الفتوى رقم: ٢٣٢

الصنف: فتاوى الأسرة ـ المرأة

في حكم مصافحة المرأة العجوز

السؤال:

ما حكمُ مُصافَحةِ العجوز التي تبلغ ستِّين (٦٠) سَنَةً أو أكثر؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فلا يجوز ـ شرعًا ـ للرَّجل أَنْ يُصافِح امرأةً أجنبيَّةً لا تَحِلُّ له، سواءٌ كانَتْ شابَّةً أو عجوزًا، وسواءٌ بحائلٍ أو بغيرِ حائلٍ باستثناءِ مَحارِمِه؛ لعمومِ حديثِ مَعْقِل بنِ يسارٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: «لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ»(١)، ولم يُفرِّقِ الحديثُ بين الوصفين والحالتين؛ ويؤيِّد ذلك فعلُه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أنه لمَّا بايَعَ النساءَ لم يُبايِعهنَّ بالمُصافَحةِ كما صَنَع ذلك مع الرجال، وإنما بايَعَهنَّ بالكلام، قالَتْ عائشةُ رضي الله عنها: «وَاللهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالكَلَامِ»(٢)، وقد ثَبَت عنه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أنه قال: «إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ»(٣)، والجملة الخبرية بمعنى الإنشاء تفيد حُكمًا يَشمَله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم وسائرَ أمَّتِه.

ومِنْ جهةٍ أخرى فإنَّ التَّماسَّ بالبشرة حالَ المُصافَحةِ يحرِّك الشهوةَ بالمسِّ وهو أعظمُ مِنَ النظر؛ الأمرُ الذي يُحْدِث فتنةً إلَّا في الشيء النادر، والنادرُ مُنْتفٍ حكمُه فليس له اعتبارٌ؛ ولا يخفى أنَّ مِثْلَ هذه الفِتَنِ بأسبابها ودواعيها حذَّر منها الشرعُ كما في قوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ»(٤)، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؛ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ»(٥)؛ ويَحْرُمُ ذلك قطعًا لأسباب الفتنة وسدًّا لذريعة الشرِّ والخبث؛ جريًا على قاعدةِ: «مَا أَدَّى إِلَى حَرَامٍ فَهُوَ حَرَامٌ»؛ لأنَّ الوسائل لها حكمُ المقاصد.

أمَّا ما نُقِل عن أبي بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه أنه كان في خلافته يخرج إلى بعض القبائل التي كان مُستَرْضَعًا فيها، فكان يُصافِح العجائزَ، فقَدِ استغربه الزيلعيُّ ـ رحمه الله ـ في «نصب الراية»(٦)، وقال الحافظ ـ رحمه الله ـ في «الدراية»: «لم أَجِدْه»(٧)؛ وأمَّا ما رُوِي عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم أنه كان يُصافِح النساءَ مِنْ تحتِ الثوب فضعيفٌ لا ينتهض للاحتجاج، فضلًا عن مُعارَضتِه للأحاديث الصحيحة(٨).

هذا، وإذا كانَتْ مُصافَحةُ المرأةِ الأجنبيَّة لا تجوز فتقبيلُها يَحْرُم مِنْ بابٍ أَوْلى اتِّفاقًا؛ لِمَا أخرجه أبو داود وغيرُه مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لِكُلِّ ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا.. وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ فَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ فَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ، وَالْفَمُ يَزْنِي فَزِنَاهُ الْقُبَلُ»(٩)؛ أمَّا إلقاءُ السلام عليهنَّ إذا أُمِنَتِ الفتنةُ ودَعَتِ الحاجةُ فالأصلُ فيه الجوازُ؛ لحديثِ أسماءَ بنتِ يزيدَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم مَرَّ فِي المَسْجِدِ يَوْمًا وَعُصْبَةٌ مِنَ النِّسَاءِ قُعُودٌ، فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ»(١٠)، ولحديثِ أمِّ هانئٍ رضي الله عنها قالت: «ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم عَامَ الفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ»، فَقُلْتُ: «أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ»، فَقَالَ: «مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ»»(١١)، ولحديثِ سهل بنِ سعدٍ رضي الله عنهما قال: «كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ.. فَإِذَا صَلَّيْنَا الجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا، وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا..»(١٢)، ولحديثِ عائشة رضي الله عنها قالت: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: «يَا عَائِشَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ»، قَالَتْ: قُلْتُ: «وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، تَرَى مَا لَا نَرَى»»(١٣)، وقد كان جبريلُ عليه السلام يأتي النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم على صورةِ رَجلٍ، وقد بوَّب البخاريُّ لهذا الحديثِ وما قبله: «باب تسليم الرجال على النساء، والنساءِ على الرجال»، قال الحافظ ـ رحمه الله ـ في الشرح: «والمرادُ بجوازه: أَنْ يكون عند أمنِ الفتنة»(١٤).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

