مقدِّمة | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



مقدِّمة

إنَّ الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه،.وصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين إلى يوم الدِّين. أمَّا بعد:

فإنَّ الحافظ أبا الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة (٤٧٤ﻫ) أحد قادة الفكر الأندلسي الذين بلغوا ذروة المجد العلمي والنبوغ الفكري في القرن الخامس الهجري، قد أسهم في إثراء وتعزيز الثروة العلمية العظيمة بما تركه من آثار علمية قيِّمة، نافعةٍ جليلةٍ، جمعت بين الرواية والدراية، والمنقول والمعقول، فبرع في القرآن والحديث وعلومهما، والفقه وأصوله، والعربية وقواعدها، والعقليات وغوامضها، فكان خبيرًا بها، قادرًا على التأليف فيها، ومن مصنَّفاته الأصولية: كتابه المختصر الموسوم ﺑ «الإشارة في معرفة الأصول، والوجازة في معنى الدليل»، ومن خلال مضامين كتابه يظهر تأثُّره بشيخه الأصولي الفقيه: أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي الشافعي المتوفى سنة (٤٧٦ﻫ) في مسائل تعرَّض لها في كتبه الأصولية والجدلية، مثل: «التبصرة» و«شرح اللمع» و«المعونة في الجدل»، كما هو الحال في اصطلاح: «لحن الخطاب» و«فحوى الخطاب» و«إطلاقه لفظ الراوي» وغيرها، كما اعتمد على كتبه في نقل الآراء الأصولية للمذهب الشافعي، وعلى كتب شيخه الفقيه القاضي: أبي جعفر محمَّد بن أحمد السمناني المتوفى سنة (٤٤٤ﻫ) في نقل اجتهادات المذهب الحنفي، وأفاد المؤلِّف ـ أيضًا ـ من كتاب «التقريب» في أصول الفقه للقاضي: أبي بكر محمَّد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة (٤٠٣ﻫ) في مسائل عديدة منها: «الأوامر والنواهي» و«العموم والخصوص»، و«أفعال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم»، ومسائل أخرى، وقد كان للمصنِّف رأيٌ مع الاجتهادات التي يوردها، فإن حصل توافق مع رأيه أخذ بها وإلَّا ناقشها وفنَّدها، لذلك جاء كتاب «الإشارة» لأبي الوليد الباجي -رحمه الله- على صغر حجمه واختصاره مستوعبًا لمعلومات أصولية نفيسة، مفيدة للمبتدئ والباحث، راعى المؤلِّفُ فيه التيسيرَ والتسهيل، واختصره من كتابه المفصَّل في الأصول الموسوم ﺑ «إحكام الفصول في أحكام الأصول» فأشار فيه إلى أهمِّ أبواب أصول الفقه، وأوجز العبارة في إيراده لمعاني الأدلة سواء النقلية منها أو العقلية بإيجاز غير مخلٍّ، تسهيلًا للفهم، وتمكينًا للقارئ من تحصيل المراد منه دون عناء ولا نَصَب، مكتفيًا بذكر الأقوال في المسائل الأصولية المطروحة، لذلك سماه «الإِشَارَة فِي مَعْرِفَةِ الأُصُولِ، وَالوِجَازَة فِي مَعْنَى الدَّلِيلِ»، فكانت عبارة المصنِّف علمية دقيقة سلسة، بعيدة عن التعقيد اللفظي والتعصُّب المذهبي، ولم يسلك فيه المصنِّف نهج المقارنة بين الآراء الأصولية المتعارضة بإيراد أدلتها ثمَّ مناقشتها ونقضها، وإبراز الراجح منها كما هو صنيعه في الأصل إلَّا نادرًا، فتراه يبيِّن ما ترجَّح عنده من الآراء الأصولية المالكية مدعِّمًا ترجيحَه بالحُجَّة النقلية والعقلية، وتارة يكتفي بدليل نقلي أو عقلي.

