فصل [في دلالة الاقتران] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
السبت 11 شوال 1445 هـ الموافق لـ 20 أبريل 2024 م



فصل
[في دلالة الاقتران]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ٣٢١]:

«لاَ يَجُوزُ الاسْتِدْلاَلُ بالقَرَائِنِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابنَا، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ نَصْرٍ: «يَجُوزُ ذَلِكَ»، وَبهِ قَالَ المُزَنِيُّ».

[م] ويُعبِّر عنه الأصوليُّون ﺑ: «دلالة الاقتران» مثل استدلال مالك -رحمه الله- على سقوط زكاة الخيل(١)، بقوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً[النحل: ٨]، فقرن بين الخيل والبغال والحمير، فإذا كان البغال والحمير لا زكاة فيها إجماعًا فكذلك الخيل، ومثله مسألة أكل لحوم الخيل.

وتحرير محلِّ الخلاف بين العلماء أنَّ دلالةَ الاقتران يُحتجُّ بها بلا خلافٍ فيما إذا كانت لدليل خارجيٍّ يدلُّ على الاقتران، وتكون الدلالة للدليل الخارجي لا للاقتران، ولا خلاف في المشاركة إذا كان المعطوف ناقصًا بأن لا يذكر خبره كقول القائل: فلانة طالق وفلانة، وكذلك عطف المفردات إذا كان مشاركة بينها في العِلَّة، فالتشارك في الحكم إنَّما كان بسبب العِلَّة لا لأجل الاقتران(٢).

هذا، ودلالةُ الاقتران على مراتبَ متفاوتةٍ قوةً وضعفًا، فإن جمع بين المقترنَيْن لفظ اشتركا في إطلاقه، وافترقا في تفصيله ظهرت عندئذ قوَّتها، وذلك مثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ثَلَاثٌ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ: الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَيَمَسُّ مِنْ طِيبٍ إِنْ وَجَدَ»(٣)، ولما كان السِّواك والتطيّب غير واجبين كان الغسل غير واجب ـ أيضًا ـ لاشتراك الألفاظ الثلاثة في إطلاق لفظ الحقّ عليه، ما لم يرد دليل يقضي بحكمٍ مُغاير. أمَّا إذا تعدَّدت الجمل، واستقلّ كلّ واحد منها بالحكم والسبب والغاية ظهر ضعفها، كقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ، وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ الجَنَابَةِ»(٤)، فلا يلزم من تنجيسه بالبول تنجيسه بالاغتسال؛ لأنَّ الاقتران في النَّظم لا يستلزم الاقتران في الحكم عند جمهور الأصوليِّين؛ ولأنَّ الأصلَ في كلِّ كلامٍ تامٍّ أن ينفرد بحكمه ولا يشاركه غيرُه مثل قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ[الفتح: ٢٩]، فالجملة الثانية معطوفةٌ على الأُولى ولا تشاركها في الرسالة، فظهر أنَّ الاشتراك إنَّما يكون في المتعاطفات الناقصة التي تحتاج إلى ما تتمُّ به، فإذا تمَّت بنفسها فلا مشاركة(٥) كعطف جملة فلا اشتراك في المعنى نحو: أكرم زيدًا وامنع عمرًا(٦).

وخالف أبو يوسف(٧) صاحبُ أبي حنيفة وابن أبي هريرة(٨) من الشافعية وأكثر الحنابلة وبعضُ المالكية، واحتجُّوا على جواز الاستدلال بالقرائن بقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ»(٩)، فدلَّ ذلك على أنَّ العطفَ يقتضي المشاركة نحو قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة: ٤٣]، كما استدلُّوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أنَّ العمرة قرينة في كتاب الله»(١٠)، لذلك حملها على الوجوب بدلالة الاقتران في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ[البقرة: ١٩٦].

وقد أُجيب بأنَّ الصدِّيق رضي الله عنه إنَّما قصد عدم التفريق بين ما جمع الله في الإيجاب بالأمر، وكذلك ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه أراد وجوب العمرة لأنَّها قرينة الحجّ في الأمر، والأمر يقتضي الوجوب فكان الاحتجاج في الحقيقة بظاهر الأمر لا بالاقتران(١١).

ومن آثار الخلاف في هذه المسألة ما يأتي:

• الاختلاف في حكم الزكاة في مال الصبي، فمن احتجَّ بدلالة الاقتران من قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة: ٤٣]، قال لا تجب على مال الصغير؛ لأنَّ العطف يقتضي المشاركة، ولأنه لو أريد دخوله في الزكاة لكان فيه عطف واجب على مندوب، لاتفاق كون صلاة الصبي مندوبة، فدلَّ على عدم وجوب الزكاة في ماله، ومن لم يحتجَّ بدلالة الاقتران منع من ذلك(١٢).

• والاختلاف في وجوب الأكل من الأضحية، فمن احتجَّ بدلالة الاقتران من قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ[سورة الحج: ٢٨]، قال بوجوب الأكل منها؛ لأنَّه عطف على الإطعام، والإطعام واجب، ومن لم يحتجَّ به لم يحكم بوجوبه(١٣).