 



(١) أخرجه الطبرانيُّ في «الكبير» (٢٠/ ٢١١ ـ ٢١٢) مِنْ حديثِ مَعْقِل بنِ يسارٍ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٤٤٧) رقم: (٢٢٦).

(٢) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الطلاق» باب: إذا أسلمَتِ المُشْرِكةُ أو النصرانيَّة تحت الذمِّيِّ أو الحربيِّ (٥٢٨٨)، ومسلمٌ في «الإمارة» (١٨٦٦)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

(٣) أخرجه الترمذيُّ في «السِّير» بابُ ما جاء في بيعة النساء (١٥٩٧)، والنسائيُّ في «البيعة» بابُ بيعةِ النساء (٤١٨١)، وابنُ ماجه في «الجهاد» بابُ بيعةِ النساء (٢٨٧٤)، مِنْ حديثِ أُمَيْمة بنتِ رُقَيقة رضي الله عنها. وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٢/ ٦٣) رقم: (٥٢٩).

(٤) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «النكاح» بابُ ما يُتَّقى مِنْ شؤم المرأة (٥٠٩٦)، ومسلمٌ في «الرِّقاق» (٢٧٤٠)، مِنْ حديثِ أسامة بنِ زيدٍ رضي الله عنهما؛ وأخرجه مسلمٌ ـ أيضًا ـ (٢٧٤١) مِنْ حديثِ سعيد بنِ زيدٍ رضي الله عنه وأسامة بنِ زيدٍ رضي الله عنهما.

(٥) أخرجه مسلمٌ في «الرِّقاق» (٢٧٤٢) مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه.

(٦) انظر: «نصب الراية» للزيلعي (٤/ ٢٤٠).

(٧) «الدراية» لابن حجر (٢/ ٢٢٥).

(٨) انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (٢/ ٦٤).

(٩) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الاستئذان» بابُ زِنَا الجوارح دون الفَرْج (٦٢٤٣)، ومسلمٌ في «القَدَر» (٢٦٥٧)، وأبو داود ـ واللفظُ له ـ في «النكاح» بابُ ما يُؤْمَر به مِنْ غضِّ البصر (٢١٥٣)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٥١٦١).

(١٠) أخرجه أبو داود في «الأدب» بابٌ في السلام على النساء (٥٢٠٤)، والترمذيُّ ـ واللفظُ له ـ في «الاستئذان» بابُ ما جاء في التسليم على النساء (٢٦٩٧)، وابنُ ماجه في «الأدب» باب السلام على الصبيان والنساء (٣٧٠١)، مِنْ حديثِ أسماء بنتِ يزيد رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ دون الإلواء باليد في «جلباب المرأة المسلمة» (١٩٤).

(١١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» باب الصلاة في الثوب الواحد مُلتحِفًا به (٣٥٧)، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين» (٣٣٦)، مِنْ حديثِ أمِّ هانئٍ رضي الله عنها.

(١٢) أخرجه البخاريُّ في «الاستئذان» بابُ تسليمِ الرجال على النساء والنساءِ على الرجال (٦٢٤٨) مِنْ حديثِ سهل بنِ سعدٍ رضي الله عنهما.

(١٣) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الاستئذان» بابُ تسليمِ الرجال على النساء والنساءِ على الرجال (٦٢٤٩)، ومسلمٌ في «فضائل الصحابة» (٢٤٤٧)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

(١٤) «فتح الباري» لابن حجر (١١/ ٣٣).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)