«التصفيف العاشر: بيانُ معنى الإيمان (٤)» | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الخميس 9 شوال 1445 هـ الموافق لـ 18 أبريل 2024 م

العقائد الإسلامية
مِنَ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

للشيخ عبد الحميد بنِ باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)

بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ

«التصفيف العاشر: بيانُ معنَى الإيمان (٤)»

الثَّامِنُ وَالعِشْرُونَ: [التصديق يقوى ويضعف]

التَّصْدِيقُ الَّذِي هُوَ الجُزْءُ الأَصْلِيُّ فِي الإِيمَانِ يَقْوَى وَيَضْعُفُ، يَقْوَى بِالنَّظَرِ فِي الآيَاتِ الكَوْنِيَّةِ، وَالتَّدَبُّرِ فِي الآيَاتِ السَّمْعِيَّةِ، وَالتَّقَرُّبِ بِالعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ(١)



(١) ذَكَر المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ أنَّ التصديقَ بالقلب والإقرارَ به هو الجزءُ الأصليُّ في الإيمان؛ لأنه بزواله لا تنفع أجزاءُ الإيمان باتِّفاق المسلمين، أمَّا زوالُ عملِ القلب فأهلُ السُّنَّة مُجْمِعون على زواله خلافًا للمُرْجِئة ـ كما تقدَّم ـ، والقلبُ هو الأصلُ ورأسُ الأمر، وأعمالُه يُشترَطُ ـ في قَبولها ـ الإخلاصُ فيها لله تعالى وهو عملٌ قلبيٌّ، بل هي مِنْ أهمِّ المطالب؛ إِذْ لا تُقْبَلُ الأعمالُ الظاهرةُ إِنْ خَلَتْ مِنَ الأعمال القلبية، ولا عِبْرةَ بصلاح الظاهر مع فساد الباطن؛ لقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» [أخرجه البخاريُّ في «الإيمان» (١/ ١٢٦) بابُ فضلِ مَنِ استبرأ لدِينه، ومسلمٌ في «المساقاة» (١١/ ٢٧) بابُ أخذِ الحلال وتركِ الشُّبُهات، مِنْ حديثِ النعمان بنِ بشيرٍ رضي الله عنهما].

لذلك وَجَب على المسلم العنايةُ بإصلاحِ باطنه بتطهير قلبه ممَّا يُدنِّسُه مِنَ الآفات والمكروهات، وعمارتِه بمحبَّة الله عزَّ وجلَّ ومحبَّةِ ما يحبُّه اللهُ عزَّ وجلَّ، والعملِ على تقوية إيمانه، والخشيةِ مِنْ كُلِّ ما يُباعِدُ منه.

ثمَّ بيَّن المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ أنَّ الله تعالى جَعَل للإيمان أسبابًا كثيرةً تزيده وتقوِّيه، ومَظاهِرَ تجلبه وتنمِّيه، منها:

النظر في الآيات الكونية: ممَّا خَلَقه اللهُ سبحانه في السماوات والأرض؛ فإنَّ تدبُّرها وإمعانَ النظر فيها مِنْ أعظمِ ما يعود على الإنسان بالنَّفع في تقوية إيمانه وتثبيته؛ ولذلك رغَّب اللهُ سبحانه عبادَه ـ في كتابه الكريم ـ في التأمُّل في آياته الكونية الدالَّة على وحدانيةِ الخالق وتفرُّده وقدرتِه ومشيئتِه وعِلْمِه وكرمِه ولُطفِه وكماله سبحانه، وقد نَدَب إلى النظر والتفكُّر ليزدادَ العبدُ حبًّا لله وتعظيمًا وإجلالًا وطاعةً له وانقيادًا إليه وخضوعًا له وملازمةً لذِكْرِه، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠ ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ١٩١[آل عمران]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ١٦٤[البقرة]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ءَايَتَيۡنِۖ فَمَحَوۡنَآ ءَايَةَ ٱلَّيۡلِ وَجَعَلۡنَآ ءَايَةَ ٱلنَّهَارِ مُبۡصِرَةٗ لِّتَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡ وَلِتَعۡلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلۡحِسَابَۚ وَكُلَّ شَيۡءٖ فَصَّلۡنَٰهُ تَفۡصِيلٗا ١٢[الإسراء]، وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلۡإِبِلِ كَيۡفَ خُلِقَتۡ ١٧ وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ رُفِعَتۡ ١٨ وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَيۡفَ نُصِبَتۡ ١٩ وَإِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَيۡفَ سُطِحَتۡ ٢٠[الغاشية].

