الفتوى رقم: ٩٧٨

الصنـف: فتاوى الحج - أحكام الحج

في مقدار الوقوف بعرفة

السؤال:

ما هو المقدارُ الذي يتحقَّق به الوقوفُ بعرفة؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:

فالأُمَّةُ مُجْمِعةٌ على أنَّ الحجَّ لا يتمُّ صحيحًا إلَّا بالوقوف بعرفةَ، ودليلُ ركنيَّته قولُه صلى الله عليه وسلم: «الحَجُّ عَرَفَةُ»(١)، فمَنْ أدْركَ عرفةَ فقَدْ أَدرَكَ الحجَّ، ويبدَأُ وقتُ الوقوف ـ عند الجمهور ـ مِنْ زوال الشمس يومَ عرفةَ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتَى الموقفَ بعد الزوال(٢)، وكذلكَ فَعلَ الخلفاءُ الراشدون ومَنْ بعدهم، وإلى هذا القول ذَهَب الأئمَّةُ الثلاثة: أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ وهو اختيارُ ابنِ تيمية؛ وخالفَ في ذلك الحنابلةُ، فإنَّ بدايةَ وقت الوقوف ـ عندهم ـ مِنْ طلوع الفجر يومَ عرفة(٣).

هذا، ويمتدُّ وقتُ الوقوف ـ عند الجميع اتِّفاقًا ـ إلى طلوع الفجر يومَ النحر (أي: يوم العيد)، لقوله صلى الله عليه وسلم لنَفَرٍ مِنْ أهل نجدٍ: «الحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»(٤)، وفي روايةٍ: «الحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الحَجَّ»(٥)، قال ابنُ قدامة رحمه الله: «لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أنَّ آخِرَ الوقت: طلوعُ فجرِ يومِ النحر»(٦).

فمَنْ وَقَف بعرفةَ نهارًا وجَبَ عليه البقاءُ إلى غروب الشمس لفعله صلى الله عليه وسلم كما وصَفَه جابرُ بنُ عبد الله رضي الله عنهما قال: «فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ القُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم»(٧)، فمَنْ فعَلَ ذلك فقَدِ اتَّفق العلماءُ على صحَّةِ فعلِه وتمامِ حجِّه؛ لأنه جَمَعَ بين الليل والنهار على نحوِ فعلِه صلى الله عليه وسلم.

ومَنْ وقفَ نهارًا بعرفةَ بعد الزوال ودَفَع قبل الغروب ثمَّ عاد نهارًا قبل غروب الشمس فلا شيءَ عليه، وحجُّه صحيحٌ؛ لأنه أتى بالواجب.

أمَّا إِنْ دَفَعَ قبل الغروب بعد وقوفه نهارًا بعرفة ولم يَعُدْ إليها حتَّى طلَعَ الفجرُ يومَ النحر فقَدْ خالفَ فِعْلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسُنَّتَه، لكنَّ حجَّه ـ على أرجح أقوال العلماء ـ صحيحٌ وليس عليه دمٌ؛ لحديثِ عروةَ بنِ مُضَرِّسٍ الطَّائيِّ، قال: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِالمَوْقِفِ يَعْنِي: بِجَمْعٍ، قُلْتُ: «جِئْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ، أَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاللهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ(٨) إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟» فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَأَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ»»(٩)، ولا شكَّ أنَّ تمامَ الشَّيءِ لا يحتاجُ إلى جبر الدم.

ومِنْ بابٍ أَوْلى في صحَّة الحجِّ وتمامِه إِنْ وَقَف نهارًا بعرفةَ ودَفَعَ قبل الغروب وعاد إليها بعد الغروب أو قبلَه.

أمَّا إِنْ وَقَفَ ليلًا دون النهار فحجُّه صحيحٌ ـ أيضًا ـ ولا شيءَ عليه، وهو مذهبُ جمهور العلماء، خلافًا لمالكٍ الذي أَوجبَ عليه الدمَ، ومذهبُ الجمهور أقوى لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»(١٠)، وقد تقدَّم أنَّ لفظَ «التمام» ـ في الحديث ـ يدلُّ على عدم الحاجة إلى جبرٍ بدمٍ.

