الفتوى رقم: ٣٥١

الصنف: فتاوى متنوِّعة - الآداب

في حكم أَخْذِ الوالد مِنْ مالِ ولده

السؤال:

رجلٌ يأخذ منه والدُه كُلَّ مدخوله الشهريِّ، وهو يريد استعمالَ أمواله في واجباتٍ أخرى منها:

١ ـ القيام بفريضة الحجِّ.

٢ ـ تحصين فَرْجِه بالزواج.

٣ ـ الدعوة إلى الله تعالى.

وقد تَعارَضَ هذا مع طاعته لوالده، وذلك بإعطائه جميعَ مالِه، فكيف يُوفِّقُ بين هذه الواجبات؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فليس للوالد أَنْ يأخذ مِنْ مالِ ابنه كما يشاء مطلقًا، وإنما يُباحُ له الأخذُ مِنْ مالِهِ بقَدْرِ حاجته إليه ليس إلَّا؛ ذلك لأنَّ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»(١) ليس على إطلاقه، بل مُقيَّدٌ بحديثِ عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوْلَادَكُمْ هِبَةُ اللهِ لَكُمْ: ﴿يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثٗا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ ٤٩[الشورى]؛ فَهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لَكُمْ إِذَا احْتَجْتُمْ إِلَيْهَا»(٢)، غير أنه إِنْ كان يأخذ منك المالَ لحاجتك لتوسيع البيت ـ مثلًا ـ ليحقِّق لك الإسكانَ المشروط في الزواج عملًا بقوله تعالى: ﴿أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ[الطلاق: ٦]، فهذا لا لومَ فيه لأنه في مصلحتك، فإِنْ لم يكن كذلك فلِلِابن أَنْ يُعينَ أباهُ في حدود القدرة مِنْ غير الإضرار بنفسه.

أمَّا القيام بفريضة الحجِّ فيمكن أَنْ تتأخَّرَ لعدَمِ تَحقُّقِ شرط الاستطاعة المالية، فضلًا عن أنه إذا تحقَّقَتْ شروطُها كان وجوبُها مُعارَضًا بوجوب الزواج لمَنْ خَشِيَ على نَفْسِه الوقوعَ في الحرام ويَعلمُ عدَمَ ظُلْمِ زوجته إذا تَزَوَّجَ، وتقديمُ آكديةِ وجوبِ الزواج على وجوب الحجِّ؛ لأنَّه يترتَّبُ على تقديم الحجِّ جلبُ مصلحةٍ، وعلى تأخير الزواجِ ترتُّبُ مفسدةٍ، و«دَفْعُ المَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَحْقِيقِ المَصَالِحِ» كما هو مُقرَّرٌ في القاعدة الفقهية المُنْبَثِقةِ مِنْ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ وعُبادة رضي الله عنهم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»(٣).

أمَّا عن وجوب الدعوة إلى الله فلا يصحُّ إلَّا بعد طلبِ العلم وتحصيلِه على الوجه المَرْضيِّ والعمل به؛ ذلك لأنَّ الذي يدعو بغير علمٍ ولا عملٍ يضرُّ بنفسه ويجلب لها المتاعبَ والمَضارَّ؛ لذلك أمَرَ اللهُ تعالى بتعلُّمِ العلم والتفقُّه فيه؛ فهو متقدِّمٌ على القول والعمل؛ لقوله تعالى: ﴿فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ[محمَّد: ١٩]، فبَدَأ بالعلم قبل العمل، ولقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْ[فاطر: ٢٨]، فحصولُ الخشية على وجهها الأكملِ والأمثلِ إنما هو للعلماء، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما أخرجه الخطيبُ البغداديُّ ـ رحمه الله ـ في «تاريخه»: «إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ»(٤)، ويشهد له ما أخرجه الهيثميُّ ـ رحمه الله ـ في «مجمع الزوائد»(٥) بسندٍ حَسَنٍ مرفوعًا: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ»(٦)؛ لذلك تَرْجَمَ الإمامُ محمَّدُ بنُ إسماعيل البخاريُّ ـ رحمه الله ـ لهذا المعنى في «صحيحه» بابًا سمَّاه: «باب: العلمُ قبل القول والعمل»(٧).

واللهَ نسأل أَنْ يُوفِّقَنا لِمَا فيه خيرُ العبادِ والبلاد.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٧ شعبان ١٤١٤ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٨ فبراير ١٩٩٤م



(١) أخرجه ابنُ ماجه في «التجارات» بابُ ما للرجل مِنْ مالِ ولده (٢٢٩١) مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما؛ وأخرجه أبو داود في «الإجارة» بابٌ في الرجل يأكل مِنْ مالِ ولده (٣٥٣٠) وابنُ ماجه (٢٢٩٢) مِنْ حديثِ عمرو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (٣/ ٣٢٣) رقم: (٨٣٨) وفي «صحيح الجامع» (١٤٨٦، ١٤٨٧).

(٢) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (٣١٢٣)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (١٥٧٤٥)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها. وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٢٥٦٤).

(٣) رواه ابنُ ماجه في «الأحكام» بابُ مَنْ بنى في حقِّه ما يضرُّ بجاره (٢٣٤٠) مِنْ حديثِ عبادة بنِ الصامت رضي الله عنه، و(٢٣٤١) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (٣/ ٤٠٨) رقم: (٨٩٦) وفي «السلسلة الصحيحة» (٢٥٠).

(٤) رواه الخطيب البغداديُّ في «تاريخه» (٩/ ١٢٩)، وابنُ الجوزيِّ في «العِلَل المتناهية» (١/ ٧٦)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وهو في «السلسلة الصحيحة» (٣٤٢).

(٥) انظر: «مجمع الزوائد» (١/ ١٧٠) رقم: (٥٣٧) كتاب «العلم» باب العلم بالتعلُّم.

(٦) رواه الطبرانيُّ في «الكبير» (١٩/ ٣٩٥) مِنْ حديثِ معاوية بنِ أبي سفيان رضي الله عنهما. وحسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الترغيب والترهيب» (١/ ١٣٦) رقم: (٦٧).

(٧) «صحيح البخاري» بشرح «فتح الباري» (١/ ١٥٩).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)