Skip to Content
الجمعة 19 رمضان 1445 هـ الموافق لـ 29 مارس 2024 م



الكلمة الشهرية رقم: ٥٧

الشبهة الثانية
إخراج القيام من مفهوم العبادة

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فأمَّا القولُ بأنَّ القيامَ لا يدخل في مفهومِ العبادة؛ لأنَّه مجرَّدٌ عن الصلاةِ والذِّكرِ وغيرِها مِنَ العبادات، وفرَّق بعضُهم بين تعظيمِ العبادةِ وتعظيمِ العادة، وألحق الوقوفَ وتحيَّةَ العَلَمِ بتعظيمِ العادة، ونفى جازمًا أَنْ يكونَ القيامُ مِنَ العبادة.

فإنَّه لا يخفى على طالبِ علمٍ، بَلْهَ عن عالمٍ أو مُفتٍ أنَّ مفهومَ العبادةِ أوسعُ مِنْ أَنْ يكونَ صلاةً أو ذِكرًا، وإنَّما العبادةُ اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما يُحبُّه اللهُ ويرضاه مِنَ الأقوالِ والأعمالِ الظاهرةِ والباطنةِ مع كمالِ المحبَّةِ والذلِّ والخضوعِ والبراءةِ ممَّا يُنافي ذلك ويُضادُّه؛ فهي بهذا المفهومِ شاملةٌ لكافَّةِ جوانبِ الحياةِ المختلفة، يصدق على هذا المعنى الشموليِّ قولُه تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٦٣[الأنعام].

وعليه فأنواعُ العبادةِ كثيرةٌ يمكن حصرُها في أربعِ مراتبَ:

الأولى: عباداتٌ قلبيةٌ.

منها: المحبَّةُ، والخوفُ، والرجاءُ، والإنابةُ، والخشيةُ، والرهبةُ، والرغبةُ، والتوكُّلُ، ونحوُ ذلك.

الثانيةُ: عباداتٌ قوليةٌ.

منها: الذِّكرُ، والاستغفارُ، والشهادةُ، والأذانُ، والاستعانةُ، والاستجارةُ، والجهادُ باللسان، والدعاءُ، والقسَمُ، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر، وصدقُ الحديث، ونحوُ ذلك.

الثالثةُ: عباداتٌ عمليةٌ.

منها: الصلاةُ، والصيامُ، والحجُّ، والسجودُ، والركوعُ، والقيامُ، والتمسُّحُ، والتقبيلُ، ورفعُ اليدين، ومظاهرُ الخضوعِ والخنوعِ والانكسار، والذبحُ، والجهادُ باليد، وبرُّ الوالدَيْن، وصِلَةُ الأرحام، ونحوُ ذلك.

الرابعةُ: عباداتٌ ماليةٌ.

كالزكاة، والصدقة، والذبيحة، والجهادِ بالمال، ونحوِ ذلك.

والمعلومُ أنَّ هذه الأنواعَ ـ على انفرادِها ـ عباداتٌ، سواءٌ كانت قلبيةً أو قوليةً أو عمليةً أو ماليةً، لكِنْ لا تتمُّ على الوجهِ الكاملِ الصحيحِ إلَّا باجتماعِ ثلاثةِ أعمالٍ قلبيةٍ، وهي أصولُ العبادة: المحبَّةُ والخوفُ والرجاءُ، والمحبَّةُ لا تتمُّ إلَّا بموالاةِ العبدِ ربَّه فيما يُحِبُّه اللهُ ويبغضُه؛ فهي محرِّكُ إرادةِ القلب، وكلَّما قَوِيَتْ طَلَب القلبُ فِعْلَ كُلِّ ما يدخل في وُسْعِ صاحبِه وقدرتِه، والخضوعُ لازمُ المحبَّة؛ فالمحبَّةُ المنفردةُ عن الخضوعِ لا تكون عبادةً: كمحبَّةِ العبدِ لولدِه أو لصديقِه أو للطعامِ والشراب، وبالعكس فالخضوعُ المجرَّدُ عن المحبَّةِ لا يكون عبادةً كمَنْ يخضع لأوامرِ قاطعِ طريقٍ أو لظالمٍ متجبِّرٍ اتِّقاءَ ظُلمِه وعدوانِه وشرِّه؛ فلا بُدَّ في العبادةِ مِنِ اجتماعِ المحبَّةِ والخضوعِ مع الأصلين السابقَيْن.

والقيامُ مِنْ حيث هو قيامٌ بغضِّ النظرِ عن المَقُومِ له إِنْ كان مصحوبًا بالمحبَّةِ مع الذلِّ والخضوعِ فهو عبادةٌ؛ قال تعالى:﴿وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ ٢٣٨[البقرة]، وقال تعالى: ﴿أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا[الزمر: ٩]، فإِنْ خَلَا مِنْ تلك المعاني لم يكن عبادةً.

وإذا ما أرَدْنا تحقيقَ المَناطِ في القيامِ للجمادات: مِنْ سيفٍ أو عَلَمٍ أو تمثالٍ مرفوعٍ أو محلِّ نارٍ مُلتهِبةٍ أو حَجَرٍ منصوبٍ ونحوِ ذلك؛ فإنَّنا نجد حقيقةَ القيامِ لها مُشْرَبًا بالمحبَّةِ التي يجسِّدها صنيعُ بعضِهم بوضعِ اليدِ اليمنى على القلبِ أثناءَ أداءِ تحيَّةِ العَلَمِ إشعارًا بالمحبَّةِ والولاءِ الوطنيِّ، والقائمون لها يُقْبِلون بوجوهِهم، خاشعةً أبصارُهم يوجِّهونها جميعًا للجماداتِ بمحبَّةٍ مصحوبةٍ بانكسارٍ وتركٍ للحركةِ وخشوعٍ وخضوعٍ وغيرِها مِنْ مظاهرِ الذلِّ والعبادةِ. وهذا بارزٌ للعيانِ لا يُحاجِجُ فيه إلَّا مُبْطِلٌ.

ولو سلَّمْنا ـ جدلًا ـ أنَّ القيامَ للجمادِ لا يدخل في مفهومِ العبادةِ وإنَّما هو داخلٌ في مفهومِ العادة؛ أفليسَتْ عادةُ اليهودِ والنصارى هذه قائمةً على غُلُوِّهم في العبادِ والجماد؟ أليستِ المشابهةُ للكُفَّارِ تدلُّ على استحسانِ الفاعلِ لمراسيمِهم وشعائرِهم الوثنيةِ؟ وقد جاء النصُّ صريحًا في النهيِ عن التشبُّهِ بالكُفَّارِ في قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»(١)، ويكفي اتِّباعَ سبيلِ المغضوبِ عليهم والضالِّين مَهْلكةً أنَّ التشبُّهَ بهم في الظاهرِ مُؤْذِنٌ بالتشبُّهِ بهم في الباطن، واللهُ المستعانُ.

والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.


 


(١) أخرجه أبو داود في «اللِّباس» بابٌ في لباس الشُّهرة (٤٠٣١)، وأحمد في «مسنده» (٥١١٤)، مِنْ حديثِ ابنِ عمررضي الله عنهما. وصحَّحه العراقيُّ في «تخريج الإحياء» (١/ ٣٥٩)، وحسَّنه ابن حجرٍ في «فتح الباري» (١٠/ ٢٧١)، والألبانيُّ في «الإرواء» (٥/ ١٠٩).