أمَّا التعريفات الاصطلاحية الواردة في النصِّ فقد استقاها كلَّها من كتابه: «الحُدود في أصولِ الفقه» كما يظهر ـ أيضًا ـ رجوع المؤلِّف إلى كتابه في الجدل المسمَّى: ﺑ «تفسير المنهاج في ترتيب الحجاج»، فقد أفاد منه مسائل عديدة منها: «باب الترجيح» بمُعظم فصوله.

واقتصر المصنِّف في مؤلَّفه على أقوال وآراء علماء المذاهب الثلاثة: الحنفي والمالكي والشافعي من غير أن يتعرَّض للمذهب الحنبلي، ولعلَّ اقتصاره هذا كان نتيجة اطِّلاعه على الاجتهادات الأصولية لعلماء المذاهب الثلاثة من خلال تَتَلْمُذِهِ على شيوخه من الحنفية والمالكية والشافعية.

وجاء كتاب «الإشارة» حافلًا بجملة من أقوال علماء المالكية ممَّن لم تنل اجتهاداتهم حظَّها من الطباعة والنشر، أمثال: القاضي أبي إسحاق إسماعيل ابن إسحاق البصري المتوفى سنة (٢٨٢ﻫ)، وأبي الفرج عمرو بن محمَّد ابن عمرو الليثي البغدادي المتوفى سنة (٣٣١ﻫ)، وأبي بكر محمَّد بن عبد الله ابن محمَّد بن صالح الأبهري المتوفى سنة (٣٧٥ﻫ)، وأبي الحسن علي بن عمر ابن أحمد الشهير بابن القصَّار المتوفى سنة (٣٩٨ﻫ)، وأبي محمَّد عبد الوهاب ابن علي بن نصر بن أحمد التغلبي المتوفى سنة (٤٢٢ﻫ)، وأبي عبد الله محمَّد بن أحمد ابن عبد الله بن خويز منداد البصري المتوفَّى في (أواخر القرن الرابع الهجري)، وغيرهم من أعلام المالكية المعروفين بالإجادة والإتقان في علم أصول الفقه وغيره من علوم الشريعة، بغض النظر عن أئمَّة المذاهب الأخرى.

وضِمن الاهتمام بمضامين كتاب «الإشارة» فلا أعلم من تناوله بالشرح والتوضيح إلَّا ما ذكره لسان الدِّين بن الخطيب في ترجمته لمحدث الأندلس: أبي جعفر بن الزبير الثقفي(١)، حيث عدَّ من جملة مصنَّفاته المفيدة «شرح الإشارة للباجي في الأصول»(٢)، وما ذكره السخاوي في «الضوء اللامع» في ترجمته لأبي العباس أحمد حلولو القروي(٣)، وهذان الشرحان ـ حاليًّا ـ في حكم المعدوم إذ لم يصل إلينا منهما شيء.

هذا، وكتاب «الإشارة في معرفة الأصول» قد تناولته ـ فيما مضى ـ بالدراسة والتحقيق في محاولةٍ لإخراجه على صورةٍ قريبةٍ من الصورة التي وضعها المصنِّف، وقد سلكت فيه خطوات منهجية متمثِّلة في القسم الدراسي أوَّلًا، حيث رتَّبت فيه الخِطَّة على مقدّمة شاملة لأهمِّية ما يتضمَّنه الكتاب من قِيمةٍ علميةٍ مع الإشادة بمكانة المصنِّف العلمية، وبسطت منهجي في الكتاب، ثمَّ مهَّدت لترجمة أبي الوليد الباجي -رحمه الله- وحياته العلمية بتمهيد بيَّنت فيه ـ باختصار ـ الوضع السياسي في القرن الخامس الهجري بالأندلس ـ وهو عصر ملوك الطوائف الذي عاش فيه الإمام الباجي -رحمه الله- ـ وانعكاساته السلبية على الوضع الاجتماعي المتردِّي لِأَصِلَ إلى ذِكْرِ بعضِ ملامحِ الواقع العلمي وعوامل الازدهار الفكري.

