الفتوى رقم: ٧١٧

الصنف: فتاوى الصلاة - الجمعة

حكم الصلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم
والتأمين على دعاء الخطيب يومَ الجمعة

السؤال:

إذا كان الإمامُ يخطب يومَ الجمعة وذَكَرَ اسْمَ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أو صَلَّى عليه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فهل يجوز للمُسْتمِعين إليه الصلاةُ عليه؟ وإذا كان الخطيبُ يدعو فهل يُشْرَع التأمينُ على دعائه؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فمَرَدُّ هذه المسألةِ إلى إحدى المُشْكِلاتِ الأصولية التي تباينَتْ فيها أقوالُ العلماءِ واختلفَتْ، وتُعْرَفُ ﺑ: «تَعَارُضِ عُمُومَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ»؛ إذ إِنَّ الأمر بالصلاةِ والسلام على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عامٌّ في الأوقاتِ خاصٌّ في الكلام، والنهيَ عن الكلامِ عامٌّ في كُلِّ كلامٍ خاصٌّ في الوقت، أي: حالَ الخُطبة، وفي مثلِ هذه المسألةِ ينبغي سلوكُ المَراتِبِ التدريجية، ومَن قال بالترجيحِ فإنه يرى تعذُّرَ التوفيقِ الصحيح والجمعِ المعقولِ بين عمومِ الأمر بالإنصات وعدَمِه مِن جهةٍ، ومِن جهةٍ ثانيةٍ فخصوصُ كُلِّ العمومَيْن مِن وجهٍ مُعارَضٌ بخصوصِ الآخَر؛ لأنَّ لكلٍّ منهما جهةَ عمومٍ تطرَّقَتْ إليه ظَنِّيَّةُ الدلالةِ فلا ينتهض للتخصيص، وحالتئذٍ وَجَبَ المصيرُ إلى الترجيح، وقد سَلَكَه بعضُ أهلِ العلم مِن ناحيةِ أنَّ الشرعَ عَدَّ قولَ القائلِ: «أَنْصِتْ» مِن اللغوِ مع أنه داخِلٌ في باب الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، علمًا أنه لا يُسمَّى لغةً لغوًا. وعليه، فقَدْ غلَّب وجوبَ الإنصاتِ والنهيَ عن الكلامِ مُطْلَقًا عملًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ: «أَنْصِتْ» وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ»(١)؛ ذلك لأنَّ عمومه مقصودٌ ومُسْتَهْدَفٌ ابتغاءَ الإنصاتِ لموعظةِ الخطيب؛ فيُرَجَّحُ مِن بابِ «تَقْدِيمِ الأَهَمِّ عَلَى المُهِمِّ» المتمثِّلِ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويترتَّب على ذلك أنه يدخل ـ ضِمْنَ النهيِ عن الكلام ـ كُلُّ ما كان في مرتبةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما كان دونهما، وهذا ما قرَّره الشيخُ الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ في «الأجوبة النافعة»(٢).

وفي تقديري أنَّ عموم النهيِ عن مُكالَمةِ الناسِ أثناءَ الخُطْبة للموعظةِ ـ وإن كان مُهِمًّا على التوجيه السابق ـ إلَّا أنَّ دلالةَ العمومِ تضعف كُلَّما دَخَلَها التخصيصُ كما هو مُقرَّرٌ في الأصول، وقد تطرَّق التخصيصُ إلى عمومِ الأمر بالإنصات بتحيَّةِ المسجد؛ ففي الحديثِ المتَّفَقِ عليه: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا»(٣)، ولا يخفى ما ينتج مِن الكلام في صلاةِ التحيَّةِ مِن قراءةٍ وتسبيحٍ وتشهُّدٍ ودُعاءٍ يُشْغَل به المصلِّي عن أمرِ الإنصات. كما يدخله التخصيصُ بإنذارِ الأعمى مِن وقوعه في البئر، وتحذيرِ مَن قَصَدَتْه حيَّةٌ أو عقربٌ تَدِبُّ إلى إنسانٍ، أو خُشِيَ عليه حريقٌ ونحوُه(٤)، إذا لم يمكنِ الاستغناءُ عن الكلامِ ولم يَحْصُلِ المقصودُ بالإشارة(٥)؛ فقَدْ رُوِيَ في ذلك إجماعٌ؛ ذلك لأنَّ مِثْلَ هذا جائزٌ في الصلاةِ مع النهي عن الكلام والعملِ الخارجيِّ غيرِ المأذونِ فيهما فههنا أَوْلى.

