الفتوى رقم: ٧٢٢

الصنف: فتاوى الطهارة - التيمُّم

في حكم استصحاب التيمُّم لمصلٍّ
عَلِم بوجود الماء أثناء الصلاة

السؤال:

ما حكمُ مَنْ شَرَعَ في الصلاة بالتيمُّم لانعدام الماء، ثمَّ عَلِمَ بوجوده أثناءَ الصلاة؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فقَدِ اتَّفق العلماءُ على أنَّ المتيمِّم إذا وَجَد الماءَ قبل الصلاة بَطَلَ تيمُّمُه ووَجَب عليه استعمالُ الماء، وكذلك إذا لم يَجِدِ الماءَ قبل الصلاة جاز له الدخولُ فيها، وكانَتْ صلاتُه صحيحةً إذا أتَمَّها ولم يجد الماءَ خلالها.

أمَّا مَنْ صَلَّى بالتيمُّم ثُمَّ وَجَدَ الماءَ بعد الفراغ مِنَ الصلاة وقبل خروج الوقت فلا إعادةَ عليه على أظهرِ أقوال أهل العلم، وبه قال أبو حنيفة ومالكٌ وداودُ وأصحابُه وابنُ خزيمة وابنُ تيمية، واختاره الشوكانيُّ؛ لحديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه قال: «خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا المَاءَ فِي الوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَالوُضُوءَ وَلَمْ يُعِدِ الآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: «أَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ»، وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ: «لَكَ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ»»(١)، قال الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ: «لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يأمره بالإعادة، ولو كانَتْ واجبةً لأَمَرَه بها، ولأنَّه أتى بما أُمِرَ به وقَدَرَ عليه؛ فأَشْبَهَ سائرَ مَنْ يصلِّي بالتيمُّم»(٢).

قلت: ولعلَّ الثانيَ أخطأ السُّنَّةَ مِنْ ناحيةِ تَعَيُّنِها في الأوَّل بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَصَبْتَ السُّنَّةَ»؛ إذ الصلاةُ في اليوم مَرَّتين منهيٌّ عنها، كما صَحَّ مرفوعًا: «لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ»(٣)، وإنَّما حَصَل على الأجر مرَّتين على الصلاة أَوَّلًا، وعلى إعادتها بالاجتهاد ثانيًا.

ولكِنِ اختلفوا في حكمِ المتيمِّم إذا وَجَدَ الماءَ أثناءَ الصلاة: فمذهبُ مالكٍ والشافعيِّ عدمُ البطلان مع صِحَّةِ الصلاة(٤)، ورجَّحه ابنُ القيِّم(٥)، بخلاف أبي حنيفةَ وأحمدَ في المشهور عنه أنَّه ينتقض تيمُّمُه وتَبْطُلُ صلاتُه، ويجب عليه استئنافُ الطهارة المائية والصلاة(٦).

ومبنى هذه المسألةِ على القول ﺑ «استصحاب حكم الإجماع في محلِّ النِّزاع»(٧)، ومبناها ـ أيضًا ـ على ما: «إذا أجمعوا على حكمٍ، ثمَّ حَدَثَ في المُجْمَع عليه صفةٌ: فهل يُستدَلُّ بالإجماع فيه مِنْ قَبْلِ الصفة عليه بعد الصفة، أم للاجتهاد فيه مجالٌ بعد حدوث الصفة؟».

وغايةُ ما يَستدِلُّ به المجوِّزون لهذا الاستصحاب: أنَّ الإجماع قد انعقد على صِحَّةِ صلاته حالةَ الشروع، والدليلُ الدالُّ على صِحَّة الشروع دالٌّ على دوامه إلَّا أَنْ يقوم دليلُ الانقطاع.

وهذا مدفوعٌ بأنَّ الإجماع إنَّما دلَّ على الدوام فيها حالَ عدمِ الماء، أمَّا مع وجوده فإنَّ الإجماع مُنتفٍ؛ إذ لا إجماعَ مع الاختلاف؛ فيَتعذَّرُ استصحابُه عند انتفائه لاستحالته؛ فحكمُه كالعقل الدالِّ على البراءة الأصلية بشرطِ عدمِ دليلِ السمع؛ فلا يبقى له دلالةٌ مع وجود دليل السمع.

