِلافةِ، مِن حديثِ سَفِينَةَ رضي الله عنه مولَى رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، وصحَّحه الألبانيُّ في «السِّلسلةِ الصَّحيحةِ» (٤٥٩)].

وَأَمَّا الْأَمْرُ فَكَقَوْلِهِ: «اقْتَدَوْا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ»؛ [أخرجه التِّرمِذِيُّ في «المَنَاقبِ» (٥/ ٦٠٩) بابٌ في مناقبِ أبي بكرٍ وعُمَرَ رضي الله عنهما كِلَيْهما، وابنُ ماجه في «المُقدِّمة» (١/ ٣٧) بابُ فضلِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، مِن حديثِ حُذَيفَةَ رضي الله عنه، وصَحَّحه الألبانيُّ في «السِّلسلةِ الصَّحيحةِ» (١٢٣٣)]، وَقَوْلِهِ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي»؛ [أخرجه أبو داودَ في «السُّنَّةِ» (٥/ ١٣) بابٌ في لزومِ السُّنَّةِ، والتِّرمِذِيُّ في «العِلْمِ» (٥/ ٤٤) بابُ مَا جاء في الأَخْذِ بالسُّنَّةِ واجتنابِ البِدَع، مِن حديثِ العِرباضِ بنِ سَاريةَ رضي الله عنه، ولفظةُ: «مِن بَعْدِي» عند المَرْوَزِيِّ في «السُّنَّةِ» (٦٩)، وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواءِ» (٢٤٥٥)]، وَقَوْلِهِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي سَأَلَتْهُ: «إنْ لَمْ أَجِدْكَ؟» قَالَ: «فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ»؛ [مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البُخاريُّ في «فَضائِلِ الصَّحابَةِ» (٧/ ١٧) بابُ قولِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا»، ومسلمٌ في «فَضائِلِ الصَّحابَةِ» (١٥/ ١٥٤) بابٌ: مِن فَضائِلِ أبي بكرٍ الصِّديقِ رضي الله عنه، مِن حديثِ جُبَيرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه]، وَقَوْلِهِ لِأَصْحَابِ الصَّدَقَاتِ إذَا لَمْ يَجِدُوهُ: «أَعْطُوهَا لِأَبِي بَكْرٍ»؛ [أخرجه الطَّبرانيُّ في «المُعجَمِ الكَبيرِ» (١٧/ ١٨٠)، وقال الهيثميُّ في «مَجمَعِ الزَّوائِدِ» (٥/ ١٧٩): «وفيه الفَضْلُ بنُ المُختَارِ، وهو ضَعيفٌ جِدًّا»، وضَعَّفَ إسنادَهُ ابنُ حَجَرٍ في «فتحِ الباري» (٧/ ٢٤)]، وَنَحْوِ ذلكَ.

والثَّالِثُ تقديمه له في الصَّلاةِ وقولُهُ: «سُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ فِي المَسْجِدِ إلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ»؛ [أخرجه البخاريُّ في «الصَّلاةِ» (١/ ٥٥٨) بابُ الخَوْخَةِ والمَمَرِّ في المَسجِدِ، مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، والخَوْخَةُ: هي الباب الصغير بين البيتين أو الدَّارين ونحوه؛ «شرح مسلم» للنَّووي (١٥/ ١٥١)]، وَغَيْرُ ذلكَ مِنْ خصائِصِهِ ومَزاياهُ.

وَهَذِهِ الوُجُوهُ الثَّلاثةُ الثَّابتةُ بالسُّنَّةِ دَلَّ عليها القُرْآنُ:

فَالْأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ﴾ الآية [النور: ٥٥]: وَقَوْلِهِ: ﴿فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ﴾ الآية [المائدة: ٥٤]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ ١٤٤[آل عمران].

وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: ﴿سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ تُقَٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ يُسۡلِمُونَ﴾ الآية [الفتح: ١٦].

وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِهِ: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلۡأَتۡقَى ١٧[الليل]، وَقَوْلِهِ: ﴿ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ[النساء: ٦٩]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلۡأَوَّلُونَ مِنَ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ﴾ الآية [التَّوبة: ١٠٠]، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فثبتَتْ صِحَّةُ خلافته ووجوبُ طاعتِه بالكتاب والسُّنَّةِ والإجماع، وإن كانت إنَّما انعقدت بالإِجْمَاعِ والاختيارِ، كما أَنَّ اللهَ إذا أَمَرَ بِتَوْلِيَةِ شَخْصٍ أو إنْكَاحِهِ أو غيرِ ذلك مِنَ الأُمورِ معه فإِنَّ ذلك الأَمْرَ لا يَحْصُلُ إلَّا بعَقْدِ الوِلَايَةِ والنِّكَاحِ؛ والنُّصوصُ قد دَلَّتْ على أَمْرِ اللهِ بذلك العَقْدِ وَمَحَبَّتِهِ له؛ فالنُّصوصُ دَلَّت على أَنَّهُمْ مَأْمورونَ باختياره والعَقدِ له، وأَنَّ اللهَ يرضى ذلك وَيُحِبُّهُ، وَأَمَّا حُصولُ المَأمُورِ به المَحبوبِ فلا يَحْصلُ إلَّا بالامتثالِ، فَلَمَّا امْتَثَلُوا ما أُمِرُوا به عَقَدُوا له باختيارِهِم، وكان هَذَا أَفْضَلَ في حَقِّهِم وَأَعْظَمَ فِي دَرَجَتِهِم».

وعليه، فإنَّ قولَ المُصنِّف ـ رحمه الله ـ: «وهذا الأصلُ مأخوذٌ مِن قوله: «وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ» أي: قد وَلَّاني غيري وهو أنتم» فهذه العبارةُ تَحتمِلُ ـ أيضًا ـ أن يكون معناها: وُلِّيتُ عليكم بالإمامةِ في الصَّلاة وقد وَلَّاني النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم ولَسْتُ بخيركم يَومئذٍ لأنَّ فيكم رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، وكذلك لا يُسَلِّم هذا التَّقريرَ مَنْ يرى أنَّ خلافةَ أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه ثَبتَتْ بالنَّصِّ الجَليِّ أو بالنَّصِّ الخَفيِّ والإشارةِ المتمثِّل في أنَّه تَمَّت تَوليتُه مِن المسلمين وباختيارهم ورضَاهم، إلَّا على مَذهب القائلين بأنَّ إمامتَه ثَبتَتْ بطريقِ البَيعَةِ والاختيارِ المُستقِلِّ عنِ التَّنصيص والإشارةِ.

وكذلك تقريرُه بأنَّ «الأُمَّة هي صاحبةُ الحقِّ والسُّلطة في الوِلايةِ والعَزْلِ، فلا يتولَّى أحدٌ أمرَها إلَّا برضاها، فلا يُورَث شيءٌ مِنَ الوِلايات، ولا يُستحَقُّ بالاعتبارِ الشَّخصيِّ».

فقوله: إنَّ «الأمَّة صاحبةُ الحقِّ والسُّلطة في الوِلاية والعَزْلِ» أي: في توليةِ الحاكمِ وعزلِه.

ـ أمَّا التَّوليةُ فليست سلطةُ الاختيارِ والعقدِ فيها لعامَّة أفرادِ الأمَّةِ، وإنَّما صاحبُ الحقِّ والسلطةِ في التَّوليةِ: كلُّ مَن حضرَ مِن أهلِ الحلِّ والعقدِ عند وفاةِ الحاكمِ أو عزلِه، ولهم الحقُّ في أن يتولَّوْا عقدَ البَيعةِ للإمامِ، الأمرُ الذي تجبُ بعده الطاعةُ وتَثبتُ به الولايةُ وتَحرمُ معه المخالفةُ، «فإِنْ عقدَها واحِدٌ مِن أهلِ الحلِّ والعقدِ فذلك ثابتٌ ويَلزَمُ الغَيرَ فِعلُهُ»؛ [«الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (١/ ٢٦٩)]، «وليس مِنْ شرطِ ثبوتِ الإمامةِ أَنْ يُبايعَهُ كُلُّ مَنْ يصلحُ للمُبايعةِ، ولا مِنْ شرطِ الطَّاعةِ على الرَّجُلِ أَنْ يكونَ مِنْ جملةِ المُبايِعين؛ فإنَّ هذا الاشتراطَ في الأمرينِ مردودٌ بإجماعِ المسلمينَ: أوَّلِهم وآخِرِهم سابِقِهم ولاحِقِهم»؛ [«السيل الجرَّار» للشوكاني (٤/ ٥١٣)].

