فصل [في نسخ القرآن والخبر المتواتر بخبر الآحاد] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م



فصل
[في نسخ القرآن والخبر المتواتر بخبر الآحاد]

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص ٢٧٠]:

«يَجُوزُ نَسْخُ القُرْآنِ وَالخَبَرِ المُتَوَاتِرِ بخَبَرِ الآحَادِ، وَقَدْ مَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ».

[م] الخلاف بين أهل العلم في نسخ القرآن أو المتواتر من السُّنَّة بخبر الآحاد قائمٌ من جهة الجواز العقلي والوقوع الشرعي.

أمَّا الجواز العقليُّ فقد قال به جمهور العلماء، خلافًا لقومٍ مَنَعُوا جوازَه عقلًا على ما حكاه الباقلاني والغزالي وابنُ بَرهان، لكن العديد من الأصوليِّين لم يعتدّ بهذا الخلاف، لذلك نقلوا الإجماعَ على جوازه عقلًا منهم الآمدي وابنُ بَرهان والإسنويُّ(١)؛ ذلك لأنَّ الكتابَ والسُّنَّة كليهما وحيٌّ من الله تعالى، واللهُ سبحانه هو الناسخ حقيقة، لكنَّه سبحانه أظهر النسخ على لسان نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم.

أمَّا الوقوع الشرعي فإنَّ مذهبَ الجمهور على عدم وقوعه مُطلقًا، خلافًا لمذهب أهل الظاهر القائلين بوقوعه منهم: ابن حزم، وفصل آخرون بين زمنه صلَّى الله عليه وسلَّم وما بعده، فأجازوا وقوعَه في زمنه صلَّى الله عليه وسلَّم دون ما بعده، وبه قال الباقلاني والغزالي والقرطبي وهو اختيار أبي الوليد الباجي وصحَّحه في إحكام الفصول(٢).

[في حجة القائلين بجواز نسخ المتواتر بالآحاد]

• قال المصنِّف -رحمه الله- في معرض الاستدلال على جواز نسخ المتواتر بالآحاد في [ص ٢٧١]:

«وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْ تَحَوُّلِ أَهْلِ قُبَاءَ إِلَى الكَعْبَةِ بخَبَرِ الوَاحِدِ».

[م] استدلَّ المصنِّف بأنَّ التوجُّهَ إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسُّنَّة المتواترة لأهل قُباء وغيرهم، فنسخ ذلك بخبر الواحد حيث انحرف القوم حتى توجَّهوا نحو الكعبة قَبولًا لخبره، فدلَّ ذلك على أنّ المتواتر يُنسخ بخبر الواحد.

وقد أجاب الجمهور المانعون من وقوعه بأنّ محلَّ النِّزاع في وقوع نسخ المتواتر بخبر الواحد إنَّما هو خبر الواحد المجرَّد عن القرائن المفيدة للعلم، أمَّا في هذه الواقعة فاحتمال انضمام ما يفيد العلم إلى خبر الواحد كقربهم من مسجد رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أو سماعهم لضجَّة الناس وما إلى ذلك من القرائن.

أمَّا ما يستدلُّون به على الوقوع بقوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ[النساء: ٢٤] بأنَّه منسوخٌ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ عَلَى خَالَتِهَا»(٣)، فإنَّما هو راجع للتخصيص وليس بنسخ.

 ـ وأيضًا ـ ما يمثّل له بنسخ إباحة الحمر الأهلية المنصوص عليها بالحصر في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ[الأنعام: ١٤٥]، وهذه الآية مَكِّية، وتحريم الحمر الأهلية كان حكمه واقعًا بخيبر(٤)، وهذا المثال في الشرع لا يصلح للنسخ وإنَّما راجع للتخصيص، اللهمَّ إلَّا على رأي من يسمِّي التخصيصَ نسخًا، ولا يخفى الفرق بينهما كما بيّنه أهل العلم(٥)، فالعبرة بالمسمَّى لا بالاسم.

فالحاصل أنَّه يجوز نسخ المتواتر بالآحاد على الراجح؛ لأنَّ الجميعَ وحيٌ من الله تعالى، واللهُ هو الناسخ حقيقةً، وقد ثبت وجوبُ التعبُّدِ بالوحي عن طريق القطع، لكن غاية ما في الأمر أنَّه ـ بعد تتبُّع الأدلَّة واستقرائها ـ لا يوجد مثال في الشرع يدلُّ على الوقوع.

