العقائد الإسلامية
مِنَ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

للشيخ عبد الحميد بنِ باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)

بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ

«التصفيف السابع: بيـانُ معنى الإيمـان (١)»

العِشْرُونَ: الإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ(١): التَّصْدِيقُ(٢)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾(٣).

الحَادِي وَالعِشْرُونَ: مَحَلُّ الإِيمَانِ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ الجَازِمِ هُوَ القَلْبُ(٤)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾(٥)، ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾(٦).

وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ(٧) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «يُدْخِلُ اللهُ أَهْلَ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَيُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ، وَيُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ: انْظُرُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ(٨) فَأَخْرِجُوهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ(٩).

الثَّانِي وَالعِشْرُونَ: وَيَجِيءُ لَفْظُ الإِيمَانِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ مُرَادًا بِهِ التَّصْدِيقُ الجَازِمُ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَالقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِه وَشَرِّهِ، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ(١٠)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾(١١)، وَلِحَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَلْيِه السَّلاَمُ: قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ؟» قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسِلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ»(١٢).



(١) الإيمانُ في الاشتقاق اللغويِّ: مصدرُ آمن يؤمن إيمانًا فهو مؤمنٌ، وأصل آمن: أأمن بهمزتين لُيِّنَت الثانية، وهو من الأمن ضدِّ الخوف. [«تهذيب اللغة» للأزهري (١٥/ ٥١٣)، «الصحاح» للجوهري (٥/ ٢٠٧١)، «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (١٥١٨)].

قال الراغب الأصفهاني في «المفردات» (٣٥): «أصل الأمن طمأنينةُ النفس وزوالُ الخوف».

وفي التحقيق إنما يكون معناه التأمين أي: إعطاء الأمان إذا تعدَّى بنفسه، فآمنتُه ضدُّ أخفتُه، قال تعالى: ﴿وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٥]، ﴿وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: ٣]، أي: الآمن يعني مكَّة، وفي الحديث: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي فَإِذا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي فَإِذا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» [رواه مسلم في «فضائل الصحابة» (١٦/ ٨٣) باب أنَّ بقاء النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم أمانٌ لأصحابه، وبقاء أصحابه أمانٌ للأمَّة، من حديث أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه]، والأَمَنة في الحديث جمع أمينٍ وهو الحافظ، والأَمَنة والأمان نقيض الخيانة، وفي الحديث: «المُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ» [أخرجه أبو داود في «الصلاة» (١/ ٣٥٦) باب ما يجب على المؤذِّن، وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصحَّحه أحمد شاكر في «تحقيقه للمسند» (١/ ٤٥٠)، والألباني في «إرواء الغليل» (١/ ٢٣١)]، أي: الذي يثقون فيه ويتَّخذونه أمينًا حافظًا. والمؤمن من أسماء الله تعالى، قال ابن الأثير في [«النهاية» (١/ ٦٩، ٧١)]: «..وهو الذي يصدق عبادَه وَعْدَه فهو من الإيمان التصديق، أو يؤمنهم في القيامة عذابَه، فهو من الأمان ضدِّ الخوف».

وقد يتعدَّى لفظ الإيمان بالباء أو اللام فيكون معناه التصديق، كما في قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٢٨٥]، ولقوله تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت: ٢٦]، والإيمان كما يكون بالقلب يكون باللسان كما في قوله تعالى: ﴿يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ٦١]، أي: يصدِّق اللهَ، ويَصْدُق المؤمنين، ويكون بالجوارح -أيضًا- ومنه قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» [أخرجه البخاري في «الاستئذان» (١١/ ٢٥) باب زنا الجوارح دون الفرج، ومسلم في «القدر» (١٦/ ٢٠٥) باب: قُدِّر على ابن آدم حظُّه من الزنا، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].