ولأنَّه مِنْ جهةٍ أخرى يُؤدِّي القولُ باستصحابِ حكمِ الإجماع في مَحَلِّ الخلاف إلى تَكافُؤِ الأدلَّة، بحيث يَحتجُّ بها كُلُّ خصمٍ على ما يُوافِقُ مذهبَه: كأَنْ يَستدِلَّ على صِحَّةِ الصلاة بعد رؤية الماء باستصحابِ الإجماع على صِحَّتها قبل رؤيته، ويَستدِلَّ الآخَرُ بالإجماع على بطلانها عند رؤية الماء قبل الصلاة، فيَستصحِبُه إلى أثناء الصلاة فتكونُ باطلةً؛ إذ كُلُّ دليلٍ يُضادُّه نفسُ الخلاف لا يمكن استصحابُه معه.

وعليه، فالمذهبُ الأقوى أنَّه لا يُستصحَبُ الإجماعُ في محلِّ الخلاف، وبه قال أكثرُ أهل العلم.

وعليه، فإنَّ التيمُّم يَبْطُلُ فلا يَستمِرُّ في الصلاة حالَ حضور الماء؛ بل لا بُدَّ مِنَ الطهارة المائية، ثمَّ إنَّ التيمُّمَ ضرورةٌ؛ فبَطَلَتْ بزوال الضرورة، كطهارة المستحاضة إذا انقطع دَمُها(٨).

ويؤيِّدُه حديثُ أبي ذرٍّ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ المُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ المَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ»(٩)؛ فالحديثُ مُطلَقٌ على وجوب الإعادة فِيمَنْ وَجَدَ الماءَ بعد الوقت، ومَنْ وَجَده قبل خروجه وحالَ الصلاة وبعدها. وتَتقيَّدُ صورةُ مَنْ وَجَدَ الماءَ في الوقت بعد الفراغ مِنَ الصلاة بحديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه المتقدِّم(١٠). ولا يُشْكِلُ ـ على الاستدلال بهذا الحديثِ ـ قولُه: «فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» على عدم وجوب المدَّعى؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ لفظِ: «خير» عدمُ الوجوب، كما قال تعالى: ﴿وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُم[آل عمران: ١١٠]؛ إذ الإيمانُ فرضٌ، وعَبَّر عنه بلفظِ: «خير» وهو أعمُّ؛ فلا مُنافاةَ بينهما.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٠ شعبان ١٤٢٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٣ أغسطس ٢٠٠٧م

 


(١) أخرجه أبو داود في «الطهارة» بابٌ في المتيمِّم يجد الماءَ بعد ما يصلِّي في الوقت (٣٣٨)، والنسائيُّ في «الغُسل والتيمُّم» باب التيمُّم لمَنْ يجد الماءَ بعد الصلاة (٤٣٣)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه. وهو في «صحيح أبي داود» للألباني (٣٦٦).

(٢) «نيل الأوطار» للشوكاني (١/ ٣٨٨).

(٣) أخرجه أبو داود في «الصلاة» باب: إذا صلَّى في جماعةٍ ثمَّ أدرك جماعةً: أيُعيد؟ (٥٧٩)، والنسائيُّ في «الإمامة» بابُ سقوطِ الصلاة عمَّنْ صلَّى مع الإمام في المسجد جماعةً (٨٦٠)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما. وهو في «صحيح أبي داود» للألباني (٥٩٢).

(٤) انظر: «الموطَّأ» لمالك (١/ ٥٥)، «الأُمَّ» للشافعي (١/ ٤٨).

(٥) انظر: «إعلام الموقِّعين» (١/ ٣٤٣).

(٦) انظر: «حاشيةَ ابنِ عابدين» (١/ ٢٥٥)، «المغني» لابن قدامة (١/ ١٩٧).

(٧) انظر المسألة في: «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (٢١)، «المستصفى» للغزَّالي (١/ ١٢٨)، «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٣٩٢ ـ ٣٩٣)، «مذكِّرة الشنقيطي» (١٦٠).

(٨) انظر: «المغني» لابن قدامة (١/ ١٩٨)، «فتح القدير» للشوكاني (١/ ٩٢).

(٩) أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب الجُنُب يتيمَّم (٣٣٢، ٣٣٣)، والترمذيُّ في «الطهارة» باب التيمُّم للجُنُب إذا لم يجد الماءَ (١٢٤)، والنسائيُّ في «الطهارة» باب الصلوات بتيمُّمٍ واحدٍ (٣٢٢)، مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ الغِفاريِّ رضي الله عنه. قال ابنُ حجرٍ في «فتح الباري» (١/ ٤٤٦): «وصحَّحه الترمذيُّ وابنُ حِبَّان والدارقطنيُّ»، وصحَّحه كذلك الألبانيُّ في «الإرواء» (١/ ١٨١) رقم: (١٥٣).

(١٠) انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (١/ ٤٠٠).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)