ـ وأمَّا العزلُ: فلا يجوزُ لأهلِ الحلِّ والعَقدِ خَلعُ الإمامِ ما دامَ لم يأتِ بما يَستحقُّ عزلَه، فقد نقل أبو المعالي الجوينيُّ ـ رحمه الله ـ في ذلك الإجماعَ [في «الإرشاد إلى قواطع الأدلَّة في أصول الاعتقاد» (٤٢٥، ٤٢٦)] فقال: «مَنِ انعقدتْ له الإمامةُ بعقدِ واحدٍ فقد لزِمَتْ، ولا يجوزُ خلعُه مِنْ غيرِ حدثٍ وتَغيُّرِ أمرٍ، وهذا مُجمَعٌ عليهِ»، ونقله عنه القُرطبيُّ ـ رحمه الله ـ [في «الجامع لأحكام القرآن» (١/ ٢٦٩)]، كما لا ينعزِلُ الإمام بالفسقِ والظلمِ وتعطيلِ الحقوقِ، فقد نقلَ النَّوويُّ الإجماع في ذلك فقال: «قال جماهيرُ أهلِ السُّنَّةِ مِنَ الفقهاءِ والمحدِّثينَ والمتكلِّمين: لا ينعَزِلُ بالفسقِ، والظُّلمِ، وتعطيلِ الحقوقِ، ولا يُخلَعُ، ولا يجوزُ الخروجُ عليه بذلك»؛ [«المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج» (١٢/ ٢٢٩)]، وعلَّل ذلك المُلا عليٌّ القاري ـ رحمه الله ـ فقال: «أجمعَ أهلُ السُّنَّةِ على أنَّ السُّلطانَ لا يُعزَلُ بالفِسقِ؛ لتهيِيجِ الفِتنِ في عزلِه، وإراقةِ الدِّماءِ، وتفريقِ ذاتِ البَينِ، فتكونُ المفسدةُ في عزلهِ أكثرَ منها في بقائِهِ»؛ [«مرقاة المفاتيح» (٧/ ٢٢٧)]، وأجمعوا ـ أيضًا ـ على عزلِ الإمامِ إذا طرَأَ عليه الكفرُ، فقد نقلَ القاضي عياضٌ ـ رحمه الله ـ الإجماعَ في ذلك بقوله: «لا خِلافَ بينَ المسلمينَ أنَّه لا تَنعقِدُ الإمامةُ للكافرِ، ولا تستَديمُ له إذا طَرأَ عليهِ»؛ [«إكمال المعلم» (٦/ ٢٤٦)]، ونقَلَه عنه النَّوويُّ ـ رحمه الله ـ [في «المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج» (١٢/ ٢٢٩)]، وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ [في «فتح الباري» (١٣/ ١٢٣)]: «ينعَزِلُ ـ الإمامُ ـ بالكُفرِ إجماعًا»، كما أنَّ الإمامَ ينعزل بالجنونِ الَّذي لا يُرجى زوالُه وتَبطلُ إمامتُه، فقد نقل الجوينيُّ رحمه الله ـ في ذلك ـ الإجماعَ [في «غياث الأمم في الْتِياث الظُّلَم» (٩٣)] حيثُ قال: «الجنونُ المُطبقُ الَّذي لا يُرجى زوالُه يتضمَّن الانخلاعَ بالإجماعِ»، وكذلك الإمامُ الَّذي لم يقدِرْ على القيامِ بأعباءِ الإمامةِ فيجوزُ أَنْ يعزِلَ نفسَه، قال الشِّنقيطيُّ ـ رحمه الله ـ [في «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن» (١/ ٣٢)] ما نصُّه: «إِنْ كان عزلُه لنفسِه لمُوجِبٍ يقتضي ذلك، كإخمادِ فِتنةٍ كانت ستشتعِلُ لو لم يعزِلْ نفسَه، أو لعِلمِه مِنْ نفسِه العجزَ عن القيامِ بأعباءِ الخلافةِ، فلا نزاعَ في جوازِ عزلِ نفسِه؛ ولذا أَجمعَ جميعُ المسلمين على الثَّناءِ على سِبطِ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم الحسَنِ بنِ عليٍّ رضي الله عنهما بعزلِ نفسِه، وتسليمِه الأمرَ إلى معاويةَ رضي الله عنه، بعد أَنْ بايعَه أهلُ العراقِ؛ حقنًا لدماءِ المسلمينَ».

