الفتوى رقم: ١٠٣٤

الصنف: فتاوى القرآن وعلومه

في حكم تجويد الاستعاذة

السؤال:

نحن مجموعةٌ مِنَ الطلبة نتلقَّى القرآنَ مشافَهةً بطريقة التحقيق مِنْ شيخٍ مقرئٍ مُجازٍ، يَشترِطُ علينا ـ عند بدء عَرْضِ القرآن ـ تجويدَ الاستعاذة، وعند التلقين نُردِّدُ بعده الآياتِ جميعًا بصوتٍ واحدٍ؛ فهل الاستعاذةُ مِنَ القرآن؟ وهل تُجوَّدُ مِثْلَ آيات القرآن؟ وهل الترديدُ الجماعيُّ جائزٌ شرعًا؟ جزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فالمعلومُ أنَّ التعبُّد بتحسين الصوتِ وترتيلِه إنما يكون لخصوص القرآن الكريم دون ما سِواهُ؛ لقوله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا ٤[المزَّمِّل]، وقولِه تعالى: ﴿وَقُرۡءَانٗا فَرَقۡنَٰهُ لِتَقۡرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكۡثٖ وَنَزَّلۡنَٰهُ تَنزِيلٗا ١٠٦[الإسراء]، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ»(١)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ»(٢).

وممَّا لا يخفى أنَّ الاستعاذةَ شُرِعَتْ لابتداءِ القرآن صيانةً للقراءة عن وساوسِ الشيطان؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ ٩٨[النحل]، قال ابنُ حزمٍ ـ رحمه الله ـ: «قد صحَّ إجماعُ جميعِ قُرَّاءِ أهل الإسلام ـ جيلًا بعد جيلٍ ـ على الابتداء بالتعوُّذ مُتَّصِلًا بالقراءة قبل الأخذ في القراءة»(٣)، وليسَتِ الاستعاذةُ بآيةٍ مِنَ القرآن الكريم، وكُلُّ ما ليس منه لا يأخذُ حُكْمَه ـ سواءٌ مِنْ جهةِ التعبُّد أو الاستدلال ـ إلَّا بدليلٍ، «ويُسِرُّ الاستعاذةَ في الصلاة ولا يجهر بها»، قال ابنُ قدامة ـ رحمه الله ـ: «لا أعلم فيه خلافًا»(٤).

أمَّا ترديدُ القراءةِ جماعيًّا في حصَّة التلقين بصوتٍ واحدٍ على وجه التعبُّد فهو أمرٌ مُحْدَثٌ لم يعرفه السلفُ الصالح، وحكمُه أنه مردودٌ على فاعلِه لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»(٥)، وفي روايةٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(٦)، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ»(٧)، ويستوي ـ في عبادةِ قراءةِ القرآن ـ التلاوةُ والحفظُ؛ لابتغاءِ الأجر في كُلٍّ منهما، والعبادةُ تحتاج إلى دليلٍ خاصٍّ يبيِّن مشروعيَّتَها، ثمَّ إنَّ القراءة الجماعية ينتفي فيها الاستماعُ والإصغاءُ المأمورُ بهما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ٢٠٤[الأعراف].

هذا، ويجوز الاجتماعُ على قراءة القرآن، كُلُّ واحدٍ بانفراده أو بطريق الإدارة؛ فإنَّ ميزتها أنها تُساعِدُ على تعلُّم القرآن وإتقانِ القراءة، مع خُلُوِّ هذه الطريقةِ مِنَ الإخلال بالاستماع المأمورِ به، وتجرُّدِها مِنَ التشويش واختلاطِ الأصوات، وعلى هذا المعنى يُحْمَلُ حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»(٨)، وحديثُ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه عن معاوية رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خَرَجَ على حَلْقةٍ مِنْ أصحابه فقال: «مَا أَجْلَسَكُمْ؟» قَالُوا: «جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا»، قَالَ: «آللهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟» قَالُوا: «وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ»، قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِكُمُ المَلَائِكَةَ»(٩). قال الطرطوشيُّ ـ رحمه الله ـ: «وقراءةُ القرآنِ جماعةً ضِمْنَ البِدَعِ، غيرَ أنه أجازَهُ بالإدارة، أي: أَنْ يقرأ هذا ثمَّ يقرأ الذي بعده»(١٠).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٣٠ مِنْ ذي الحجَّة ١٤٣٠ﻫ
الموافق ﻟ: ١٧ ديسمبر ٢٠٠٩م

 


(١) أخرجه أبو داود في «الصلاة» بابُ استحبابِ الترتيل في القراءة (١٤٦٨)، والنسائيُّ في «الصلاة» بابُ تزيينِ القرآن بالصوت (١٠١٥)، وابنُ ماجه في «إقامة الصلاة والسنَّة فيها» بابٌ في حُسْنِ الصوت بالقرآن (١٣٤٢)، مِنْ حديثِ البراء بنِ عازبٍ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٢/ ٤٠١) رقم: (٧٧١).

(٢) أخرجه البخاريُّ في «التوحيد» بابُ قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «المَاهِرُ بِالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ» (٧٥٤٤)، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين وقصرِها» (٧٩٢)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(٣) «المحلَّى» لابن حزم (٣/ ٢٥٠).

(٤) «المغني» لابن قدامة (١/ ٤٧٦).

(٥) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه ـ بهذا اللفظ ـ مسلمٌ في «الأقضية» (١٧١٨)، والبخاريُّ في «الصلح» باب: إذا اصطلحوا على صُلْحِ جَوْرٍ فالصلحُ مردودٌ (٢٦٩٧) بلفظ: «... مَا لَيْسَ فِيهِ...»، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

(٦) أخرجه مسلمٌ في «الأقضية» (١٧١٨) مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

(٧) أخرجه أبو داود في «السنَّة» بابٌ في لزوم السنَّة (٤٦٠٧)، والترمذيُّ في «العلم» بابُ ما جاء في الأخذ بالسنَّة واجتنابِ البِدَع (٢٦٧٦)، وابنُ ماجه في «المقدِّمة» بابُ اتِّباعِ سنَّةِ الخلفاء الراشدين المهديِّين (٤٢)، مِنْ حديثِ العرباض بنِ سارية رضي الله عنه. وحسَّنه البغويُّ في «شرح السنَّة» (١/ ١٨١)، والوادعيُّ في «الصحيح المسند» (٩٣٨)، وصحَّحه ابنُ الملقِّن في «البدر المنير» (٩/ ٥٨٢)، وابنُ حجرٍ في «موافقة الخُبْر الخَبَر» (١/ ١٣٦)، والألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٢٥٤٩) وفي «السلسلة الصحيحة» (٢٧٣٥)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه ﻟ: «مسند أحمد» (٤/ ١٢٦).

(٨) أخرجه مسلمٌ في «الذِّكْر والدعاء والتوبة والاستغفار» (٢٦٩٩) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(٩) أخرجه مسلمٌ في «الذِّكْر والدعاء والتوبة والاستغفار» (٢٧٠١) مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ عن معاوية رضي الله عنهما.

(١٠) «الحوادث والبِدَع» للطرطوشي (١١٧).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)