(٢) الإيمان في اللغة يدور معناه على التصديق والثقة والطمأنينة والإقرار، واختار المصنِّف -رحمه الله- التصديقَ لِما عليه عامَّةُ أهل اللغة، قال ابن منظور في «اللسان» (١/ ٢٢٤): «اتَّفق أهل العلم من اللغويين وغيرِهم أنَّ الإيمان معناه التصديق»، ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنَّ تعريفه بالإقرار من جهة اللغة أصدقُ في الدلالة على معنى الإيمان من غيرها من الألفاظ الأخرى التي فُسِّر بها الإيمان. وقد نبَّه شيخ الإسلام إلى فوارقَ هامَّةٍ لفظًا ومعنًى تدفع دعوى الترادف بين الإيمان والتصديق من جهة اللغة منها:

١ - أنَّ الإيمان ليس مرادفًا للتصديق في المعنى فلا يُستعمل الإيمان إلاَّ فيما يؤتمن فيها المخبر كالأمور الغيبية ونحوها ممَّا يدخلها الريب لكونه مشتقًّا من الأمن، أمَّا المشاهدات المحسوسة فلا تُستخدم فيها لفظة: آمن وإنما يقال فيها: صدَّق، فإنَّ كلَّ مخبرٍ عن مشاهدةٍ أو غيبٍ يقال له: صدقتَ كما يقال له: كذبتَ، أمَّا لفظ الإيمان فلا يُستعمل إلاَّ في الخبر عن غائبٍ.

٢ - أنَّ لفظ «الإيمان» في اللغة لا يقابَل بالتكذيب كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أنَّ كلَّ مخبرٍ يقال له: صدقتَ أو كذبتَ، ويقال: صدَّقناه أو كذَّبناه، ولا يقال لكلِّ مخبرٍ: آمنَّا له أو كذَّبناه، ولا يقال: أنت مؤمنٌ له أو مكذِّبٌ له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال: هو مؤمنٌ أو كافرٌ، والكفر لا يختصُّ بالتكذيب.

٣ – من جهة التعدِّي فإنَّ لفظ «آمن» يختلف عن لفظ «صدَّق»، فإن «آمن» لا تتعدَّى إلاَّ بالباء أو اللام -كما تقدَّم-، فيقال: آمن به وآمن له، ولا يقال: آمنه إلاَّ من الأمان الذي هو ضدُّ الإخافة، بينما لفظ صدَّق فإنه يصحُّ تعديتُه بنفسه فيقال: صدَّقه.

وعليه، فالإيمان ليس هو مجرَّدَ التصديق فحَسْبُ مع خلوِّه من طمأنينةٍ وأمنٍ والتزامٍ وانقيادٍ، فإنَّ هذا لا يعكس بصدقٍ حقيقةَ الإيمان، إذ لو أخبر غيرَه بخبرٍ لا يتضمَّن طمأنينةً إلى المخبر ولا الثقةَ به فلا يقال فيه: آمن له، وكذلك إذا تضمَّن خبرُه طاعةَ المستمع له مع حصول الطمأنينة إلى صدقه؛ فإنه لا يكون مؤمنًا للخبر إلاَّ بالتزام طاعته مع تصديقه، فإن صدَّقه دون التزامٍ بطاعته فإنَّ هذا يسمَّى تصديقًا ولا يسمَّى إيمانًا.

لذلك كان لفظ الإقرار يوافق -من جهة اللغة- الإيمانَ المشتقَّ من الأمن الذي هو الإقرار والطمأنينة وذلك إنما يحصل إذا استقرَّ في القلب التصديقُ والانقياد، أي: متضمِّنٌ للالتزام بالمؤمَن به سواءٌ كان خبرًا أو إنشاءً، ووجه تضمُّن لفظ الإقرار للالتزام من جهتين:

الأولى: الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما، وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.

والثانية: إنشاء الالتزام كما في قوله تعالى: ﴿أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: ٨١]، وليس هو هنا الخبرَ المجرَّد فإنه سبحانه قال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي﴾، فهذا الالتزام للإيمان والنصرُ للرسول وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبارٌ وإنشاءٌ والتزامٌ، بخلاف لفظ التصديق المجرَّد فإنه يطابق الخبرَ فقط، بينما الإقرار يطابق الخبرَ والأمر، فكان الإقرارُ أصدقَ في الدلالة على معنى الإيمان لتضمُّنه قولَ القلب الذي هو التصديق وعملُ القلب الذي هو الانقياد. [انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٧/ ٢٩٠-٢٩٣، ٧/ ٥٢٩-٥٣٤، ٧/ ٦٣٧-٦٣٨)].