وفي القسم التحقيقي تجسَّد عملي باتباع خطوات منهجية، لا تخرج في الجملة عمَّا يسلكه أهلُ التحقيق في مناهجهم الحديثة في تحقيق التراث الإسلامي وغيره، وختمتُ الكتابَ بإعداد فهارسَ فَنِّيةٍ عِلميةٍ عامَّةٍ للكتاب تسهيلًا للرجوع إليه، ولم أدَّخر وُسْعًا فيه لينال حظَّه من الدراسة والتحقيق، والحمد لله الذي سهَّل لإخراجه ويسَّر لطبعه عِدَّة طبعات داخل الجزائر وخارجها.

ومن أيام التحقيق وأنا تشدُّني رغبة مُؤكَّدة في الشرح والتعليق على بعض جوانب محتوى الكتاب على ما تضمَّنه من معلومات وقواعد أصولية نافعة، غير أنَّ الهِمَّةَ به فترت لأسباب أو لأخرى، لولا إلحاح بعض إخواني الذين نحسبهم من أهل الحِرص على دراسة كُتب التراثِ وتحصيلِ منافعها، دفعني إلى الاهتمام بالشرح والتعليق على الجوانب التي تحتاج إلى شرح وتوضيح ممَّا لا يحتويه كتابه «إحكام الفصول في أحكام الأصول»، وممَّا قوَّى استجابتي لطلبهم ما وقفت عليه من ملاحظات عامَّة على منهجية المصنِّف في هذا الكتاب كإدراجه الفصل المتعلِّق ﺑ «التعارض والترجيح» في «باب العموم وأقسامه»، إذ لا يخفى ما جرت به عادةُ علماءِ الأصولِ عند تَعَرُّضِهم لمسألة التعارض والترجيح بوضعها في باب مستقلٍّ ويجعلونها مع أواخر المباحث الأصولية الذي هو مكانها الأصلي لها، ومن ناحية ثانية يكتفي المصنِّف في العديد من المسائل الاجتهادية بذكر القول منسوبًا إلى أهله ومقرونًا بدليله، من غير إشارة إلى كون المسائل مختلفًا فيها على نحو ما يفعله في المسائل الأخرى التي تعرَّض لها بالبيان، كمسألة «تخصيص العموم بخبر الواحد»، و«تخصيص عموم القرآن وأخبار الآحاد بالقياس الجلي والخفي»، و«فحوى الخطاب»، و«لحن الخطاب»، و«الحصر» وغيرها. كما أنَّ المصنِّفَ يُعَنْوِنُ في كتابه الأبواب والفصولَ لكن يغيب التوازن بينها، فنجد أبوابًا تتراوح فصولها من ثلاثة إلى أحد عشر فصلًا، وأبوابًا أخرى بفصل واحد فريد: ﻛ «باب أحكام الاستثناء»، و«باب الأسماء العُرفية»، و«باب أحكام الترجيح»، وأبوابًا ثالثة مجرَّدة من الفصول: ﻛ «باب حكم المطلق والمقيَّد وما يتَّصل بالخاصِّ والعامِّ»، و«باب حكم المجمل»، وتارة تتعرَّى بعض المباحث الأصولية عن الأبواب والفصول كمسائل «النهي». وقد ألصقت في تعليقي على الفصول المعراة عناوين مناسبةً وضعتها بين معقوفين ليسهل الرجوع إليها.

وممَّا تجدر ملاحظته ـ أيضًا ـ أنَّ المصنِّف قد يقسِّم المسألةَ إلى ضربين أو أكثر، فيترك الضرب الأوَّل ضِمن باب والأضرب الأخرى ضمن فصول لاحقة لها، مثل ما فعل في «باب الكلام في معقول الأصل»، وقد يعمد ـ أحيانًا ـ إلى تقسيم المسألة إلى قسمين: يضع القسم الأوَّل في فصل، والثاني في باب، مثل ما هو حاصل في «باب أحكام الترجيح»، ولا يخفى أنَّ مثل هذه الجوانب من منهجية التأليف مُؤاخَذٌ عليها من الناحية الشكلية، فضلًا عن الملاحظات والتعليقات التي أوردتها على متن المصنِّف، وقد جاءت إكمالًا لمضمون القاعدة، وإتمامًا للفائدة وتعميمًا للخير وخدمةً للعلم، وذلك بتنوير مقاطعَ من نصِّ المصنِّف وزيادةِ توضيحِها، وقد وسمت شرحي وتعليقي عليه بعنوان: «الإنارة شرح كتاب «الإشارة»».