كما يتطرَّق التخصيصُ إلى مَن كَلَّم الإمامَ الخطيبَ أو كَلَّمه الإمامُ الخطيب؛ فإنه معدودٌ مِن مُخصِّصاتِ الأمرِ بالإنصات جمعًا بين الأخبارِ وتوفيقًا بينها، لحديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما قال: «دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَخْطُبُ فَقَالَ: «أَصَلَّيْتَ؟»، قَالَ: «لَا»، قَالَ: «قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ»»(٦)، ولحديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ المَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ القَضَاءِ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا ثُمَّ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ؛ فَادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا»، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا...»»(٧).

هذا، ولو سُلِّمَ أنَّ وجوبَ الصلاةِ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخصَّصٌ بتركِ الصلاة عليه صلَّى الله عليه وسلَّم حالَ انشغالِه بصلاةِ الفرض أو النفل فكان عمومُه مُخصَّصًا، وليس أحَدُ العمومين أَوْلى مِن الآخَر؛ فجوابُه أنَّ جملة إقامةِ صلاته وأدائها لا تخلو مِن الصلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما في شأنِ الصلوات الإبراهيميةِ؛ فلا يَلْحَقُه تركُ الأمرِ الواردِ في الصلاة عليه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وعلى فَرْضِ تسليمِ التخصيص فيبقى عمومُ الصلاةِ عليه صلَّى الله عليه وسلَّم أقوى مِن عمومِ الإنصات لقِلَّةِ مُخصِّصاته، وهو أَقْرَبُ إلى العامِّ المحفوظ؛ إذ «كُلُّ مَا قَرُبَ مِنَ الشَّيْءِ أَخَذَ حُكْمَهُ».

وعليه، فإنَّ كُلَّ ما سَبَقَ وغيرَه يُضْعِف دلالةَ عمومِ النهي عن المكالمة بالنظر إلى قابليَّته للتخصيص؛ لذلك تُقدَّم النصوصُ الواردةُ في الصلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عليه لقُوَّتها؛ لأنَّ العمومَ المحفوظ الذي لا يَدْخُلُه التخصيصُ أقوى وأَوْلى بالتقديم مِن العموم الذي دَخَلَه التخصيصُ، هذا مِن جهةِ الترجيح.

وأمَّا مِن جهةِ التوفيق، فإنَّ الذي يظهر لي ـ مِمَّا تقدَّم ـ أَنَّ اللَّغو مِن الكلامِ المنهيَّ عنه يومَ الجمعةِ والذي لا فائدةَ فيه ولا طائِلَ تحته، إنَّما هو الكلامُ الذي يحصل به التشويشُ ويَصْرِف نَظَرَ الحاضرين عن الإمام وخُطْبَتِه، ويكون ذلك في حالتَيْن:

١ ـ إذا ارتبط كلامُه بمكالَمةِ الناس، سواءٌ كان في مرتبةِ الواجبِ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتشميتِ العاطس ورَدِّ السلام، أو ما كان دونه، إلَّا إذا لَحِقَ ضررٌ بالمُصلِّين ـ كما سَبَقَ بيانُه ـ؛ لأنَّ المراد بالإنصاتِ هو السكوتُ عن مكالَمةِ الناسِ مُطْلَقًا؛ إذ ظاهِرُ الحديثِ يمنع هذا.

٢ ـ إذا رَفَعَ المتكلِّمُ صوتَه بحيث يَسْمَعه غيرُه؛ لكونه يصرف نَظَرَهم إليه ويُشوِّش عليهم؛ فتَحْدُثُ الغفلةُ عن كلام الخطيب.

أمَّا المتكلِّمُ سِرًّا كالداعي سِرًّا فهو مُنْصِتٌ بل ساكتٌ، وقد وَرَدَ وَصْفُه في حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه عندما سَكَتَ الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم هُنَيْهةً قبل القراءةِ وبعد التكبير، فسأله أبو هريرة بقوله: «يَا رَسُولَ اللهِ ـ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ـ أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟» قَالَ: «أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ..»(٨)؛ فوَصَفَ قولَه بالسكوت وسَمَّاه ساكتًا لكونه سِرًّا.