- فالحاصل أنه لا ينبغي أن يُتوهَّم بأنَّ الإيمان في اللغة هو مُطلق التصديق مجرَّدًا عن معنًى زائدٍ، فمثل هذا التجريد للألفاظ العربية لا يوجد إلاَّ في المعاجم والقواميس التي تكتفي بذِكر المعنى المشترك اقتصارًا دون بيان الزيادات واللوازم التي يقتضيها الاستعمالُ بُغيةَ اختصار المعنى وتسهيلِ الفهم على القارئ، وإنما الألفاظ في لغة العرب لا توجد إلاَّ ضمن كلامٍ مفيدٍ مقيَّدةً بقيودٍ يقتضيها الاستعمال. ومنه يتبيَّن أنَّ الإيمان يتضمَّن معنًى زائدًا على مجرَّد التصديق وهو الإقرار المستلزِم لقبول الأخبار والإذعان للأحكام.

(٣) جزءٌ من الآية ١٧ من سورة يوسف. فإنَّ لفظ الإيمان في الآية يتضمَّن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة كما يدلُّ عليه الاستعمال والاشتقاق، ولهذا قال إخوة يوسف لأبيهم: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ أي: لا تُقِرُّ بخبرنا ولا تثق به ولا تطمئنُّ إليه ﴿وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ لأنهم لم يكونوا عنده ممَّن يؤتمن على ذلك، فلو صدقوا لم يأمن لهم. [«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٧/ ٢٩٢)].

قلت: ويؤيِّد هذا المعنى أصلان:

الأوَّل: أنَّ الأصل في الألفاظ أن تكون متباينةً لا مترادفةً.

الثاني: أنَّ التأسيس (وهو اللفظ الذي يفيد معنًى لم يُفِدْه اللفظُ السابق له) مُقدَّمٌ على التأكيد (وهو اللفظ الذي يُقْصَد به تقريرُ وتقويةُ لفظٍ سابقٍ).

(٤) تقرَّر في الشريعة أنَّ محلَّ الإيمان والعقل والفقه والزيغِ ونحو ذلك هو القلب لقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ﴾ [المجادلة: ٢٢]، ﴿وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦]، وكذلك الآيات التي استدلَّ بها المصنِّف على أنَّ محلَّ الإيمان في القلب، وإلى هذا المحلِّ أضاف الله تعالى العقلَ والفقه والزيغ، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج: ٤٦]، وقوله تعالى: ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: ٨٧]، وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصفُّ: ٥]، كما أنَّ النيَّة محلُّها القلب باتِّفاق العلماء على ما نقله عنهم ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (٧/ ٢٦٢).

هذا، والقلب الذي يعنيه اللهُ تعالى في هذه الآيات إنما محلُّه الصدر، وقد جاء التنصيص عليه صراحةً في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦].

فهذا الإيمان المتعلِّق بالقلب قائمٌ على أصلين: قول القلب وعمله.

فأمَّا قول القلب فهو: التصديق بالحقِّ واعتقادُه، فلا بدَّ من تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما أخبر به، فتصديق القلب شرطٌ في اعتقاد بقيَّة الأجزاء وكونها نافعةً، ومعنى ذلك أنه إذا زال تصديقُ القلب لم تنفع بقيَّة الأجزاء.

أمَّا عمل القلب فهو: محبَّة الحقِّ وإرادتُه مثل الإخلاص والحبِّ والخوف والرجاء والتعظيم والانقياد والتوكُّل وغيرها من أعمال القلوب، فإذا زال عملُ القلب مع اعتقاد الصدق فإنَّ أهل السُّنَّة مُجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب. [انظر: «كتاب الصلاة» لابن القيِّم (٥٤)]. قال ابن تيمية في [«مجموع الفتاوى» (٧/ ٥٣٧)]: «وفي الجملة فلا بدَّ في الإيمان الذي في القلب من تصديقٍ بالله ورسوله، وحبِّ الله رسوله، وإلاَّ فمجرَّدُ التصديق مع البغض لله ورسوله ومعاداةِ الله ورسوله ليس إيمانًا باتِّفاق المسلمين».

وقال ابن القيِّم في [«مختصر الصواعق المرسلة» (٢/ ٤٢٠)]: «كلُّ مسألةٍ علميةٍ فإنه يتبعها إيمانُ القلب وتصديقُه وحبُّه، وذلك عملٌ بل هو أصل العمل، وهذا ممَّا غفل عنه كثيرٌ من المتكلِّمين في مسائل الإيمان، حيث ظنُّوا أنه مجرَّد التصديق دون الأعمال، وهذا مِن أقبح الغلط وأعظمه، فإنَّ كثيرًا من الكفَّار كانوا جازمين بصدق النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم غيرَ شاكِّين فيه، غير أنه لم يقترن بذلك التصديقِ عملُ القلب من حبِّ ما جاء به والرضا وإرادته، والموالاةِ والمعاداة عليه، فلا تهمل هذا الموضوعَ فإنه مهمٌّ جدًّا، به تعرف حقيقة الإيمان».