فالنظرُ في آياته ومفعولاتِه الدالَّةِ على عَظَمة خالقِها وعظمةِ سلطانه وشمولِ قدرته وما فيها مِنَ الإحكام والإتقان، وبديعِ الصنيع ولطائف الفعل، مِنْ أعظم ثمراته ما ينعكس على القلب بتعلُّقه بخالقه البديع، ومحبَّتِه وشُكْرِه وتعظيمه، وبذلِ الجهد في مَرْضاته وعدمِ الإشراك به، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«مفتاح دار السعادة» (٢/ ٥)]: «وإذا تأمَّلْتَ ما دَعَا اللهُ سبحانه في كتابه عبادَه إلى الفكر فيه أوقعك على العلم به سبحانه وتعالى، وبوحدانيته، وصفاتِ كماله، ونعوتِ جلاله، مِنْ عموم قدرته وعلمه، وكمالِ حكمته ورحمته، وإحسانِه وبِرِّه، ولُطفِه وعدله، ورِضاهُ وغضبِه، وثوابِه وعقابِه؛ فبهذا تَعَرَّفَ إلى عباده ونَدَبهم إلى التفكُّر في آياته».

والمصنِّف ـ رحمه الله ـ بعدما تعرَّض إلى أسبابِ زيادة الإيمان وثباتِه بالتفكُّر في آياته المرئية المشهودة، ذَكَر:

التدبُّرَ في آياته المسموعة والتفكُّرَ فيها، وهو على نوعين على ما قال ابنُ القيِّم في [«مفتاح دار السعادة» (١/ ٥٥٤)]: «تفكُّرٌ فيه ليقَعَ على مراد الربِّ تعالى منه، وتفكُّرٌ في معاني ما دعا عبادَه إلى التفكُّر فيه، فالأوَّل: تفكُّرٌ في الدليل القرآنيِّ، والثاني: تفكُّرٌ في الدليل العِيانيِّ، الأوَّل: تفكُّرٌ في آياته المسموعة، والثاني: تفكُّرٌ في آياته المشهودة؛ ولهذا أنزل اللهُ القرآنَ ليُتدبَّر ويُتفكَّر فيه ويُعْمَلَ به، لا لمجرَّدِ تلاوته مع الإعراض عنه».

وقراءة القرآن وتدبُّرُ آياتِه السمعية مِنْ أسبابِ تقويةِ الإيمان وتنميته، وقد جَعَله اللهُ مبارَكًا وهدًى ورحمةً للعالَمِين، وبُشرَى وذِكْرَى للذاكرين، يهدي للَّتي هي أقومُ، ويَشفي مِنَ الأسقام وأمراضِ القلوب مِنْ شُبُهاتٍ وشَهَواتٍ؛ قال تعالى: ﴿وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ ٨٩[النحل]، وقال تعالى: ﴿وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ١٥٥[الأنعام]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا ٩[الإسراء]، وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا ٨٢[الإسراء].

وقد أَمَر اللهُ تعالى عبادَه بالعناية بالقرآن الكريم حفظًا وتلاوةً وعلمًا وسلوكًا، وحثَّهم على تدبُّره، وأخبرهم أنه يزيد في إيمانهم إذا قرؤوه وتدبَّروا معانيَه، وعاتَبَ كُلَّ مَنْ لم يخشع مِنَ المؤمنين عند سماع القرآن، وحذَّرهم مِنْ مُشابَهةِ الكفَّار في تركهم لذِكْرِ الله تعالى حتَّى قَسَتْ قلوبُهم، قال تعالى: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٢٩[ص]، وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ ٢٤[محمَّد]، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٨٢[النساء]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ ٢[الأنفال]، وقال تعالى: ﴿ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ ٢٣[الزُّمَر]، وقال تعالى: ﴿أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ ١٦[الحديد].

