الفتوى رقم: ١٠٦٤

الصنـف: فتاوى المعاملات المالية - البيوع

في حكم البيع بشرط الإعفاء من الضمان

السـؤال:

أملك محلاًّ لبيعِ قطعِ غيارِ السّياراتِ، منها قطعٌ كهربائيّةٌ، وهذه في غالبِ الأحوالِ نشتريها مِنْ أصحابِ الجملةِ بدونِ ضمانٍ، وذلك لأنّ هذه القطعَ جدُّ حسّاسةٍ، حيث إنّها تتوقّف عنِ العملِ لمجرّدِ خطإٍ صغيرٍ في تركيبِها، خاصّةً إذا ركّبها ميكانيكيٌّ ليس له خبرةٌ جيّدةٌ، كذلك تتوقّف إذا وقع خللٌ في غيارٍ آخَرَ له صلةٌ به، فهل يجوز بيعُها بدونِ ضمانٍ؟ علمًا أنّ الزّبونَ يشتريها مضطرًّا ومكرهًا على مثلِ هذا البيعِ. وجزاكم اللهُ خيرًا.

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:

فإذا اشترط البائعُ على المشتري إعفاءَه مِنْ ضمانِ العيبِ وبراءتَه مِن مسئوليّتِه عما يمكن أن يظهرَ مِنْ عيوبٍ في المبيعِ، وبناءً على سلامةِ المبيعِ الظّاهرةِ قَبِلَ المشتري بهذا الشّرطِ، ثمّ ظهر فيه عيبٌ قديمٌ معتبرٌ سابقٌ للبيعِ قبل انتقالِ الملكيّةِ  إلى المشتري أو عند انتقالِها كحدٍّ أقصى، فإنْ كان البائعُ سيِّئَ النّيّةِ يعلم بالعيبِ ويُخفيه فلا يصحّ شرطُ البراءةِ مِنْ عيبٍ عَلِمَه، ويبقى الضّمانُ على عهدةِ البائعِ في ردِّ قيمةِ المبيعِ، لأنّه مدلّسٌ يدخل تحت الذّمِّ والنّهيِ في قولِه صلّى الله عليه وآلِه وسلّم: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ»(١)، وفي قولِه صلّى الله عليه وآلِه وسلّم: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا»(٢)، وعليه فلا يسقط عنه الضّمانُ إلاّ إذا أعفاه المشتري منه، وبهذا قال الجمهورُ، وهو مذهبُ مالكٍ والشّافعيِّ وروايةٌ عن أحمدَ(٣) خلافًا للأحنافِ فإنّه يصحّ البيعُ بشرطِ البراءةِ مِنْ كلِّ عيبٍ مطلقًا سواء كان البائعُ عالمًا بالعيبِ أو جاهلاً به(٤).

أمّا إذا كان البائعُ حَسَنَ النّيّةِ أي لا يعلم بالعيبِ فيصحّ عند مالكٍ وفي رواية عن أحمدَ، وهو قولُ الشّافعيِّ في الحيوانِ خاصّةً، لعدمِ ارتكابِه الذّمَّ، وتمهّد عذرُه في ذلك، وبهذا قضى عثمانُ رضي اللهُ عنه لِمَا روى مالكٌ وغيرُه أَنَّ «عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ بَاعَ غُلاَمًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: «بِالْغُلاَمِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لِي»، فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: «بَاعَنِي عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ لَمْ يُسَمِّهِ»، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ: «بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ»، فَقَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ، فَأَبَى عَبْدُ اللهِ أَنْ يَحْلِفَ وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَصَحَّ عِنْدَهُ فَبَاعَهُ عَبْدُ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ»(٥)

والصّحيحُ المختارُ أنّه لا تبرأ ذمّةُ البائعِ مِنْ ضمانِ العيبِ مطلقًا وأنّ شرْطَه يقع لاغيًا(٦)، سواء عَلِمَ به البائعُ أو لم يعلمْ، لأنّ خيارَ العيبِ ثبت شرعًا بمطلقِ العقدِ فلَمْ يسقطْ بشرطِ الإسقاطِ، ولأنّ في شرطِ البراءةِ مِنْ كلِّ عيبٍ خطرًا وغررًا وهما منتفيان شرعًا، وقد صحّ نهيُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم عن الغررِ(٧)، وعليه فلا يصحّ شرطُ البراءةِ مِنَ العيوبِ، وشرطُه لا يُفْسِدُ البيعَ، ويبقى للمشتري حقُّ الخيارِ بين الإمساكِ والرّدِّ، أمّا قضاءُ عثمانَ رضي اللهُ عنه فقدْ خالفه ابنُ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما، وقولُ الصّحابيِّ المخالَفِ لا يبقى حُجّةً، وخاصّةً إذا عارضتْه سنّةٌ ثابتةٌ تنهى عن المخاطرةِ والغررِ.

وتقريرُ هذا الجوابِ إنّما هو في العيبِ الخفيِّ أو غيرِ المعلومِ مِنَ المشتري، أمّا العيبُ الظّاهرُ وقْتَ انتقالِ الملكيّةِ فلا يخضع لضمانِ البائعِ إذا لم يَعْتَرِضْ عليه المشتري وقْتَ شرائِه له، ومِنْ بابٍ أَوْلَى إذا كان المشتري يعلم بالعيبِ ورَضِيَه، واتّفق مع البائعِ على إسقاطِ الضّمانِ عليه، أو وقع العيبُ عند المشتري، فإنّ البائعَ -في هذه الصُّوَرِ- يُعفى مِنْ مسئوليّةِ ردِّ قيمةِ المبيعِ.

علمًا أنّ ضابطَ العيبِ المعتبَرِ هو ما تنقص بسببِه قيمةُ المبيعِ عادةً أو تنقصُ به عينُه، ويرجع تقديرُه إلى عرفِ التّجارِ المعتبَرين.

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٥ شعبان ١٤٣١ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٧ يولـيو ٢٠١٠م


(١) أخرجه ابن ماجه في «التّجارات»، باب من باع عيبا فليبيّنه (٢٢٤٦)، والحاكم في «المستدرك» (٢/ ١٠)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألبانيّ في «الإرواء» (٥/ ١٦٥).

(٢) أخرجه التّرمذيّ في «البيوع» باب ما جاء في كراهية الغشّ في البيوع (١٣١٥)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في «الإيمان» رقم (١٠٢) بلفظ: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي».

(٣) انظر: «المغني» لابن قدامة: (٤/ ١٩٧)، «حاشية الدّسوقيّ»: (٤/ ١٢٣)، «القوانين الفقهيّة» لابن جُزَيّ: (٢٥٦)، «مغني المحتاج» للشّربينيّ: (٢/ ٥٣)، «شرح الزّركشيّ على مختصر الخرقيّ»: (٣/ ٥٩٧).

(٤) انظر: «بدائع الصّنائع» للكاسانيّ: (٥/ ٢٥٦).

(٥) أخرجه مالك في «الموطّإ» كتاب «البيوع» (٢/ ٦١٣) باب العيب في الرّقيق، والبيهقيّ في «السّنن الكبرى» (٥/ ٣٢٨)، والأثر صحّحه الألبانيّ في «الإرواء» (٨/ ٢٦٣).

(٦) انظر: «المغني» لابن قدامة: (٤/ ١٩٧).

(٧) أخرجه مسلم في «البيوع» (٢/ ٧٠٧) رقم (١٥١٣)، وأحمد في «مسنده» (٢/ ٢٥٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)