أمَّا إذا كان وقوفُه بعرفةَ قبل الزوال ثمَّ دفَعَ منها ولم يَعُدْ إليها حتَّى طَلَع فجرُ يوم النحر فلا يصحُّ حجُّه عند جمهور العلماء لعدم وقوعه في وقته المحدَّد شرعًا، خلافًا للحنابلة؛ لأنَّ بدايةَ وقت الوقوف ـ عندهم ـ مِنْ فجرِ يومِ عرفةَ فيصحُّ حجُّه، ويُوجِبون عليه دمًا؛ ومذهبُ الجمهور أقوى لفعلِه صلى الله عليه وسلم ـ كما تقدَّم ذِكرُه ـ والعملُ به أحوطُ.

أَمَّا إذا طلَعَ فجرُ يوم النحر قبل أَنْ يقف بعرفةَ فقد فاتَهُ الحجُّ قولًا واحدًا لأهل العلم لا يختلفون فيه.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

 

الجزائر في: ٢٢ المحرم ١٤٣٠ﻫ

الموافق ﻟ: ١٩ جانفي ٢٠٠٩م

 



(١) أخرجه أبو داود في «المناسك» بابُ مَنْ لم يدرك عَرَفة (١٩٤٩)، والترمذيُّ في «الحجِّ» بابُ ما جاء فيمَنْ أَدرَك الإمامَ بجَمْعٍ فقَدْ أَدركَ الحجَّ (٨٨٩)، والنسائيُّ في «مناسك الحجِّ» بابُ فرضِ الوقوف بعَرَفة (٣٠١٦) وباب فيمَنْ لم يُدرِك صلاةَ الصبح مع الإمام بالمُزدلِفة (٣٠٤٤)، وابنُ ماجه في «المناسك» بابُ مَنْ أتى عَرَفةَ قبل الفجر ليلةَ جَمْعٍ (٣٠١٥)، مِنْ حديثِ عبد الرحمن بنِ يعمر الدِّيليِّ رضي الله عنه. والحديث صحَّحه ابنُ الملقِّن في «البدر المنير» (٦/ ٢٣٠)، والألبانيُّ في «الإرواء» (٤/ ٢٥٦).

(٢) كما في حديثِ جابرٍ رضي الله عنه الطويل، الذي أخرجه مسلمٌ في «الحجِّ» (١٢١٨) مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما الطويل.

(٣) انظر: «المغني» لابن قدامة (٣/ ٤١٥).

(٤) أخرجه أبو داود في «المناسك» بابُ مَنْ لم يدرك عَرَفة (١٩٤٩)، والترمذيُّ في «الحجِّ» بابُ ما جاء فيمَنْ أَدرَك الإمامَ بجَمْعٍ فقَدْ أَدركَ الحجَّ (٨٨٩)، والنسائيُّ في «مناسك الحجِّ» بابُ فرضِ الوقوف بعَرَفة (٣٠١٦) وباب فيمَنْ لم يُدرِك صلاةَ الصبح مع الإمام بالمُزدلِفة (٣٠٤٤)، وابنُ ماجه في «المناسك» بابُ مَنْ أتى عَرَفةَ قبل الفجر ليلةَ جَمْعٍ (٣٠١٥)، مِنْ حديثِ عبد الرحمن بنِ يعمر الدِّيليِّ رضي الله عنه، وهذا اللَّفظ لابنِ ماجه وموافقٌ لِلَفظِ أبي داود. والحديث صحَّحه ابنُ الملقِّن في «البدر المنير» (٦/ ٢٣٠)، والألبانيُّ في «الإرواء» (٤/ ٢٥٦).