[في امتناع النسخ بالإجماع والقياس]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٢٧٢]:

«فَأَمَّا القِيَاسُ فَلاَ يَصِحُ النَّسْخُ بهِ جُمْلَةً».

[م] انتقل المصنِّف إلى القياس من غير أن يعرج على الإجماع، ومذهب الجمهور فيه أنَّ الإجماع لا يكون ناسخًا ولا منسوخًا؛ لأنَّ الإجماع إنّما ينعقد ويكون حُجَّةً بعد زمن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والنسخ لا يكون إلَّا في حياته؛ لأنَّه تشريعٌ، وعلى ذلك يستحيل اجتماعهما، أمَّا ما يذهب إليه بعضُ المعتزلة وعيسى ابن إِبَّان الحنفي(٦) من أنَّ الإجماع يكون ناسخًا بدليل أنَّ سهم المؤلّفة قلوبهم(٧) من الزكاة قد سقط بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فجوابه: إذا سُلِّمَ ـ جدلًا ـ سقوط سهمهم فليس من باب النسخ، وإنَّما من باب انتهاء الحكم لانتهاء عِلَّته المتمثِّلة في حصول العزَّة للإسلام في عهد الصحابة رضي الله عنهم فسقط اعتبار سهم المؤلّفة قلوبهم، وإذا وجد ما يوهم النسخ بالإجماع من كلام بعض العلماء فإنّه يحمل على دليل الإجماع.

وأمَّا النسخ بالقياس فما عليه جمهور الفقهاء والأصوليِّين امتناع النسخ به مُطلقًا سواء كان جليًّا أو خفيًّا؛ لأنَّ القياس الاصطلاحي لا يكون حُجَّةً إلَّا بعد زمن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والنسخُ لا يكون واقعًا إلَّا في حياتِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّه تشريعٌ، ولذلك امتنع أن يكون القياس ناسخًا أو منسوخًا، ولا يعترض بالأمثلة القياسية في الكتاب والسُّنَّة؛ لأنّها أدلَّة دالَّة على القياس، وكذلك وقوعُ القياسِ من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصدورُ القياس من غيرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع إقراره له، كلّ ذلك يدخل في سُنَّتِهِ القولية أو التقريرية فلا تسمَّى قياسًا في الاصطلاح، وإنَّما يتحقَّق القياس الاصطلاحي بعد زمن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهذا القول خالفه المجيزون له مُطلقًا، وكذا المفصِّلون الذين يرون أنَّ القياس ينسخ بقياس أجلى وأقوى منه، وهو مذهب البيضاوي والإسنوي(٨) وغيرهما(٩).

 



(١) انظر: «المستصفى» للغزالي (١/ ١٢٦)، «الوصول» لابن برهان (٢/ ٤٧)، «الإحكام» للآمدي (٢/ ٢٦٧)، «الإبهاج» للسبكي وابنه (٢/ ٢٥١)، «نهاية السول» للإسنوي (٢/ ١٨٣)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (١٩٠).

(٢) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٧١).

(٣) سبق تخريجه، انظر: الرابط.

(٤) متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «نَهَى النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَوْمَ خَيْبَرٍ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الخَيْلِ» أخرجه البخاري (٩/ ٦٤٨)، في «الصيد والذبائح» باب لحوم الخيل، ومسلم (١٣/ ٧٩) في «الصيد والذبائح»، باب في أكل لحوم الخيل.

(٥) انظر: الفروق بين النسخ والتخصيص في «روضة الناظر» لابن قدامة (٧٢)، «المحصول» للرازي (١/ ٣/ ٩)، «البحر المحيط» للزركشي (٣/ ٢٤٣)، «مذكرة الشنقيطي» (٦٨).

(٦) هو أبو موسى عيسى بن إبان بن صدقة القاضي الحنفي، كان من أصحاب الحديث ثمَّ غلب عليه الرأي، تفقه على محمَّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وتولى قضاء العسكر، ثمَّ البصرة، وله كتاب «خبر الواحد»، و«إثبات القياس»، وكتاب «الحج»، مات بالبصرة سنة ٢٢١ﻫ.

