فصل [في الحقيقة] | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الثلاثاء 7 شوال 1445 هـ الموافق لـ 16 أبريل 2024 م

فصل
[في الحقيقة]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ١٦٠]:

«وَأَمَّا الحَقيقَةُ فَهُوَ: كُلُّ لَفْظٍ بَقيَ عَلَى مَوْضُوعِهِ».

[م] الحقيقة: هو فعيلة من حَقَّ الشيءُ بمعنى ثبت، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة، قال الشوكاني: «وفعيل في الأصل قد يكون بمعنى الفاعل، وقد يكون معنى المفعول، فعلى التقدير الأوَّل معنى الحقيقة: الثابتة، وعلى التقدير الثاني يكون معناها: المثبتة»(١). قال محمد أبو النور زهير في «أصوله»: «والحقيقة إن كانت بمعنى فاعل فالتاء فيه للتأنيث؛ لأنَّ فعيلًا بمعنى فاعل، ويفرق فيه بين المذكر فيه والمؤنث بالتاء، يقال: رجل كريم وامرأة كريمة، ورجل عليم وامرأة عليمة، وإن كانت بمعنى مفعول فالتاء للنقل وليست للتأنيث؛ لأنَّه يستوي فيه المذكر والمؤنث يقال: رجل قتيل وامرأة قتيل، إلَّا إذا سمي به أو جرى مجرى الأسماء بأن استعمل بدون الموصوف مثل: النطيحة، أي: البهيمة المنطوحة، فإنه يؤتى فيه بالتاء لتكون دالة على النقل من الوصفية إلى الاسمية، والحقيقة من هذا القبيل»(٢).

والحقيقة تنقسم إلى: شرعية وعُرفية ولغوية، ومتى أمكن حمل اللفظ على الحقيقة وجب حمله عليها، ومتى تعذَّر حمله على الحقيقة حُمل على المجاز إذا وجدت القرينة الدالة على امتناع حمله على الحقيقة، وعليه فالمجاز خلاف الأصل، ومتى وقع احتمال اللفظ لهما فإنَّ الحقيقة ترجّح عليه لأصالتها.

هذا، والحقيقة لا تستلزم المجاز اتفاقًا، بينما يستلزم كلّ مجاز وجود حقيقته في شيء آخر لتفرعه عنها، وهو مذهب الجمهور.

[في معنى «المفصَّل»]

• قال الباجي -رحمه الله- بعدها في الصفحة نفسها:

«وَأَمَّا المُفَصَّلُ: فَهُوَ مَا فُهِمَ المُرَادُ بهِ مِنْ لَفْظِهِ وَلَمْ يَفْتَقِرْ فِي بَيَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: غَيْرِ مُحْتَمَلٍ، وَمُحْتَمَلٍ».

[م] المراد بالمفصَّل ـ عند المصنِّف ـ المفسَّر، ويكون تعريف المُجمل الذي يقابل المفصَّل أنه: «ما لا يُفهم المراد به من لفظه ويفتقر في بيانه إلى غيره»(٣)، وهذا المجمل الذي عناه المصنِّف إنما هو المجمل عند السلف وهو: ما لا يكفي وحده في العمل، فلا بدَّ أن يُعرَفَ ببيان، مثل قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا[التوبة: ١٠٣]، فإنَّ الصدقة المطهِّرة والمزكِّية تحتاج إلى بيان(٤)، وهو ما أفصح عنه المصنِّف على متن «الإشارة» (ص ٢٢٠)، أمَّا المجمَل عند الأصوليِّين فهو: «ما له دلالة على مَعنَيين لا مزيةَ لأحدهما على الآخر»، أو هو: «ما تردَّد بين محتملين فأكثر على السواء»، فقد أورده المصنِّف في الضرب الثاني من المفصَّل، حيث قَسَّم المفصَّل إلى غير المحتمل: وهو النصُّ الذي يجب المصير إليه ولا يعدل عنه إلَّا بناسخ أو معارض، وإلى محتمل، وقَسَّمه إلى ضربين:

فجعل المجمل ـ عند الأصوليِّين ـ وهو: «الذي لا يجوز العمل بأحد احتمالاته إلَّا بدليلٍ خارجي صحيح»، أي: لا يصار إليه إلَّا بعد البيان في الضرب الأوَّل حيث نصَّ عليه على متن «الإشارة» (ص ١٦١) بقوله: «أن لا يكون في أحد محتملاته أظهر منه في سائرها»، وألحقه بالضرب الثاني الذي هو «الظاهر» مُبيِّنًا حكمه بأنه: «لا يجوز العدول عن معناه الظاهر إلى سائر المحتملات إلَّا بدليلٍ أقوى منه»، فإن دلَّ دليل أقوى على صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه فإنه يعدل عنه إلى المحتمل المرجوح وهذا ما يسمَّى بالمؤوَّل.