أمَّا قول المصنِّفِ ـ رحمه الله ـ بعد ذلك: «فلا يُورَث شيءٌ مِنَ الوِلايات، ولا يُستحَقُّ بالاعتبارِ الشَّخصيِّ» فإِنْ كان مرادُه مِنْ هذه العبارةِ أنَّه ليس لوليِّ الأمرِ أَنْ يورِّثَ ولدَه أو قرابتَه الحُكمَ لحُبِّ الولد أو إيثارِ القرابةِ إذا لم يكن أهلًا أو كان غيرُه أصلحَ فصحيحٌ في الجملةِ، إلَّا أنَّ في هذا التَّقريرِ فرقًا بين المُستحِقِّ للإمامة بشرطِها؛ وبين ما تنعقدُ به ولو لغير مُستحِقٍّ لها، فكونُ الولاياتِ لا تُستحَقُّ بالميراث والاعتبارات الشَّخصيَّة هو الحقُّ، ولا يناقض كونَها تنعقدُ بذلك، فإنَّها لا تُستحَقُّ بالميراث وإنَّما تُستحَقُّ للقويِّ الأمين، لأنَّهم أُجَراءُ عند الأمَّة، مسؤولون عنها أمامَ الله؛ وليسوا في أموالهم حتَّى يورِّثوها أولادَهم أو قرابتَهم كما شاءوا وإِنْ لم يصلحوا لها، لكنَّها تنعقدُ بمبايعةِ أهلِ الحلِّ والعقدِ ولو لِمَنْ لا يستحقُّها، وهذا حالُ أكثر الحُكَّام مِنَ الخلفاء مِنْ بني أُمَيَّةَ وبني العبَّاس، فضلًا عن غير الخلفاء مِنْ حُكَّام الدُّوَل المتعاقبةِ في المشرق والمغربِ، فهؤلاء كثيرٌ منهم جمعوا بين الفِسقِ والظُّلمِ وبين الضعفِ والعجزِ، ومع ذلك صَحَّتْ إمارتُهم وانعقدت بغلبتِهم ومبايعةِ أهل الحلِّ والعقد لهم.

وإذا ثبَتَ أنَّ حقَّ التَّوليةِ والعَزْلِ لأهلِ الحَلِّ والعَقْدِ، فإنَّه لا دَخْلَ للأُمَّةِ ولا لغيرها في سُلطةِ التَّشريعِ، إذ لا خلافَ بين المُسلمينَ أَنَّ مَصدَرَ الحُكمِ والتَّشريعِ والعِبادةِ هو مِنَ اللهِ وحده لا شريكَ لهُ، وقد تضافرَتِ النُّصوص القُرآنيَّةُ على تقرير تَفرُّدِ اللهِ بحقِّ التشريع للمَبَادِئ والأُصُول والتشريعات المُفصَّلة المُحدَّدة، وَيدُلُّ عليه قولُه تعالى: ﴿إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ[الأنعام: ٥٧، يوسف: ٤٠، ٦٧]، وقولُه تعالى: ﴿فَٱلۡحُكۡمُ لِلَّهِ ٱلۡعَلِيِّ ٱلۡكَبِيرِ ١٢[غافر]، وقولُه تعالى: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ[المائدة: ٤٩]، وغيرُها مِنَ الآيات الدَّالَّةِ على أنَّ مَصدَرَ التَّشريعِ وسُلْطَةَ الحُكمِ لله وحدَهُ، وطريقُ التَّعرُّفِ عليه إنَّما هو كتابُ اللهِ وسُنَّةُ نَبيِّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم؛ [راجع على الموقع الرَّسمي: الكلمة الشهرية رقم: (137)، الموسومة بعنوان: «التنويه والإشادة بمقام إفراد الله في الحكم والتشريع والعبادة»].