هذا، وإنما يرفع اللهُ بالقرآن الكريم ويزيدُ به إيمانُ مَنِ اعتنى بقراءته وتدبُّره وفهمِ معانيه وكيفيةِ الاستفادة منه، وعَمِلَ بمُقتضاه؛ فإنه يتمُّ لهذا المعتني النفعُ به ويكون حجَّةً له، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» [رواه مسلمٌ في «صلاة المسافرين» (٦/ ٩٨) بابُ فضلِ مَنْ يقوم بالقرآن ويعلِّمه، وابنُ ماجه في «المقدِّمة» (١/ ٧٩) بابُ فضلِ مَنْ تَعلَّمَ القرآنَ وعلَّمه، والدارميُّ في «فضائل القرآن» (٢/ ٤٤٣) باب: إنَّ الله يرفع بهذا القرآنِ أقوامًا، مِنْ حديثِ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه]. وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وَالقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» [أخرجه مسلمٌ في «الطهارة» (٣/ ١٠٠) بابُ فضلِ الوضوء، والترمذيُّ في «الدَّعَوات» (٥/ ٥٣٥)، والنسائيُّ في «الزكاة» (٥/ ٥) بابُ وجوبِ الزكاة، مِنْ حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ رضي الله عنه].

قال الآجُرِّيُّ ـ رحمه الله ـ في [«أخلاق حَمَلة القرآن» (١٠)]: «ومَنْ تدبَّر كلامَه عَرَف الربَّ عزَّ وجلَّ، وعَرَفَ عظيمَ سلطانِه وقدرتِه، وعظيمَ تفضُّله على المؤمنين، وعَرَف ما عليه مِنْ فرضِ عبادته؛ فأَلْزَمَ نَفْسَه الواجبَ، فحَذِر ممَّا حذَّره مولاه الكريمُ، فرَغِب فيما رغَّبه، ومَنْ كانَتْ هذه صِفَتَه عند تلاوته للقرآن وعند استماعه مِنْ غيره كان القرآنُ له شفاءً؛ فاستغنى بلا مالٍ، وعزَّ بلا عشيرةٍ، وأَنِسَ ممَّا يستوحش منه غيرُه، وكان همُّه عند التلاوةِ للسورة إذا افتتحها: «متى أتَّعِظُ بما أتلو؟»، ولم يكن مُرادُه: «متى أختم السورةَ؟»، وإنما مُرادُه: «متى أعقل عن الله الخطابَ؟ متى أَزدجِرُ؟ متى أَعتبِرُ؟»؛ لأنَّ تلاوةَ القرآنِ عبادةٌ لا تكون بغفلةٍ، واللهُ الموفِّق لذلك».

ثمَّ ذَكَر المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ أنَّ مِنْ أسبابِ تقويةِ الإيمانِ وزيادتِه: التقرُّبَ بالعبادات الشرعية، سواءٌ كانَتْ باطنةً أو ظاهرةً، وهذه العبوديةُ الشرعيةُ مُنقسِمةٌ على:

القلب: كالإخلاص والمحبَّة والتوكُّل والإنابة والخوف والرجاء والخشية والرضى والصبر وغيرها مِنَ الأعمال القلبية التي هي رأسُ الأمرِ وأساسُ الأعمال الظاهرة ـ كما تقدَّم ـ؛ إذ صلاحُ حركاتِ العبد الظاهرةِ متوقِّفٌ على صِفَةِ حركاتِ قلبه، ولا ينفعه عند اللهِ إلَّا إذا كان قلبُه سليمًا مِنْ كُلِّ ما يُعكِّره مِنَ الآفات والأمراض والشُّبُهات والمكروهات، وكُلِّ ما يُباعِدُ عن الله تعالى، ليس في قلبه إلَّا محبَّةُ الله تعالى ومحبَّةُ ما يحبُّ، قال تعالى: ﴿يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَالٞ وَلَا بَنُونَ ٨٨ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡبٖ سَلِيمٖ ٨٩[الشُّعَراء].