هذا، وحريٌّ بالتنبيه أنَّ المقطع المشروحَ على نصِّ المؤلِّف قد رمزتُ له بحرف [م]، آخذًا مِن أوَّل حرف لفظ [المعلق]، وتركت الإحالةَ على المصادر في بعض الجهات من الشرح والتعليق اكتفاءً بالمصادر المثبتة على هامش التحقيق السابق لنصِّ المصنِّف.

وقد رأيتُ من المفيد أن أعقد ترجمةً موجزةً لأعلام «الإنارة» الذين لم يحظوا بترجمةٍ في كتاب «الإشارة» استكمالًا لقائمة الأعلام المشهورين والمغمورين.

كما وضعتُ عناوين فرعيةً للفصول الواردة في نصِّ المؤلف، والخالية منها، وكذا الفقرات المحتاجة إلى عناوين جزئية تسهيلًا للرجوع إليها، وجعلتها بين معقوفين للتمييز بين نصِّ المعلِّق ونصِّ المؤلِّف.

واللهَ تعالى أسألُه أن ينفعنَا بعِلم السابقين، ويحشرَنا مع الصالحين، ويغفرَ لنا أجمعين، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على محمِّد، وعلى آله وصحبه وزوجاته أُمَّهات المؤمنين، وإخوانه إلى يوم الدِّين.

 



(١) هو أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بن الحسن الثقفي العاصمي الجياني مولدًا، الغرناطي منشأ، كان محدِّث الأندلس والمغرب في زمانه، قال عنه ابن الخطيب: «كان خاتمة المحدِّثين، وصدور العلماء المقرئين... إليه انتهت الرياسة بالأندلس في صناعة العربية، وتجويد القرآن، ورواية الحديث». وله تصانيف كثيرة، منها: «صلة الصلة» لابن بشكوال، و«مُلاك التأويل في المتشابه اللفظ في التنزيل»، و«سبل الرشاد في فضل الجهاد» توفي بغرناطة سنة (٧٠٨ﻫ).

انظر ترجمته في: «الإحاطة في أخبار غرناطة» لابن الخطيب (١/ ١٨٨)، «تذكرة الحفاظ» للذهبي (٤/ ٤٦٥)، «الدرر الكامنة» لابن حجر (١/ ٨٤)، «بغية الوعاة» للسيوطي (١٢٦)، «البدر الطالع» للشوكاني (١/ ٣٣)، «فهرس الفهارس» للكتاني (١/ ٤٥٤)، «معجم المؤلفين» لكحالة (١/ ٨٨).

(٢) انظر: «الإحاطة» لابن الخطيب (١/ ١٩٠).

(٣) هو أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن موسى بن عبد الحق المغربي القيرواني المالكي، المعروف ﺑ «حلولو» القروي، فقيه أصولي، نزل تونس، وولي قضاء طرابلس سنين، ثمَّ رجع إلى تونس واستقر بها، ثمَّ ولي مشيخة بعض المدارس، من مؤلفاته: «الضياء اللامع في شرح جمع الجوامع» للسبكي، و«التوضيح شرح التنقيح» للقرافي، و«شرح مختصر خليل»، و«شرح الإشارات» للباجي. توفي سنة (٨٩٨ﻫ).

انظر ترجمته في: «الضوء اللامع» للسخاوي (٢/ ٢٦٠)، «معجم المؤلفين» لكحالة (١/ ١٣٤)، «شجرة النور» لمخلوف (١/ ٢٥٩)، «الأعلام» للزركلي (١/ ١٤٧).

الزوار