هذا، ويجدُرُ التَّنبيهُ ـ في هذا المقامِ ـ إلى أَنَّ انعقادَ الإمامةِ الكُبرى ليس قاصرًا على الطَّريق الذي ذكَرَه المصنِّف ـ رحمه الله ـ ولا محصورًا فيه، وإنَّما انعقادُ الإمامةِ العُظمى يكون على ضَربَين: إمامةٌ اختياريَّةٌ وأخرى قهريَّةٌ.

أمَّا الإمامةُ الاختياريةُ فتنعقدُ بالطُّرقِ الآتيةِ:

الطريقُ الأوَّلُ: الاختِيارُ والبَيعَةُ مِن أهلِ الحَلِّ والعَقدِ، وقد تقدَّم ما ذكَرَه المصنِّف ـ رحمه الله ـ وتمَّ بيانه.

الطريقُ الثَّاني: استِخلافُ الإمام بتعيين خليفته مِنْ بعده:

والمرادُ بالاستخلافِ أَنْ يَعهَدَ الإمامُ القائمُ إلى مَن يراه كُفْءًا وأقدَرَ على حمايةِ الدِّين وسياسةِ الدُّنيا فيَخلُفه مِنْ بَعْدِهِ، فتثبتُ الإمامةُ به وتَلزَمُ بعَهدِ مَن قَبْلَهُ إذا أذعن له أولو الحلِّ والعقد، وبهذا الطَّريق تمَّتْ خلافةُ عمرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه حيثُ إنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه لمَّا حَضَرَتْهُ الوفاةُ عهِدَ إلى عمرَ رضي الله عنه بالإمامةِ، مِن غيرِ نكيرِ أحدٍ مِنَ الصَّحابةِ رضي الله عنهم، ويدُلُّ على ثبوت الإمامة بتعيين الحاكم أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أعطى الرَّايةَ يومَ مُؤتَةَ زيدَ بنَ حارثَةَ وقال: «فَإِنْ قُتِلَ زَيْدٌ ـ أَوِ اسْتُشْهِدَ ـ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِلَ ـ أَوِ اسْتُشْهِدَ ـ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ»؛ [أخرجه أحمدُ في «مُسنَدِهِ» (١٧٥٠) مِن حديثِ عبدِ الله بنِ جَعفرٍ رضي الله عنهما، وصحَّحه أحمدُ شاكِر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد» (٣/ ١٩٢)، والألبانيُّ في «أحكام الجنائز» (٢٠٩)]، والحديثُ يَدلُّ على وجوبِ نَصْبِ الأمير وجوازِ الاستخلافِ، وقد اتَّفقتِ الأُمَّةُ على انعِقاد الإمامة بالاستخلاف وثبوتِ أحكامها بولاية العَهد لِمَن تمَّ له أَمْرُهَا، قال الخطَّابيُّ ـ رحمه الله ـ [في «معالم السُّنَن» (٣/ ٣٥١)]: «فالاستخلافُ سُنَّةٌ اتَّفَقَ عليها المَلأُ مِنَ الصَّحابة، وهو اتفاق الأُمَّة، لم يُخالِفْ فيه إلَّا الخوارجُ والمارِقةُ الَّذين شَقُّوا العَصَا وخَلَعُوا رِبْقَةَ الطَّاعةِ».

الطريقُ الثالثُ: تعيينُ جماعةٍ تختارُ الخليفةَ.