واللسان: كالنطق بالشهادة والذِّكْرِ مِنْ تلاوة القرآن، والتسبيحِ والتحميد، والتكبيرِ، والاستغفار، والأذان، وغيرِها ممَّا وَرَد الحثُّ على الإكثار منه بالنصوص الشرعية وتَبيَّنَ فضلُه، قال تعالى: ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ ٢٨[الرعد]، وقال تعالى: ﴿وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا ٣٥[الأحزاب]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ ٢[الأنفال]، وقال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ[الأنفال: ٤٥؛ الجمعة: ١٠]، وقال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ[آل عمران: ١٩١]، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «سَبَقَ المُفَرِّدُونَ»، قَالُوا: «وَمَا المُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟» قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» [أخرجه مسلمٌ في «الذِّكْر والدعاء والتوبة والاستغفار» (١٧/ ٤) باب الحثِّ على ذِكْرِ الله تعالى، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ» [أخرجه البخاريُّ في «الدعوات» (١١/ ٢٠٨) باب فضلِ ذِكْرِ الله عزَّ وجلَّ، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين» (٦/ ٦٨) بابُ استحبابِ صلاةِ النافلة في البيت، مِنْ حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» [أخرجه البخاريُّ في «التوحيد» (١٣/ ٣٨٤) بابُ قولِ الله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥ[آل عمران: ٢٨، ٣٠]، ومسلمٌ في «الذِّكْرِ والدعاء والتوبة والاستغفار» (١٧/ ٢ ـ ٣) باب الحثِّ على ذِكْرِ الله تعالى، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه].

والجوارح: كالوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحجِّ والجهاد وغيرها مِنْ أعمال الجوارح التي أَمَرَ اللهُ تعالى عِبادَه بها ونَدَبهم إليها، وهي مِنْ أعظمِ أسبابِ زيادة الإيمان وتقويتِه، قال تعالى: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ ٣ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَٰعِلُونَ ٤ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٥ إِلَّا عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَيۡرُ مَلُومِينَ ٦ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٧ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِأَمَٰنَٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَٰعُونَ ٨ وَٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَوَٰتِهِمۡ يُحَافِظُونَ ٩ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡوَٰرِثُونَ ١٠ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ١١[المؤمنون]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يرويهِ عن ربِّه ـ تَبارَك وتعالى ـ: «... وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا» [أخرجه البخاريُّ في «الرِّقاق» (١١/ ٣٤٠) باب التواضع، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه].

هذا، والمصنِّف ـ رحمه الله ـ أشار إلى ما يقوِّي الإيمانَ مِنَ النظر في الآيات الكونية، والتدبُّرِ في الآيات السمعية، والتقرُّبِ بالعبادات الشرعية، وهي ثلاثةُ أسبابٍ ذَكَرها تمثيلًا لا حصرًا، حيث يُضيفُ العلماءُ إليها أسبابًا أخرى نُجْمِلها في النقاط التالية:

تعلُّم العلم الشرعيِّ وتحصيلُه والعمل بمقتضاه؛ لأنَّ التوفيق للفقه في الدِّين مِنْ أعظمِ أسبابِ زيادة الإيمان، والمرادُ بالعلم الشرعيِّ هو الذي يُفيدُ ما يجب على المكلَّف معرفتُه مِنْ أمرِ دِينِه، ومعرفةِ خالِقِه سبحانه وصفاتِه، وما يجب له مِنَ القيام بأمرِه، وتنزيهِه عن النقائص. ومِنَ النصوص الشرعية المبيِّنة لمنزلةِ العلم ومكانةِ أهله: قولُه تعالى: ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ ١١[المجادلة]، وقولُه تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ٢٨[فاطر]، وقولُه تعالى: ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ١٨[آل عمران]، وقولُه تعالى: ﴿وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤۡمِنُواْ بِهِۦ فَتُخۡبِتَ لَهُۥ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٥٤[الحج]، وقولُه: ﴿فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ[محمَّد: ١٩]، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [أخرجه البخاريُّ في «العلم» (١/ ١٦٤) باب: مَنْ يُرِدِ اللهُ به خيرًا يفقِّهه في الدِّين، ومسلمٌ في «الزكاة» (٧/ ١٢٨) باب النهي عن المسألة، مِنْ حديثِ معاوية بنِ أبي سفيان رضي الله عنهما].