(٥) جزءٌ من الآية ١٤ من سورة الحجرات. قال الزجَّاج: «الإسلام: إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبيُّ، وبذلك يُحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهارِ اعتقادٌ وتصديقٌ بالقلب فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن». [«فتح القدير» للشوكاني (٥/ ٦٨)].

(٦) الآية ٤٥ من سورة التوبة.

(٧) هو سعد بن مالك بن سنان الأنصاريُّ الخزرجيُّ، مفتي المدينة، أبو سعيدٍ الخدريُّ، وهو مشهورٌ بكنيته، استُصغر بأحدٍ، واستُشهد أبوه بها، وأوَّل مشاهده الخندق، وغزا مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم اثنتي عشرة غزوةً، وكان رضي الله عنه من أفاضل الصحابة ونجباء الأنصار وعلمائهم، حفظ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سننًا كثيرةً، وله في كتب الحديث ألفٌ ومائةٌ وسبعون حديثًا، توفِّي أبو سعيدٍ يوم الجمعة سنة ٧٤ﻫ، ودُفن بالبقيع.

انظر ترجمته في: «الاستيعاب» لابن عبد البرِّ (٢/ ٤٤)، «أسد الغابة» لابن الأثير (٢/ ٢٨٩)، «سير أعلام النبلاء» (٣/ ١٦٨) و«دول الإسلام» (١/ ٥٤) كلاهما للذهبي، «البداية والنهاية» لابن كثير (٩/ ٣)، «تهذيب التهذيب» (٣/ ٤٧٩) و«الإصابة» (٢/ ٣٢) كلاهما لابن حجر، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ٨١)، «الرياض المستطابة» للعامري (١٠٠).

(٨) قال ابن حجر في [«الفتح» (١/ ٧٣)]: «والمراد بحبَّة الخردل هنا ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد لقوله في الرواية الأخرى: «أَخْرِجُوا مَنْ قَالَ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» وَعَمِلَ مِنَ الخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً».

قلت: ولعلَّ هذا المقدارَ الضئيل من العمل خاصٌّ بمن وَسِعَه القيامُ به واقتدر عليه دون بقيَّة شرائع الإسلام التي مَنَع من أدائها مانعٌ فاستحقَّ دخولَ النار لذنوبٍ اقترفها لا يَجهل حُكْمَها ثمَّ يخرجه الله تعالى منها.

وفي الحديث دليلٌ على أنَّ الإيمان يتبعَّض ويتفاضل ويتفاوت بالزيادة والنقصان، فإذا ذهب بعضُه فيبقى بعضُه وهو مذهب مالكٍ والشافعيِّ وأحمد وسائرِ أهل السُّنَّة والجماعة خلافًا للمرجئة والمعتزلة وغيرهم، فإنَّ الإيمان -عندهم- كلٌّ واحدٌ لا يتجزَّأ: إذا ذهب بعضُه ذهب كلُّه، وعليه فهو لا يزيد ولا ينقص، وسيأتي كشفُ زيف هذه الشبهة وبطلانُها. [انظر: «مجموع الفتاوى» (٧/ ٥٦٢ وما بعدها، ١٨/ ٢٧٠) و«الأعمال بالنيِّات» (٣٨ – ٣٩) كلاهما لابن تيمية].

(٩) متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري في «الإيمان» (١/ ٧٢) باب تفاضُل أهل الإيمان في الأعمال، وفي «الرقاق» (١١/ ٤١٦) باب صفة الجنَّة والنار، ومسلم في «الإيمان» (٣/ ٣٥) باب الشفاعة وإخراج الموحِّدين من النار، من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه، وتمامه: «فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا حُمَمًا قَدِ امْتَحَشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الحَيَاةِ أَوْ الحَيَا فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ إِلَى جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَوْهَا كَيْفَ تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً؟».

