في حكمِ إثباتِ دخول الشهر بالحساب الفلكيِّ | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الثلاثاء 7 شوال 1445 هـ الموافق لـ 16 أبريل 2024 م

الفتوى رقم: ١٢٩٧

الصنف: فتاوى الصيام

في حكمِ إثباتِ دخول الشهر بالحساب الفلكيِّ

السؤال:

هل في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في رؤية الهلال ـ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»(١) دليلٌ على اعتبار الحساب الفلكيِّ في ثبوت الشهر، وما توجيهُكم في ذلك؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فقد اختلف العلماء في اعتبار الحساب الفلكيِّ وسيلةً مِنْ وسائلِ إثباتِ دخول الشهر ـ عند تعذُّر رؤية الهلال ـ: حيث ذهَبَ جمهورُ العلماءِ ـ مِنَ السَّلف والخلف(٢)ـ إلى عدمِ اعتباره، وتعليقِ دخول الشهر بالرؤية دون غيرها؛ خلافًا لِمَنْ يرى جوازَ الحسابِ الفلكيِّ، وهو قولٌ مرويٌّ عن مُطرِّف بنِ عبد الله، وبه قال أبو العبَّاس بنُ سُرَيْجٍ وابنُ قُتَيْبة وابنُ دقيقٍ وآخَرُون(٣)؛ اعتمادًا على تفسيرِ «التقدير» في الحديث بمَعْنَى: «قَدِّرُوهُ بحساب المَنازِل»، وللإجماع المُسْتَظْهَرِ به على أنَّ المحبوس في المطمورةِ إذا عَلِمَ ـ بإكمالِ العِدَّةِ أو بالاجتهاد بالأمارات ـ أنَّ ذلك اليومَ مِنْ رمضانَ وَجَبَ عليه الصومُ وإِنْ لم يَرَ الهلالَ ولا أَخْبَرَهُ مَنْ رآه، وكذلك إلحاقه على إثباتِ أوقات الصلوات بالحساب؛ فدَلَّ على أنَّ الحسابَ مُعْتَبَرٌ وأنَّ حقيقةَ الرؤيةِ لا تُشْتَرَطُ في لزوم الصوم، ولأنَّ الحسابَ إذا دَلَّ على أنَّ الهلال قد طَلَعَ في الأُفُقِ على وجهٍ يُرَى ـ لولا وجودُ المانعِ كالغيم ـ فإنَّ ذلك يقتضي وجوبَ الصيامِ؛ لوجود السبب الشرعيِّ وهو العلمُ بوجود الهلال.

والصحيح: المذهبُ الأوَّل؛ لأنَّ القول بالاعتماد على الحساب الفلكيِّ ـ بالرغم مِنْ ظنِّيَّته ـ قولٌ لا سَلَفَ له مِنَ الصحابة رضي الله عنهم، وهو مُخالِفٌ للنصوص القاضية باعتبارِ الرؤية البصريَّة بالإهلال أو بالإكمال؛ اعتبارًا للحقيقة غيرِ المظنونة المُتمثِّلةِ إمَّا في الرؤية الظاهرةِ للعيان وإمَّا في الإكمال باستصحابِ الأصل؛ إذ الأصلُ بقاءُ الشهرِ وكمالُه؛ فلا يُتْرَكُ هذا الأصلُ إلَّا ليقينٍ؛ تأسيسًا على قاعدةِ أنَّ: «مَا ثَبَتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ إِلَّا بِمِثْلِهِ»، ولأنَّ القول بالحساب الفلكيِّ ـ أيضًا ـ مُصادِمٌ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا»(٤)، وهذا الوصفُ ﺑ «الأُمِّيَّة» لهذه الأمَّةِ صفةُ مَدْحٍ وكمالٍ مِنْ جهةِ الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أَبْيَنُ منه وأَظْهَرُ وهو الهلالُ، وهو ـ بلا ريبٍ ـ اليقينُ الذي لا يدخله الغلطُ، بخلافِ النتائج الفلكيَّة القديمةِ والمُعاصِرة؛ فهي ظنِّيَّةُ الحسابِ لا تُفيدُ العلمَ اليقينيَّ؛ لقيامها على المَراصِدِ الصناعيَّة التي لا تخلو مِنَ الاختلاف والغلط والارتياب، والمُؤثِّرةِ على صلاحِيَتِه لإثباتِ دخول الشهر، فضلًا عن أنَّ المُعتبَرَ هو رؤيةُ الهلال، وليس إمكانَ رؤيَتِه ولا وجودَ الهلال في الأُفُق بعد الغروب، مع اختلاف الفلكيِّين في معيار الحكم بتوقُّع إمكانِ الرؤية، سواءٌ أكان بتقديرِ وجود السحاب أم بتقديرِ عدمِه؛ فيبقى الحسابُ أمرًا تقديريًّا اجتهاديًّا يدخله الغلطُ والاختلاف(٥)؛ لذلك كان الوصفُ بالأمِّيَّة في الحديثِ كاشفًا للواقع لا مفهومَ له، ولم يخرج مَخْرَجَ التعليلِ للحكم، فضلًا عن كونِ تعليقِ حُكْمِ الصوم وغيرِه بالرؤية  أحرى باليقين وأَظْهَرَ وأَيْسَرَ وأَسْهَلَ؛ تحقيقًا لدَفْعِ الحرج والمَشَقَّةِ عن الأمَّة؛ فالأمرُ بالصوم مُرْتَبِطٌ بأمورٍ ظاهرةٍ وأعلامٍ جَلِيَّةٍ يستوي في معرفتها أهلُ الحسابِ وغيرُهم.