• والاختلاف في حكم بيع العينة، فمن احتجَّ بدلالة الاقتران من قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»(١٤)؛ قال: إنَّ اقتران بيع العينة بأخذ أذناب البقر والاشتغال بالزرع مع أنَّ هذه المذكورات غير محرّمة، فدلَّ ذلك على أنَّ بيع العينة ليس محرَّمًا، ومن اعتبر أنَّ دلالة الاقتران ضعيفة؛ لأنَّ الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم، قال: لا اشتراك في المعنى وخاصّة وأنَّه عطفت جملة على جملة(١٥).

 



(١) «تفسير القرطبي» (١٠/ ٧٨).

(٢) «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٤٨).

(٣) أخرجه أحمد في «مسنده» (٤/ ٣٤، ٥/ ٣٦٣)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (١/ ٤٣٤ (٤٩٩٧)، عن رجل من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والحديث صحَّحه الألباني في «السلسة الصحيحة» (٤/ ٤٠٥ (١٧٩٦)، وفي «صحيح الجامع» (٣/ ٦٢ (٣٠٢٥).

(٤) أخرجه أبو داود (١/ ٥٦) برقم (٧٠) في «كتاب الطهارة» باب: البول في الماء الراكد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح أبي داود» (١/ ٣٠)، وفي «صحيح الجامع» (٦/ ٢١١) برقم (٧٤٧١).

(٥) راجع «المسودة» لآل تيمية (١٤٠ ـ ١٤١)، «بدائع الفوائد» لابن القيم (٤/ ١٨٣ ـ ١٨٤)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٤٨).

(٦) انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (ص ٣٢١).

(٧) هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، الإمام المجتهد صاحب أبي حنيفة وناشر مذهبه، وأول شيخ للإمام أحمد، تولى منصب القضاء ببغداد في عهد الخليفة المهدي، وظل يقضي بين الناس إلى وفاته سنة (١٨٢ﻫ)، من مؤلفاته: «كتاب الخراج»، و«كتاب الجوامع»، و«اختلاف الأمصار»، وغيرها.

انظر ترجمته في: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٧/ ٣٣٠)، «الفهرست» للنديم (٢٥٦)، «طبقات الشيرازي» (١٣٤)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (١٤/ ٢٤٢)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٦/ ٣٧٨)، «الكامل» لابن الأثير (٦/ ١٥٩)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١٠/ ١٨٠)، «سير أعلام النبلاء» (٨/ ٥٣٥)، «دول الإسلام» كلاهما للذهبي (١/ ١١٧)، «مرآة الجنان» لليافعي (١/ ٣٨٢)، «الجواهر المضيئة» للقرشي (٣/ ٦١١)، «لسان الميزان» لابن حجر (٦/ ٣٠٠)، «طبقات الحفاظ» للسيوطي «١٢٧)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ٢٩٨).

(٨) هو أبو علي الحسن بن الحسين القاضي البغدادي، المعروف بابن أبي هريرة، أحد أئمة الشافعية، انتهت إليه إمامة العراقيين، درَّس ببغداد، وتخرج عليه خلق كثير، من مؤلفاته: «شرح مختصر المزني»، وله مسائل محفوظة في الفروع، توفي سنة (٣٤٥ﻫ).

انظر ترجمته في: «طبقات الفقهاء» للشيرازي (١١٢)، «تاريخ بغداد» (٧/ ٢٩٨)، «طبقات الشافعية» للسبكي (٣/ ٢٥٦)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (٢/ ٧٥)، «مرآة الجنان» لليافعي (٢/ ٣٣٧)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٥/ ٤٣٠)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١١/ ٣٠٤)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٢/ ٣٧٠)، «الفتح المبين» للمراغي (١/ ١٩٣).

(٩) أخرجه البخاري (٣/ ٢٦٢)، ومسلم (١/ ٢٠٧)، وغيرهما.

(١٠) أخرجه البخاري في «صحيحه» معلقًا، كتاب «العمرة»، باب وجوب العمرة وفضلها، والبيهقي في سننه (٤/ ٣٥١)، وعزاه ابن حجر في «التلخيص الحبير» (٢/ ٢٢٧) للشافعي وسعيد ابن منصور والحاكم، وانظر: «فتح الباري» له (٣/ ٧٣٨).

(١١) «التبصرة» للشيرازي (٢٣٠).

(١٢) «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٣/ ٢٦٠).

(١٣) «التمهيد» للإسنوي (٢٧٣).

(١٤) أخرجه أبو داود (٣/ ٧٤٠) رقم (٣٤٦٢)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (٥/ ٣١٦)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (١/ ١٥) رقم (١١) وفي «صحيح أبي داود» (٢/ ٣٦٥).

(١٥) «نيل الأوطار» للشوكاني (٦/ ٣٦٤).

الزوار