(٥) أخرجه أبو داود في «المناسك» بابُ مَنْ لم يدرك عَرَفة (١٩٤٩)، والترمذيُّ في «الحجِّ» بابُ ما جاء فيمَنْ أَدرَك الإمامَ بجَمْعٍ فقَدْ أَدركَ الحجَّ (٨٨٩)، والنسائيُّ في «مناسك الحجِّ» بابُ فرضِ الوقوف بعَرَفة (٣٠١٦) وباب فيمَنْ لم يُدرِك صلاةَ الصبح مع الإمام بالمُزدلِفة (٣٠٤٤)، وابنُ ماجه في «المناسك» بابُ مَنْ أتى عَرَفةَ قبل الفجر ليلةَ جَمْعٍ (٣٠١٥)، مِنْ حديثِ عبد الرحمن بنِ يعمر الدِّيليِّ رضي الله عنه، وهذا اللَّفظ للتِّرمذي وموافقٌ لِلَفظٍ للنَّسائيِّ. والحديث صحَّحه ابنُ الملقِّن في «البدر المنير» (٦/ ٢٣٠)، والألبانيُّ في «الإرواء» (٤/ ٢٥٦).»).

(٦) «المغني» لابن قدامة (٣/ ٤١٥).

(٧) أخرجه مسلمٌ في «الحجِّ» (١٢١٨) مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما الطويل.

(٨) كذا في بعض النُّسَخ بالجيم المُعجَمة، وفي مُعظَمها حبلٌ بالحاء المُهمَلة، قال النوويُّ رحمه الله في «شرح مسلم» (٨/ ١٨٧): «الحبالُ هنا بالحاء المُهمَلة المكسورة: جمعُ حبلٍ، وهو التلُّ اللطيف مِنَ الرمل الضخم».

(٩) أخرجه أبو داود في «المناسك» بابُ مَنْ لم يُدرِك عَرَفةَ (١٩٥٠)، والترمذيُّ في «الحجِّ» بابُ ما جاء فيمَنْ أَدرَك الإمامَ بجَمعٍ فقَدْ أَدرَك الحجَّ (٨٩١)، والنسائيُّ في «مناسك الحجِّ» بابٌ فيمَنْ لم يُدرِك صلاةَ الصبح مع الإمام بالمزدلفة (٣٠٣٩ ـ ٣٠٤٣)، مِنْ حديثِ عروة بنِ مُضرِّسٍ الطائيِّ رضي الله عنه. والحديث صحَّحه ابنُ الملقِّن في «البدر المنير» (٦/ ٢٤٠)، والدارقطنيُّ والحاكم وأبو بكرِ بنُ العربيِّ كما في «التلخيص الحبير» لابن حجرٍ (٢/ ٥٢٠)، والألبانيُّ في «الإرواء» (٤/ ٢٥٩)، والوادعيُّ في «الصحيح المسند» (٩٤٠).

(١٠) تتمَّةُ روايةِ ابنِ ماجه لحديثِ: «الحَجُّ عَرَفَةُ»، أخرجه أبو داود في «المناسك» بابُ مَنْ لم يدرك عَرَفة (١٩٤٩)، والترمذيُّ في «الحجِّ» بابُ ما جاء فيمَنْ أَدرَك الإمامَ بجَمْعٍ فقَدْ أَدركَ الحجَّ (٨٨٩)، والنسائيُّ في «مناسك الحجِّ» بابُ فرضِ الوقوف بعَرَفة (٣٠١٦) وباب فيمَنْ لم يُدرِك صلاةَ الصبح مع الإمام بالمُزدلِفة (٣٠٤٤)، وابنُ ماجه في «المناسك» بابُ مَنْ أتى عَرَفةَ قبل الفجر ليلةَ جَمْعٍ (٣٠١٥)، مِنْ حديثِ عبد الرحمن بنِ يعمر الدِّيليِّ رضي الله عنه. والحديث صحَّحه ابنُ الملقِّن في «البدر المنير» (٦/ ٢٣٠)، والألبانيُّ في «الإرواء» (٤/ ٢٥٦).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)