كما أنَّ النصوصَ يُعمَل بمجموعها، والحديثَ ينبغي أَنْ يُؤخَذَ بمُختلفِ ألفاظِه، وبعضُها يُشْعِرُ بنفيِ تعليقِ الحكم بالحساب ـ أصلًا ـ في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ»(٦)، ولم يَكِلِ الأمرَ إلى أهل الحساب، ولو كان جائزًا لَأَرْشَدَ إليه، والحكمةُ فيه كونُ العدَدِ عند الإغماءِ يستوي فيه المُكلَّفون فيَرْتفِعُ الخلافُ والنزاعُ عنهم(٧)، وهذا يقتضي عدَمَ الأخذِ بالحساب الفلكيِّ الذي يقطع بتقديرِ الشهر مُسَبَّقًا ولسنواتٍ، الأمرُ الذي لا يَسَعُ القَطْعُ به إلَّا برؤيةِ الهلال أو بإكمالِ عِدَّةِ الشهر ثلاثين لتعلُّقِه بحكمٍ شرعيٍّ، والمعلوم أنَّ لِلفلكيِّين معاييرَ مُتضارِبةً للحكم بإمكانيَّة الرؤية، فضلًا عن أنها مجرَّدُ توقُّعاتٍ كثيرًا ما يأتي الواقعُ بخلافها، لذلك لا يسوغ التحوُّلُ مِنَ المقطوع بدلالته بحكم الشرع إلى المظنون، ومِنَ المُتَيَقَّنِ في نتيجته إلى المشكوك.

أمَّا إلحاقُه بالمحبوس في المطمورة فهو قياسٌ مع ظهور فارِقِ العُذر في المحبوس الواجبِ عليه الاجتهادُ في معرفةِ دخول الوقت والعملُ بما أدَّى إليه اجتهادُه، وإِنْ تَبيَّنَ خَطَؤُهُ بيقينٍ أعادَ، وليس الأمرُ كذلك في غيرِ المعذور عند حصول الغيم في المَطالِع فهو أمرٌ عاديٌّ خَلَا مِنِ اضطرارٍ، والسببُ الشرعيُّ للوجوب إنما هو رؤيةُ الهلالِ لا العلمُ بوجوده بالحساب الفلكيِّ؛ للأحاديث الصحيحة المُشْعِرَةِ بالحصر الذي يظهر في نَصْبِ الشارعِ الرؤيةَ سببًا للحكم بأوَّلِ الشهر؛ لذلك كان القياسُ ـ فضلًا عن فسادِه بالفرق ـ فاسِدَ الاعتبار ـ أيضًا ـ لمُخالَفتِه لهذه النصوصِ الصحيحة والصريحة.

ومِنْ زاويةِ فسادِ الاعتبار فلا يتمُّ القياسُ على إثباتِ أوقاتِ الصلوات بالحساب؛ لأنَّ مِنْ قوادِحِ القياسِ ومُفْسِداتِه مُصادَمتَه للنصِّ، كما أنَّ المَقِيسَ عليه يُشْتَرَطُ ثبوتُه بنصٍّ أو إجماعٍ، وذلك مُخْتَلَفٌ فيه وغيرُ ثابتٍ به، بالإضافة إلى أنَّ الحكم ينبغي أَنْ يكون معقولَ المعنى، وأوقاتُ الصلاةِ وعدَدُ الركعاتِ غيرُ معقولة المعنى؛ فلا يمكن أَنْ يَتعدَّى القياسُ إلى مَحَلٍّ آخَرَ غيرِه.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٦ ذي القَعدة ١٤٤٣هـ
المـوافق ﻟ: ١٦ جـــــــوان ٢٠٢٢م



(١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه بهذا اللفظِ البخاريُّ في «الصوم» باب: هل يقالُ: رمضان أو شهرُ رمضان؟ ومَنْ رأى كُلَّه واسعًا (١٩٠٠)، وبابُ قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا رأيتمُ الهلالَ فصوموا، وإذا رأيتموه فأَفطِروا» (١٩٠٦)، ومسلمٌ في «الصيام» (١٠٨٠)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما.

(٢) ونَقَلَ الباجيُّ ـ رحمه الله ـ إجماعَ السلفِ الصالح على ذلك، [انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٢٧)].

(٣) انظر: «شرح عمدة الأحكام» لابن دقيق العيد (٢/ ٢٠٦)، «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٢٢).

(٤) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الصوم» (١٩١٣) بابُ قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا نكتب ولا نَحْسُب» ، ومسلمٌ في «الصيام» (١٠٨٠)، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما.

(٥) انظر ظنِّيَّةَ الحساب الفلكيِّ في: «فقه النوازل» لبكر أبو زيد (١٧٠).

(٦) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الصوم» بابُ قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا رأيتم الهلالَ فصوموا، وإذا رأيتموه فأَفْطِروا» (١٩٠٧)، ومسلمٌ في «الصيام» (١٠٨٠)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما. ولفظ مسلمٍ: «فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ».

وأخرجه النسائيُّ في «الصيام» (٢١٢٤، ٢١٢٥)، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(٧) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ١٢٧)، «سُبُل السلام» للصنعاني (٢/ ٣١١).