الفتوى رقم: ٣٤٩

الصنف: فتاوى الحديث وعلومه

في حكم تعضيد مجهول العين للأحاديث في المتابعات

السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم ... بارك الله فيكم شيخنا الكريم، وزادكم علما وعملا ...  سؤالي -شيخنا- يتعلق بعلم مصطلح الحديث، حيث قرأت في كتاب الشيخ عمرو عبد المنعم سليم " تيسير دراسة الأسانيد" أنّ رواية مجهول العين من حالات الضعف الشديد، لا تتقوى ولا تقوي غيرها، وأن تقوية رواية مجهول العين خطأ شائع عند المشتغلين بالحديث وعلومه. وإليك ما قال : (ص٢٤٥-٢٤٧) تحت عنوان "أخطاء شائعة في التقوية بالمتابعات والشواهد": ٢- تقوية رواية مجهول العين أو المبهم بغيرها، أو تقوية غيرها بها: من الأخطاء الشائعة في التقوية بالمتابعات والشواهد تقوية حديث مجهول العين ومَن في حكمه كالمبهم بالمتابعة، أو تقوية غيره به، وهذا خلاف ما تقرر في المصطلح. فإن جهالة العين من أسباب الضعف الشديد كما تقدم بيانه، بل كثيرا ما يكون الراوي مجهولُ العين لا وجود له، وإنما نشأ اسمه عن تصحيف أو وهم من أحد رواة الحديث،كمن سبق التمثيل له ولم أجد أحدا من أهل العلم ممن نص على التقوية بالمتابعة يذكر أن التقوية تكون بحديث مجهول العين، وإنما خصوا ذلك- فيما يتعلق بالجهالة- بحديث مجهول الحال والمستور، وهو ظاهر مما تقدم نقله عن الحافظ ابن حجر- رحمه الله- ومِن قبله ابنِ الصلاح. و قد نقل غير واحد من أهل العلم الاتفاق على رد رواية مجهول العين إلا ما كان من احتجاج أبي حنيفة برواية بعضهم من التابعين. ولذا قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "اختصار علوم الحديث" (ص٩٢): "أما المبهم الذي لم يسم، أو من سمي ولا تُعرف عينه، فهذا مما لا يقبله أحد علمناه، ولكنه إذا كان في عصر التابعين والقرون المشهود لهم بالخير فإنه يستأنس بروايته، ويستضاء بها في مواطن". قلت (الكلام للشيخ عمرو): بل الراجح ترك الاحتجاج برواية هذا الصنف مطلقا، وترك التعضيد له أو به. مثال ذلك :  ما أخرجه أحمد (٣/ ٤٧٨ و٤٤٤) وأبو داود (٣٦٢ ) والنسائي (٢/ ٢١٤ ) وابن ماجه (١٤٢٩) من طريق تميم بن محمود عن عبد الرحمن بن شبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن نَقرة الغراب وافتراش الشبع (الصواب السبع ولعله خطأ مطبعي)، وأن يوطِّن الرجل المكان كما يوطِّن البعير. وله شاهد من حديث عثمان البتي، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه مرفوعا بنحوه. أخرجه أحمد (٥/ ٤٤٦-٤٤٧) وهذا الحديث قد حسنه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (١١٦٨) بمجموع الطريقين. وبدراسة الطريقين نجد: أن في الطريق الأول: تميم بن محمود، وقد قال فيه البخاري " في حديثه نظر"، وضعفه العَقيلي والدَّوْلاَبي وابنُ الجارود، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. وفي الطريق الثاني: عبد الحميد بن سلمة وأبوه، قال فيهما الدارقطني: لا يعرفان، وقال الشيخ الألباني – رحمه الله-: "عبد الحميد هذا مجهول كما في التقريب". قلت (الكلام للشيخ عمرو): قد تفرد بالرواية عنه عثمان البتي، وليس له عنه راو غيره، فالجهالة هنا تنصرف إلى جهالة العين، لا سيما وأنه قد اختُلف عليه في هذا السند كما في ترجمته من "التهذيب". فإذا تقرر ذلك فلا يصح تقوية حديثه بالطريق الأول، إذ لو أننا سلمنا بأن الضعف في الطريق الأول ضعف محتمل، فالطريق الثاني قد تفرد به مجهول عين، ومن ثم فلا يقوى به. اهـ.  .. نرجو من شيخنا أن يبين –بتوسع- الصواب في هذه المسألة: هل جهالة العين من أسباب الضعف المحتمل أو من أسباب الضعف الشديد؟

الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:

فمجهول العين هو من ذُكر اسمه، وعُرفت ذاته، ولكنّه كان مقلاًّ في الحديث، ولم يرو عنه إلاَّ واحد، واختلفوا في حكم هذا النوع من المجهول على ما يربو عن خمسة أقوال، ومحل السؤال المطروح هل حديث مجهول العين يُقَوَّى به الأحاديث في المتابعات؟ وفي هذه المسألة خلاف يرجع سببه- في نظري- إلى مسألتين حديثيتين:

- الأولى: في قبول الرواية عن المبهم الذي لم يسمَّ بعد التعديل والتوثيق.

- الثانية: في رواية الثقة عن غيره هل هو تعديل له؟

وما عليه جمهور المحدثين أنَّ حكم مجهول العين هو حكم المبهم الذي لا يكفي في ارتفاع الجهالة فيه توثيق من عدَّله، لأنه قد يكون ممن انفرد هو بتوثيقه، وجرحه غيره بجرح قادح، ومن جهة أخرى فإن رواية العدل عن غيره ليست تعديلا له، لأنَّ العدل قد يروي عن غير العدل، ولا ترتفع الجهالة عن الراوي على مذهب جمهور المحدثين إلا بمعرفة العلماء له، أو برواية عدلين عنه، نص على ذلك الخطيب وغيره(١).

ويذهب فريق آخر من أهل الحديث والأصول إلى أنَّ مجهول العين وإن كان كالمبهم إلا أنّه إن روى العدل عنه وكان متأهلاً لا يروي إلاَّ عن ثقة، أو عدله الثقة بأن يقول: حدثني من أثق به وأرضى عنه أو عدله غير من ينفرد عنه فإنّه يقبل تعديله مطلقا- على هذا الرأي- كما لو عينه، لأنه مأمون حين سماه ووثقه، وحين وثقه وأبهمه، وعلى هذا القول فإن الجهالة ترتفع عن مجهول العين إذا ما وثقه غير من ينفرد عنه، أو من انفرد به وكان متأهلا لذلك.

ونَخْلص مما تقدم إلى أنَّ الجهالة تبقى ثابتةً على مذهب الجمهور، ويسري حكم المبهم فيه، وتلحق مرتبة مجهول العين بأهل الثالثة من مراتب التجريح لردِّ حديثه وعدم قبوله، وعليه فلا يُحتج بمن ذُكر في هذه المرتبة ولا يخرج حديثه للاعتبار، فكانت الجهالة سبب الضعف الشديد الذي لايعضد به الأحاديث في المتابعات.

أمّا من حَكَم بارتفاع الجهالة بالتوثيق من غير من ينفرد عنه، أو من انفرد عنه إن كان متأهلا لا يروي إلا عن ثقة قَبِل الحديث وعضَّد به في المتابعات والشواهد، وبه قال الأصوليون وهو ما رجحه ابن الوزير فقال:" فإن سمى المجهول أو انفرد واحد عنه فمجهول العين، والحق عند الأصوليين أنه إذا وثقه الراوي أو غيره قُبل خلافًا لأكثر المحدثين، والقول الصحيح قول الأصوليين"(٢).

والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

الجزائر في: ٢ صفر ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢ فبراير ٢٠٠٦م


(١) اختصار علوم الحديث لابن كثير: ٩٧.

(٢) توضيح الأفكار للصنعاني: ٢/ ١٨٦.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)