(١٠) فالإيمان بالقلب هو التصديق والإقرار بكلِّ ما أخبر به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم عن ربِّه من غيبياتٍ وغيرها، وتأتي في طليعتها أركانُ الإيمانِ الستَّةُ التي ذكرها المصنِّف واستدلَّ لها:

- فالإيمان بالله تعالى هو التصديق الجازم الواثق الذي لا يخالطه شكٌّ أو ريبٌ، ويستقرُّ في القلب استقرارًا لا يزحزحه شيءٌ، والنطق باللسان الذي يواطئ القلبَ ويوافقه في التصديق، فيُقِرُّ ويعترف بوحدانيته سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وتنزيهُه سبحانه عن الشريك والنظير والشبيه والولد والوالد والصاحبة.

- والإيمان بالملائكة هو التصديق الجازم والإقرار بوجودهم، وأنهم عبادٌ مكرمون، خَلَقهم الله لعبادته وتنفيذ أوامره، والإيمانُ بأصنافهم وأعمالهم وبفضلهم ومكانتهم عند الله عزَّ وجلَّ بحسب ما جاء في الكتاب والسنَّة.

- والإيمان بالكتب الإلهية هو التصديق الجازم والإقرار بأنها حقٌّ وصدقٌ، وهي كلام الله عزَّ وجلَّ، أنزلها رحمةً بعباده لحاجة البشرية إليها، والتصديق الجازم بما سُمِّيَ من كتبٍ وهي: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وما لم يُسَمَّ منها، ذلك لأنَّ لله كتبًا لا يعلمها إلاَّ هو سبحانه.

- والإيمان بالرسل هو التصديق الجازم بهم وبرسالتهم والإقرارُ بنبوَّتهم، وأنهم صادقون فيما أخبروا عن الله تعالى، وبلَّغوا الرسالاتِ، وبيَّنوا للناس ما لا يَسَعُ لأحدٍ جهلُه، وأنهم بَعَثَهم الله مبشِّرين ومنذرين لإقامة الحجَّة على الناس، وآخرُ الرسل محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم البشيرُ النذير والسراج المنير الهادي إلى صراطٍ مستقيمٍ، أنزل عليه القرآنَ، وشرع له أحسنَ دينٍ وأقومَه.

- والإيمان باليوم الآخر هو التصديق الجازم بأنَّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، يبعث الله تعالى الموتى بعد موتهم كما بدأهم أوَّلَ مرَّةٍ بأرواحهم وأبدانهم، ذلك يوم الدين، والوعد الحقُّ، والفَزَع الأكبر، والراجفة، والقارعة، والواقعة، والطامَّة، والصاخَّة، والآزفة، ويوم الحساب، كلُّها أسماءٌ تدلُّ على عِظَم شأن ذلك اليوم وشدَّة هوله، وهو يومٌ تشخص فيه الأبصارُ، وتطير القلوبُ عن أماكنها حتى تبلغ الحناجرَ، وفيه يحاسبهم الله تعالى على ما عملوا ويَجزيهم على أعمالهم، فيثيب المحسنَ ويعاقبُ المسيءَ، واليومُ الآخر مسبوقٌ بعلاماتٍ تدلُّ على قرب وقوعه وهي أشراط الساعة، فالإيمان بها واجبٌ وهي من صلب العقيدة.

- والإيمان بالقدر خيرِه وشرِّه هو التصديق الجازم بأنَّ مقادير الأمور بيد الله سبحانه ومصدرَها عن قضائه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يمكن أن يحدث شيءٌ في هذا الكون إلاَّ إذا أراده سبحانه وتعالى، وكلُّ شيءٍ حادثٌ في هذا الكون من المخلوقات فإنه مخلوقٌ موجودٌ بإذن الله تعالى وقضائه ومشيئته، والقدر على درجاتٍ ومراتبَ يجب الإيمان بها.

كما يجب الإيمان بأنَّ الله تعالى يهدي من يشاء بفضله، ويضلُّ من يشاء بعدله، وكلُّ إنسانٍ ميسَّرٌ لِما خُلِق له، ولا يكون شيءٌ في الكون بغير قضاء الله تعالى، ولا يستغني أحدٌ عن الله تعالى، وهو سبحانه خالق الناس وأعمالِهم، ومقدِّرُ السكنات والحركات.

(١١) الآية ٢٨٥ من سورة البقرة.

(١٢) تقدَّم تخريجه في التصفيف السادس.

... يتبع ...

الجزائر في: ١٥ جمادى الأولى ١٤٢٨ﻫ
المـوافق ﻟ: ٠١ يونيو ٢٠٠٧م

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)