مجالسةُ الصالحين مِنْ أهل الإيمان والعلم والتقوى المتَّبِعين للسُّنَّة المُلْتزِمين بهديِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قولًا وفعلًا؛ فإنَّ مجالَستَهم والانتفاعَ بعلمهم ودعائِهم، والاستماعَ إلى وعظِهم ونصائحهم في الترغيب في طاعة الله وطاعةِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، والتحذيرِ مِنَ الوقوع في المعاصي والذنوبِ والأضرار، والإرشادِ إلى مَكارمِ الأخلاق والآدابِ الحسنة، ومُشاهَدةَ أعمالِهِم الصالحة، فضلًا عن توجيههم إلى الإعانة على فعلِ الخيرات، وتذكيرِهم بوعد الله لأوليائه ووعيده لأعدائه، وغيرِ ذلك مِنْ أسبابِ حصولِ النفع وزيادةِ الإيمان، كُلُّ ذلك هو ثمرةٌ طيِّبةٌ متولِّدةٌ مِنْ صحبتِهم والاختلاطِ بهم والاجتماعِ معهم. وفوائدُ صحبةِ الأخيارِ غيرُ حاصلةٍ أبدًا في صحبة الأشرار، قال تعالى: ﴿وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥ[الكهف: ٢٨]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» [أخرجه أبو داود في «الأدب» (٥/ ١٦٧) بابُ مَنْ يُؤمَر أَنْ يجالس، والترمذيُّ في «الزهد» (٤/ ٦٠٠) بابُ ما جاء في صحبة المؤمن، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه. وهو حديثٌ حَسَنٌ كما في «صحيح الجامع» للألباني (٦/ ١٥٨) برقم: (٧٢١٨)]. قال الخطَّابيُّ ـ رحمه الله ـ في [«معالم السنن» (٥/ ١٦٨)]: «وإنما حذَّر مِنْ صُحبةِ مَنْ ليس بتقيٍّ، وزَجَر عن مخالَطتِه ومؤاكَلته؛ فإنَّ المطاعَمةَ تُوقِعُ الأُلْفةَ والمودَّةَ في القلوب».

العمل على إدراك عِظَمِ الدِّين الإسلاميِّ وجلالِ محاسنه: بالتمعُّن في شرائعه وأحكامه وأعماله، والتأمُّلِ في عقائده وأخلاقه وآدابه؛ لكونه سبيلَ اطمئنانِ القلب وتذوُّقه لحلاوة الإيمان؛ فيتزيَّنُ الباطنُ بحقيقة الإيمان فيزيدُه تمسُّكًا بأصوله وثباتًا على عقيدته، ويتزيَّنُ الظاهرُ بأعمال الإيمان فيزيدُه طاعةً، قال تعالى ـ ممتنًّا على خيارِ خَلْقِه ـ: ﴿وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ[الحُجُرات: ٧]، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«مفتاح دار السعادة» (٢/ ٣٤٣)]: «والمقصودُ أنَّ خواصَّ الأُمَّةِ ولُبابَها لمَّا شَهِدَتْ عقولُهُم حُسْنَ هذا الدِّينِ وجلالَتَه وكمالَه، وشَهِدَتْ قُبْحَ ما خالفه ونَقْصَه ورداءتَه؛ خالَطَ الإيمانُ به ومحبَّتُهُ بشاشةَ قلوبهم؛ فلو خُيِّرَ بين أَنْ يُلْقى في النار وبين أَنْ يختارَ دِينًا غيرَه لَاختارَ أَنْ يُقْذَف في النَّارِ وتُقَطَّعَ أعضاؤه ولا يختار دِينًا غيرَه. وهذا الضربُ مِنَ الناس هم الذين استقرَّتْ أقدامُهم في الإيمان، وهم أبعدُ الناسِ عن الارتداد عنه، وأحقُّهم بالثَّبات عليه إلى يومِ لقاءِ الله».