انظر ترجمته في: «طبقات الفقهاء» للشيرازي (١٣٧)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (١١/ ١٥٧)، «الجواهر المضيئة» للقرشي (١/ ٤٠١)، «الفوائد البهية» للكنوي (١٥١).

(٧) المؤلَّفة قلوبهم سواء كانوا مسلمين أو كفارًا يعتبرون جميعًا السادة المطاعون في أقوامهم وعشائرهم وهم على ستة أقسام:

فالكفار قسمان: فمنهم من يعطى ترغيبًا له في الإسلام كما أعطى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم صفوان بن أمية من غنائم حنين، وقد كان مشركًا كما صحَّ ذلك عند مسلم (٧/ ١٥٥)، ومنهم من يعطى خشية شرِّه، ويرجى بعطيته كفّ شرّه ، وكفّ شرّ غيره.

أمَّا المسلمون من المؤلّفة قلوبهم فهم أربعة أقسام: فمنهم من يعطى إلى سادات المسلمين الذين لهم نظراء من الكفار من جهة الرياسة والبروز في قومهم، فيعطون من الزكاة رجاء إسلام نظرائهم.

ـ ومنهم من يعطى تثبيتًا لقلبه ويرجى بعطيته قوَّة إيمانه ومناصحته في الجهاد وإخلاصه فيه، على نحو ما أعطى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يوم حنين لجماعة من سادات الطلقاء وأشرافهم على ما ثبت في «صحيح البخاري» (٨/ ٥٣)، ومسلم (٧/ ١٥٤).

ـ ومنهم من يكون على حدود بلاد المسلمين فيعطون من الزكاة ليدفعوا شرّ الكفار عمَّن يليهم من المسلمين.

ـ ومنهم قوم يعطون من الزكاة ليقوموا بجبايتها ممَّن يماطل في أدائها، نظرًا لقوتهم وقدرتهم على تحصيلها من المماطلين الممتنعين عن أدائها. [«المغني» لابن قدامة (٦/ ٤٢٧ ـ ٤٢٩)].

وعليه، فإنَّ عدم إخراج هذا السهم من الزكاة في عصر من عصور الإسلام لا يعني سقوط هذا السهم من أصناف المستحقِّين للزكاة، وإنَّما يعني عدم وجود أهل هذا السهم (أي: المؤلفة قلوبهم)، وإذا ظهرت الحاجة في إعطاء من يتحقّق منهم معاني وأوصاف المؤلّفة قلوبهم، فإنّ للإمام أن يعطيهم من سهم المؤلّفة قلوبهم من حصيلة الزكاة التي يجمعها بحسب تقديره واجتهاده وفي ضوء مصلحة المسلمين، قال ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (٢٥/ ٤٠) حكاية عن أبي جعفر الطبري -رحمه الله-: «…والصواب أنّ الله جعل الصدقة على معنيين: أحدهما: سد خلة المسلمين، والثاني: معونة الإسلام وتقويته، فما كان معونة للإسلام، يعطى منه الغني والفقير، كالمجاهد ونحوه، ومن هذا الباب يعطى المؤلّفة، وما كان في سدّ خُلة المسلمين».

(٨) هو أبو محمَّد جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعي المصري، الفقيه الأصولي المفسر النحوي العروضي، له تصانيف على المذهب في الأصول والتخريج عليها وغيرها، منها: «نهاية السول شرح منهاج الأصول»، و«التمهيد في تخريج الفروع على الأصول»، و«الكوكب الدري في تخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية»، و«طبقات الشافعية»، توفي سنة (٧٧٢ﻫ).

انظر ترجمته في: «الدرر الكامنة» لابن حجر (٢/ ٣٤٥)، «بغية الوعاة» للسيوطي (٣٠٤)، «حسن المحاضرة» للسيوطي (١/ ٤٢٩)، «البدر الطالع» للشوكاني (١/ ٣٥٢)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٦/ ٢٢٣)، «درة الحجال» لابن القاضي المكناسي (٣/ ١١٤).

(٩) انظر تفصيل هذه المسألة في المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (٢٧٢).

الزوار