فالحاصل: أنه تجوز مُتابَعةُ الخطيبِ في الصلاة على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أو إذا أَمَرَ بالصلاة عليه، فضلًا عن الذِّكْر والدُّعاء، وليس ذلك مِن قبيلِ اللَّغو إذا ما تكلَّم سِرًّا؛ لعدَمِ خروجه عن الإنصات المطلوبِ شرعًا؛ فبهذا يتحقَّقُ التوفيقُ بين الأدلَّةِ المُتعارِضة، و«الجَمْعُ بَيْنَهَا أَوْلَى مِنْ إِعْمَالِ أَحَدِهَا وَإِهْمَالِ الآخَرِ» على ما قَرَّره أهلُ الأصول.

والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.


(١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الجمعة» بابُ الإنصات يومَ الجمعة والإمامُ يخطب (٩٣٤)، ومسلمٌ في «الجمعة» (٨٥١)، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٢) انظر: «الأجوبة النافعة» للألباني (٥٩ ـ ٦٠)، «القول المبين» لمشهور (٣٤٥).

(٣) أخرجه مسلمٌ في «الجمعة» (٨٧٥) مِن حديث جابرٍ رضي الله عنه. والحديث وَرَدَ في قصَّةِ الرجل الذي دَخَلَ المسجدَ والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يخطب، وهو سُلَيْكٌ الغَطَفَانيُّ رضي الله عنه.

(٤) كإنقاذِ غريقٍ، أو واجبٍ خُشِيَ فوتُه؛ ذلك لأنَّ مِن حَقِّ المسلمِ على المسلمِ أن لا يُسْلِمَه، بأَنْ يتركه يموت غريقًا أو حريقًا وهو مُسْتَمِرٌّ في صلاته وأخوه يُعاني غمراتِ الموت، قال الإمام أحمد: «وإذا رأى صبيَّين يقتتلان يتخوَّف أن يُلْقِيَ أحَدُهما صاحِبَه في البئر فإنَّه يذهب إليهما فيخلِّصُهما ويعود إلى صلاته»، وقد ثَبَتَ مِن حديثِ جُرَيْجٍ أَنَّه لَمَّا دَعَتْه أُمُّه وهو يُصلِّي فقال: «اللَّهمَّ أُمِّي وصلاتي»، وتَردَّدَ أيَّهما يُقدِّمُ؟ فأَقْبَلَ على صلاته فعُوقِبَ تلك العقوبةَ، والحالُ أنَّ إجابته لأُمِّه وقضاءَ حاجتها لا تفوت باستمراره في الصلاةِ وإكمالها؛ فكيف يَسْتَمِرُّ في الصلاة ويُؤْثِرها مع ما يترتَّب عليه مِن هلاكِ مسلمٍ أمكنه تحصيلُ حياته، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا» [أخرجه مسلمٌ في «الإيمان» (٥٤) مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

وحقيقٌ بالتنبيه: أنَّ حديثَ جُرَيْجٍ ـ وإن كان مِن شَرْعِ مَن قبلنا ـ إلَّا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم حكاه لنا، ولم يذكر ما يُخالِفه في شَرْعِنا؛ فكان شرعًا لنا على ما تقرَّر في القواعد الأصولية، [انظر: «المغني» لابن قُدامة (٢/ ٢٤٧ ـ ٢٤٩)، «السيل الجرَّار» للشوكاني (١/ ٢٤٢ ـ ٢٤٤)].

(٥) لأنَّ الإشارة تجوز في الصلاة التي يُبْطِلها الكلامُ ففي الخُطْبة أَوْلى.

(٦) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الجمعة» باب: مَن جاء والإمامُ يخطب صَلَّى ركعتين خفيفتين (٩٣١)، ومسلمٌ في «الجمعة» (٨٧٥)، مِن حديث جابرٍ رضي الله عنه. وقد تقدَّم قريبًا بلفظٍ أعمَّ في حديثِ الداخل وقتَ الخُطْبة، انظر: الهامش رقم: (٣).

(٧) مُتَّفَقٌ على صِحَّته: أخرجه البخاريُّ في «الاستسقاء» بابُ الاستسقاء في خُطْبة الجمعة (١٠١٤)، ومسلمٌ في «صلاة الاستسقاء» (٨٩٧)، مِن حديث أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه.

(٨) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «صفة الصلاة» بابُ ما يقول بعد التكبير (٧٤٤)، ومسلمٌ في «المساجد ومواضع الصلاة» (٥٩٨)، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)