دراسةُ سيرةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وسُنَّتِه، ومُختلفِ معامَلاتِه مع أزواجه وأصحابِه وأقربائِه وعمومِ المؤمنين، والتأمُّلُ في نعوته الشريفة وخِصالِه الكريمة وشمائلِه الحميدة، وما يتمتَّع به مِنْ رفيعِ الأخلاق وحَسَنِ الآداب، وقد أثنى اللهُ تعالى عليه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ ٤[القلم]، ووصَفَه سبحانه بقوله: ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨[التوبة]؛ فإنَّ المتأمِّلَ في سيرةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسلوكِه وأخلاقِه يُورِثُه زيادةَ محبَّتِه، وهي زيادةٌ في الإيمان تدفعه إلى تجريد المتابَعةِ له وتحقيقِها بالقول والعمل، ينتج عنها استقامةٌ في الدِّين وصلاحٌ في العمل، وهو مِنْ أعظم سُبُلِ الهداية؛ إذ إنَّ معرفتَه تُوجِبُ للعبد المبادَرةَ للإيمان به، هذا في حقِّ مَنْ لم يؤمن به، وزيادةَ إيمانِ مَنْ آمَنَ به، قال تعالى: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ٢١[الأحزاب]، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«مفتاح دار السعادة» (٢/ ٣٤٢)]: «ومنهم مَنْ يهتدي بمعرفته بحاله صلَّى الله عليه وسلَّم، وما فُطِرَ عليه مِنْ كمال الأخلاق والأوصاف والأفعال، وأنَّ عادة الله أَنْ لا يُخْزِيَ مَنْ قامَتْ به تلك الأوصافُ والأفعال؛ لِعِلْمه بالله ومعرفته به، وأنه لا يُخْزي مَنْ كان بهذه المَثابة، كما قالَتْ أُمُّ المؤمنين خديجةُ رضي الله عنها له صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَبْشِرْ؛ فَوَاللهِ لَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيفَ، وتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ» [أخرجه البخاريُّ في «بدء الوحي» (١/ ٢٢) باب: كيف كان بدءُ الوحيِ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ ومسلمٌ في «الإيمان» (٢/ ١٩٧) بابُ بدءِ الوحي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها]».

الدعوة إلى الله تعالى بما تَحصَّلَ عليه مِنْ علوم الدِّين، والالتزامُ بشرائعه، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنْكَر، والنصحُ للمسلمين، مع التواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر، والْتزام أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة، والرِّفق والصبر على المدعوِّين، مع بصيرةٍ تامَّةٍ بما يدعوهم إليه، مُتَّخِذًا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قدوةً له في الدعوة، بفهمِ حَمَلةِ هذا الدِّين مِنْ هُدَاةِ الأنام وحُمَاة الإسلام، أهلِ المواقف والمَشاهِد العِظام: صحابتِه الكِرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين، الذين خاطَبَهم اللهُ بقوله: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ[آل عمران: ١١٠]، ومَنْ سَلَكَ سبيلَهم واقتفى آثارَهم مِنْ دُعَاةِ الهدى ومصابيحِ الدُّجى؛ فإنَّ القيام بالدعوة على هذا الوجهِ والاتِّصافَ بأخلاقهم وسلوكهم ودعوتِهم لَهي مِنْ أعظمِ بَرَكةِ الداعيةِ في لقائه والاجتماع به، ذلك النفعُ العظيمُ الذي تنعكس ثمراتُه بزيادةِ إيمانه وإيمانِ المدعوِّين، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في [«رسالةٍ إلى كُلِّ مسلم» (٥/ ٦)]: «ومِنْ بَرَكةِ الرَّجُل: أَنْ يكون مُعلِّمًا للخير، داعيًا إلى الله، مذكِّرًا به، مرغِّبًا في طاعته، ومَنْ خَلَا مِنْ هذا فقَدْ خَلَا مِنَ البَرَكة ومُحِقَتْ بَرَكةُ لقائِه والاجتماعِ به».

ـ يُتْبَع ـ

الجزائر في: ١٥ ذو القعدة ١٤٢٨ﻫ
المـوافق ﻟ: ٢٥ نوفمبر ٢٠٠٧م