وذلك بأَنْ يَعهَد الإمامُ القائمُ بأمر الإمامة فيَجعلَه شُورَى بيْنَ عددٍ أو جماعةٍ معدودةٍ تتوفَّر فيها معاييرُ الإمامة وشروطُها، لِتتولَّى القيامَ باختيارِ خليفتِه المناسبِ ومبايعتِه مِنْ بينِهم، مِثلما فعلَ عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه حيثُ عهِدَ إلى نَفرٍ مِنْ أهلِ الشُّورى لاختيارِ واحدٍ منهم، قال الخَطَّابيُّ ـ رحمه الله ـ [في «معالم السُّنَن» (٣/ ٣٥١)]: «ثمَّ إنَّ عمرَ لم يُهمِلِ الأمرَ ولم يُبطِلِ الاستخلافَ، ولكِنْ جَعَلَه شُورَى في قومٍ معدودين لا يَعْدُوهم، فكُلُّ مَن أقامَ بها كان رضًا ولها أهلًا، فاختاروا عثمانَ وعَقَدوا له البَيعَةَ».

هذا، والإمامةُ الاختياريةُ ـ بطُرُقِها الثَّلاثِ ـ مُجمَعٌ على صِحَّتها وانعقادِها بها وثبوتِ أحكامِها لمَن تَولَّى أمرَها؛ قال النَّووِيُّ ـ رحمه الله ـ [في «شرح مسلم» (١٢/ ٢٠٥)]: «وأجمعوا على انعقادِ الخلافةِ بالاستخلافِ، وعلى انعقادِها بعَقدِ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ لإنسانٍ إذا لم يستخلف الخليفةُ، وأجمعوا على جَواز جَعلِ الخليفةِ الأمرَ شُورى بين جماعةٍ كما فعل عمرُ بالسِّتَّةِ»؛ [انظر: «الأحكام السُّلطانيَّة» للمَاوَرْدِيِّ (٦ ـ ١٠)، «الأحكام السُّلطانيَّة» لأبي يَعْلَى (٢٣، ٢٥)، «تحرير الأحكام» لابنِ جَماعةَ (٥٢، ٥٣)، «فتح الباري» لابن حجر (١٣/ ٢٠٨)، «مَنصِب الإمامةِ الكُبرَى» للمؤلِّف (٢٠)].

وعليه، فإنَّ الخليفةَ «يجوزُ له الاستخلافُ ويجوزُ له تَركُهُ، فإِنْ تَرَكَهُ فَقَدِ اقتدَى بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم في هذا، وإلَّا فَقَدِ اقتدى بأبي بكرٍ»؛ [«شرح مسلم» للنَّوويِّ (١٢/ ٢٠٥)]، وهذا بخلاف المُعتزلةِ الذين قَصَروا عَقْدَ الإمامةِ على بَيعة أهلِ الحَلِّ والعَقْدِ فقط دون الاستخلافِ، والرَّافضةِ الذين قَصَروا الإمامةَ على النَّصِّ المزعومِ على الإمام ثمَّ نصِّ الإمام على الإمام بعده، وهو معنى الاستخلافِ والعهدِ فقط دون اعتبار بَيعَةِ أهلِ الحَلِّ والعَقْدِ؛ [انظر: «أصول الدِّين» لأبي منصور البغدادي (٢٧٩)، «أصول الكافي» للكُلَيني (١/ ٢٨٦)].