قلت: النصُّ يتفق مع الظاهر في رجحان الإفادة، غير أنَّ النصَّ مانع من احتمال غيره، في حين أنَّ الظاهر لا يمنعه، وهذا القدر المشترك بينهما يسمَّى ﺑ «المُحْكَم»، ويعرف بأنه: «ما يتَّضح معناه»، أمَّا المجمل والمؤوَّل فيتَّفقان في عدم الرجحان، غير أنَّ المجمل وإن لم يكن راجحًا فهو غير مرجوح من جهة الوضع، بخلاف المؤوّل فهو مرجوح، والقدر المشترك بينهما يسمى: «المتشابه»، فالمتشابه هو: «ما لم يتَّضح معناه»، فالمحكم ـ إذن ـ نوعان: نصّ وظاهر، والمتشابه نوعان: مجمل ومؤوّل.

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص ١٦١]:

«فَأَمَّا غَيْرُ المُحْتَمَلِ فَهُوَ النَّصُّ، وَحَدُّهُ: مَا رُفِعَ فِي بَيَانِهِ إِلَى أَرْفَعِ غَايَاتِهِ» نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة: ٢٢٨] فَهَذَا نَصٌّ فِي الثَّلاَثَةِ لاَ يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ».

[م] قال القرافي(٥) -رحمه الله-: «والنَّصُّ فيه ثلاثة اصطلاحات، قيل: ما دَلَّ على معنى قطعًا لا يحتمل غيرَه قطعًا كأسماء الأعداد، وقيل: ما دَلَّ على معنى قطعًا وإن احتمل غيره كَصِيَغِ الجموع في العموم، فإنها تدلُّ على أقلِّ الجمع قطعًا وتحتمل الاستغراق، وقيل: ما دلَّ على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء»(٦).

قلت: والمثال الذي ساقه المصنِّفُ من قبيل الاصطلاح الأوّل للنصِّ، وهو العدد الذي يشمل أفراده على وجه الحصر، مثل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ[البقرة: ١٩٦]، فهو مانع من إرادة احتمال غيره، لكن «القرء» في الآية مجمل لتردُّده بين الحيض والطهر فهو محتاج إلى بيان، والأمر بالتربّص من قبيل الظاهر وإن ورد بالصيغة الخبرية فهي في معنى الإنشاء، والأصل في الأوامر أن تحمل على الوجوب لكونها أظهر في الوجوب من سائر محتملات الأمر، ولا يعدل عنه إلَّا بدليل أقوى. فالآية ـ إذن ـ تضمَّنت النصَّ والظاهرَ والمجملَ.

 



(١) «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢١).

(٢) (٢/ ٢٤٨).

(٣) «الحدود» للباجي (٤٥، ٤٦).

(٤) انظر: «الفقيه والمتفقه» للخطيب البغدادي (١/ ٧٥).

(٥) هو أبو العباس، شهاب الدين أحمد بن إدريس الصنهاجي المصري، الشهير بالقرافي، أحد الأعلام المشهورين في المذهب المالكي، كان حافظًا مفوهًا بارعًا في العلوم الشرعية والعقلية، له تصانيف قيمة، منها: «الذخيرة» في الفقه، و«الفروق» في القواعد الفقهية، و«شرح المحصول للرازي»، و«تنقيح الفصول وشرحه» في أصول الفقه، توفي سنة (٦٨٤ﻫ).

انظر ترجمته في: «الديباج المذهب» لابن فرحون (٦٢)، «المنهل الصافي» للأتابكي (١/ ٢١٥)، «حسن المحاضرة» للسيوطي (١/ ٣١٦)، «درة الحجال» لابن القاضي (١/ ٨)، «الفتح المبين» للمراغي (٢/ ٨٩)، «شجرة النور» لمخلوف (١/ ١٨٨)، «الفكر السامي» للحجوي (٢/ ٤/ ٢٣٣)، «الأعلام» للزركلي (١/ ٩٠)، «معجم المفسرين» للنويهض (١/ ٢٨).

(٦) «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٣٦).

الزوار