الفتوى رقم: ٨٩١

الصنـف: فتاوى المعاملات المالية - البيوع

في اشتراط الإيواء إلى الرِّحال
في المعقود عليه بمعاوضة

السـؤال:

لقد ورد النهيُ عن بيع السِّلع في المكان الذي اشتُرِيَتْ منه حتى تُحازَ إلى الرحل، لكن سمعنا من البعض أنَّ المشتري إذا ضَمِنَ أَيَّ تَلَفٍ قد يلحَقُ بها جاز له أن يبيعَها في مكانها ولا ينقلها إلى رحله، وما الجواب على من قَصَرَ أدلَّة النهي على الطعام قبل قبضِه وإباحته في ما عدا الطعام، فهل هذا صحيح؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فاعلم أنًَّ مِنْ شروط المبيع المعقودِ عليه أن يكون مقبوضًا إن كان قد استفاده بمعاوضة؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَارُ إِلَى رِحَالِهِمْ»(١)، ولما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ»، قال ابن عباس: «لا أحسب كُلَّ شيء إلاَّ مثله»(٢)، فهذه الأحاديث وغيرُها عامَّةٌ في النهي، وهي شاملة لكلِّ السلع المعقود عليها، وتدلُّ على فساد المنهي عنه، وهو مذهب الجمهور.

هذا، ولا يصلح قصر النهي على الطعام قبل قبضه وإباحته فيما عداه عملاً بتخصيص عموم النهي بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «اشترى من عمر بَكْرًا كان ابنه راكبًا عليه، ثمَّ وهبه لابنه قبل قبضه»(٣)، أو بحديث جابرٍ بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم اشترى من جابرٍ رضي الله عنهما جَمَله، وقال: «فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالجَمَلِ فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَقَالَ: «أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ»(٤)، فالظاهرُ من كِلا الحديثين أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قد تصرَّف في المبيع بالهبة قبل قبضه.

فجوابه: أنَّ غايةَ ما في الحديثين جواز التصرُّف في المبيع قبل قبضه بالهبة بغير عِوض، ولا يصلح إلحاقه بالبيع وسائر التصرُّفات؛ لأنَّ البيع معاوضة بعِوض، وكذا الهبة بعِوض، أمَّا الهبة الواقعة من النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فليست على عِوض فافترق الأمران، وإنما يمكن إلحاق كُلِّ التصرفات التي لا عوض فيها بالهبة، وجواز التصرُّف فيها قبل قبضها وحيازتها دون التصرفات بعوض كالبيع، وبذلك تجتمع الأدلة وتتَّفق ولا تختلف، ويشهد لذلك: الإجماعُ على صِحَّة الوقف والعِتق قبل القبض، لكونهما من التصرفات التي لا عوض فيها.

وأجود تعليلٍ للنهي عن البيع قبل القبض هو إفضاء التصرُّف إلى الرِّبا، ووجهُهُ: أنه إذا باع المشتري قبل القبض، وتأخَّر المبيع في يد البائع يكون قد باع دراهم بدراهم متفاضلة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: «دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ»(٥)، وبيَّن ذلك فيما أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما سأله طاوس: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجَأٌ؟(٦) قال الشوكاني: «وذلك لأنه إذا اشترى طعامًا بمائة دينار ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام، ثمَّ باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين مثلاً فكأنه اشترى بذهبه ذهبًا أكثر منه، ولا يخفى أنَّ مثل هذه العِلة لا تنطبق على ما كان من التصرفات بغير عوض.. لأنَّ الصحابة أعرف بمقاصد الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم»(٧).

هذا، وإن كان مذهب بعض أهل العلم عدم اشتراط الإيواء إلى الرحال -كما ذكره ابن حجر- بل يكفي عندهم- فيه القبض؛ لأنَّ الحديث خرج مخرج الغالب الأعمِّ فلا مفهومَ له، إلاَّ أنَّ هذا القولَ يخالف ظاهرَ الحديث الذي يدلُّ على أنه لا يكفي مجرَّد القبض بل لا بُدَّ من تحويله إلى المكان الخاصِّ به، وتدلُّ عليه الرواية الأخرى: «حَتَّى يُحَوِّلُوهُ»(٨)، وكذلك رواية ابن عمر: «حَتَّى يَنْقُلُوهُ»(٩)، والأحوط التمسُّك بهذه النصوص الصريحة لمكان التعليل السابق.

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٧ ربيع الثاني ١٤٢٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٣/ ٠٤/ ٢٠٠٨م


(١) أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الإجارة، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفي: (٣٤٩٩)، والحاكم في «المستدرك»: (٢٢٧١)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (١٠٨٣٢)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والحديث صحَّحه ابن الملقَِّن في «البدر المنير» (٦/ ٥٥٩).

(٢) أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك:(٢٠٢٨)، ومسلم في «صحيحه» كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض: (٣٨٣٨)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(٣) أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب البيوع، باب إذا اشترى شيئا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا...(٢٠٠٩)، وابن حبان في «صحيحه»: (٧٠٧٣)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(٤) أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب المساقاة، باب بيع البعير واستثناء ركوبه: (٤٩٨)، وأبو داود في «سننه» كتاب الإجارة، باب في شرط في بيع: (٣٥٠٥)، والنسائي في «سننه» كتاب البيوع، باب البيع يكون فيه الشرط فيصح البيع والشرط: (٤٦٣٧)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(٥) أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة: (٢٠٢٥)، وأحمد في «مسنده»: (٢٢٧٥)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(٦) أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب البيوع،  باب بطلان بيع المبيع قبل القبض: (٣٨٣٩)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(٧) «نيل الأوطار» للشوكاني: (٦/ ٢٩٨).

(٨) أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب البيوع،  باب بطلان بيع المبيع قبل القبض: (٣٨٤٦)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(٩) أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق: (٢٠١٧)، وأبو داود في «سننه» كتاب الإجارة، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفي: (٣٤٩٤)، والنسائي في «سننه» كتاب البيوع، باب بيع ما يشترى من الطعام جزافا قبل أن ينقل: (٤٦٠٧)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)