وأمَّا الإمامةُ القَهْرِيَّةُ فهي وِلايةُ الإجبارِ والقهرِ، وذلك إذا غَلَب صاحبُ الشَّوكة النَّاسَ بالقُوَّة والسَّيفِ حتى أذعنوا له، فتولَّى الإمامةَ بغير بَيعةٍ أو استخلافٍ أو ببيعةٍ عن كرهٍ، وتمَّ له التَّمكينُ، فَقَدِ اتَّفَقُوا على أنَّ المُتغلِّبَ يصيرُ إمامًا للمسلمينَ وإن لم يَستَجمِعْ شروطَ الإمامةِ، وتكون أحكامُهُ نافذةً، بل تجب طاعتُهُ في المعروف وتَحرُمُ منازعتُهُ والخروجُ عليه؛ لأنَّ طاعتَهُ خيرٌ مِنَ الخروجِ عليه، لِمَا في ذلك مِنْ حَقْنِ الدِّماءِ وتسكينِ الدَّهماءِ، ولِمَا في الخروج عليه مِنْ شَقِّ عصا المسلمين وإراقةِ دِمائِهِمْ وتسلُّطِ أعداءِ الإسلامِ عليهِمْ، وقد حكى الإجماعَ على طاعة الحاكمِ المُتغلِّب الحافظُ ابنُ حَجَرٍ عن ابنِ بطَّالٍ ـ رحمهما الله ـ؛ [انظر: «فتح الباري» (١٣/ ٧)]، وقال محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّاب ـ رحمه الله ـ [في «الدُّرر السَّنيَّة» (٢/ ٥)]: «الأئمَّةُ مُجْمِعونَ مِنْ كلِّ مَذهبٍ على أنَّ مَن تَغَلَّب على بَلَدٍ أو بُلدانٍ له حُكْمُ الإمامِ في جميع الأشياء»، كما نقل الإجماعَ ـ أيضًا ـ أبو الحَسَنِ الأشعريُّ ـ رحمه الله ـ [في «رسالة إلى أهلِ الثَّغْرِ» (٢٩٦)] بقوله: «وأجمعوا على السَّمع والطَّاعةِ لأئمَّةِ المسلمين، وعلى أنَّ كلَّ مَن وَلِيَ شيئًا مِن أمورِهم عن رضًى أو غَلَبَةٍ، وامتدَّت طاعتُهُ مِنْ بَرٍّ وفاجرٍ لا يَلزَمُ الخروجُ عليهم بالسَّيفِ جارَ أو عدلَ».

غير أنَّ هذا الطَّريقَ الرَّابعَ وهو وِلايةُ القَهْرِ والاستيلاءِ وإن كانت البَيعةُ تَنعقِدُ به وتلزَمُ به الطَّاعةُ وجميعُ الحقوقِ، إلَّا أنَّه وإن تمَّ له ذلك فليس بأصلِ الإمامةِ الاختياريَّةِ، وإنَّما انعقدَتْ إمامتُهُ ولَزِمَتْ بوِلايةٍ إجباريةٍ لدَرْءِ الفِتنةِ وحَقْنِ الدِّماءِ وانتظامِ الشَّملِ واستقرارِ الأمنِ، وذلك بالالتزامِ بالنُّصوصِ الشَّرعيةِ المُوجِبةِ لطاعةِ الحاكمِ المُتغلِّبِ في المَعروف والصبرِ على ظُلمهِ وعدمِ الخروج عليه، وإثمُه عليه، قال الإمام أحمدُ ـ رحمه الله ـ: «ومَن خرج على إمامٍ مِن أئمَّة المسلمين وقد كان النَّاسُ اجتمعوا عليه وأقرُّوا له بالخلافة بأيِّ وجهٍ كان ـ بالرضَا أو الغَلَبةِ ـ فَقَدْ شقَّ هذا الخارجُ عَصَا المسلمين، وخالفَ الآثارَ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم؛ فإِنْ ماتَ الخارجُ مَاتَ مِيتةً جاهليَّةً، ولا يَحِلُّ قِتالُ السُّلطانِ ولا الخروجُ عليه لأحدٍ مِن النَّاس، فمَنْ فَعَلَ ذلك فهو مبتدعٌ على غيرِ السُّنَّة والطَّريقِ»؛ [«المسائل والرسائل» للأحمدي (٢/ ٥)]، وقال ابنُ تَيميَّةَ ـ رحمه الله ـ كما [في «مجموع الفتاوى» (٤/ ٤٤٤)]: «ولهذا كان مذهبُ أهلِ الحديث تَرْكَ الخروجِ بالقتال على المُلوك البُغاة والصَّبْرَ على ظُلمهم إلى أن يَستريحَ بَرٌّ أو يُستراحَ مِن فاجرٍ»؛ [وانظر: «الأحكام السُّلطانيَّة» للمَاوَرْدِي (٨)، «الأحكام السُّلطانيَّة» لأبي يَعْلَى (٢٢)، «تحرير الأحكام» لابن جماعة (٥٥)، «مَنْصِب الإمامةِ الكُبرى» للمؤلِّف (٢٠ ـ ٢٧)].

وهذا بخلاف ما عليه المعتزلةُ وأهلُ الأهواء، فلم يَعتبِرُوا طريقَ الاستيلاء بالقَهْر والغَلَبةِ مُوجِبًا لانعقادِ الإمامةِ بها، وتَرتُّبِ أحكامِها لِمَن وَلِيَ بطريق الغَلَبَةِ والإجبارِ، بل يرونَ جوازَ الخروجِ على أئمَّة المُسلمينَ وجماعتِهم، واستحلالَ قتالهم بدعوى الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكرِ، وتقريرًا لهذا المعنى قال ابنُ تيميةَ ـ رحمه الله ـ كما [في «مجموع الفتاوى» (٢٨/ ١٢٨)]: «ولهذا كان مِن أصول أهل السُّنَّة والجماعةِ: لزومُ الجماعةِ، وتركُ قِتالِ الأئمَّةِ، وتركُ القتالِ في الفتنةِ؛ وأمَّا أهلُ الأهواء ـ كالمعتزلة ـ فَيَرَوْنَ القتالَ للأئمَّةِ مِن أصولِ دِينهم، ويجعلُ المعتزلةُ أصولَ دِينهم خمسةً: «التوحيدَ» الذي هو سَلْبُ الصِّفات، و«العَدْلَ» الذي هو التَّكذيبُ بالقَدَرِ، و«المَنزلةَ بين المَنزلتين»، و«إنفاذَ الوَعيد»، و«الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المُنكرِ» الذي منه قتالُ الأئمَّةِ».

وقول المصنِّف ـ رحمه الله ـ: «لا حَقَّ لأحدٍ في أمرٍ مِن أمورِ الأُمَّة إلَّا بتَولِيةِ الأُمَّةِ» فليس مِن شَرْطِ ثُبوت الإمامة أن يكون كلُّ مسلمٍ مِن جُملةِ المُبايِعِينَ للإمامِ الأعظمِ، وإنَّما بيعةُ مَنْ حَضَر مِنْ أهلِ الحَلِّ والعَقْدِ تلزمُ كُلَّ واحدٍ ممَّن تَنْفُذُ فيه أوامرُه ونواهيه، فإنَّ المسلمين أُمَّةٌ واحدةٌ وجَسَدٌ واحدٌ، تربِطُهم العقيدةُ الإسلاميةُ وتَجمَعُهم الأُخوَّةُ الإيمانيَّةُ، وهم في الحقوقِ والحُرماتِ سواءٌ، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ: يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ»؛ [أخرجه أبو داودَ في «الجِهاد» (٣/ ١٨٣) بابٌ: في السَّرِيَّة تَرُدُّ على أهلِ العَسكَرِ، مِن حديث عمرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّه عبدِ الله بن عمرِو بن العاصِ رضي الله عنهما، والحديثُ صحَّحه الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (٧/ ٢٦٦)].

قال الشَّوكانيُّ ـ رحمه الله ـ [في «السَّيل الجرَّار» (٤/ ٥١٣)]: «قد أغنى اللهُ عن هذا النُّهوضِ وتجشُّمِ السَّفَر وقطعِ المَفاوِزِ بِبَيعَةِ مَن بايعَ الإمامَ مِن أهلِ الحَلِّ والعَقْدِ، فإنَّها قد ثبتت إمامتُه بذلك وَوَجَبَتْ على المسلمين طاعتُهُ، وليس مِن شَرْطِ ثبوتِ الإمامةِ أن يبايِعَهُ كُلُّ مَنْ يصلُح للمبايَعَةِ، ولا مِن شَرْطِ الطَّاعةِ على الرَّجُلِ أن يكونَ مِنْ جُملةِ المُبايِعِينَ، فإنَّ هذا الاشتِراطَ في الأَمرينِ مَردودٌ بإجماعِ المسلمينَ ـ أَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ، سَابِقِهِمْ وَلَاحِقِهِمْ ـ».