الفتوى رقم: ٤٣٢

الصنف: فتاوى متنوِّعة - الآداب

في غلظة تصرُّفات حاقدةٍ على أبيها

السؤال:

وقع خصامٌ بين والديَّ، فوقفت إلى جانب أمِّي لظنِّي أنها على صوابٍ، فقال لي أبي في إحدى المكالمات الهاتفية: «أنتِ لستِ ابنتي، وإنما أنتِ ابنةُ أمِّك»، وصار لا ينفق علينا، وهو عازمٌ على طردنا من البيت، فقابلتُ صنيعه ذلك بعباراتٍ شديدةٍ فيها غلظةٌ، وصرتُ لا أسلِّم عليه إذا لقيتُه لأنه لا ينفق علينا، ويتودَّد إلى زوجة أخي ذات الخُلُق السيِّئ ويقرِّبها إليه، فهل ما فعلتُه جائزٌ شرعًا، وهل تصرُّفات أبي قائمةٌ وفق أحكام الشرع، أرجو منكم البيانَ وبارك الله في علمكم. 

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:

فلا ينبغي للولد أن يتصرَّف مع والديه مهما عَظُم جُرْمُهما برفع الجناح والشتم والتأفيف عليهما أو على أحدهما ولو كانا مشركين لقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٣-٢٤]، وقال سبحانه: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: ١٥]، فالأفعال المسيئة لهما معدودةٌ من العقوق، وليست من البرِّ والإحسان في شيءٍ كالجفاء والعداوة وتقبيح الوجه والصوت بالشتم واللعن وغيرها من الفعال، فالواجب اللينُ تُجاههما ومحبَّةُ الخير لهما والسعيُ إلى الوفاق بينهما ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، قال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ»(١): أي: سبَّهما وشتمهما أو كان سببًا في لعنهما.

كما لا يجوز للوالد أن ينكر نسبَ ولده، فإنَّ ذلك من عظيم الأقوال، وإنما يُحمل قولُه على إنكار تصرُّف ولده، أي: أنَّ مراده ليس بولده في الطاعة والمحبَّة والمواقف الحسنة تُجاهه وليس مقصوده في النسب، ومع ذلك لا يجوز له مثل هذه العبارات التي تسيء إلى أولاده وبالمقابل لا يصحُّ للولد أن يقابل صنيعَ والده بمثله لوجوب البرِّ والإحسان لهما، وعليه أن يقابل السيِّئة بالحسنة والصبرِ على ذلك، فإنَّ مَن صبر ظفر، فهو مفتاح الفرج وطريق السعادة قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصِّلت: ٣٤-٣٥].

هذا، والواجب على والدكِ أن ينفق على أمِّكِ ما دامت تحت عصمته، وينفق عليك إلى أن تتزوَّجي ما دمتِ مُقَرَّةً في البيت لقوله تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾ [الطلاق: ٧]، وقوله تعالى: ﴿وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٣٣]، فإن امتنع من هذا الحقِّ فيجوز المطالبة به عن طريق القضاء لرفع الظلم وإجباره على أداء النفقة الواجبة عليه، وهذا لا يتعارض مع طاعة الوالدين والبرِّ بهما، وإنما هو من النصرة لهما لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: «تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ»(٢)، وإجباره على النفقة من النصرة له، بل شكى بعض الصحابة للنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم آباءهم ولم ينكر عليهم(٣)، وهذا بعد التأكُّد أنَّ والدتكِ لم يعطها والدُكِ شيئًا.

وأخيرًا، أنصحكِ أن تتأدَّبي مع والدك، وتعتذري له عمَّا صدر منكِ تُجاهه، وأن لا تعاكسيه في تصرُّفاته إلاَّ إذا كان مخالفًا للشرع، أو مجاوزًا لحدوده، ﻓ«لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ»(٤)، كما أنصحكِ أن تحفظي لسانكِ من الطعن فيه، وفي زوجة أخيك وأعراض المسلمين، فإنَّ ذلك من اللَّمز والغِيبة وقد يكون الأمر بهتانًا، واحرصي على ما ينفعكِ وصاحبي أمَّكِ وأعينيها على الخير والوفاق والاجتماع والتآلف مع والدكِ والتقريب بينهما، فإنَّ ذلك من عظيم المسعى وتؤجَرين عليه، ويجازيكِ الله على ذلك خيرَ الجزاء، قال رجلٌ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟» قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: «ثُمَّ مَنْ؟» قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: «ثُمَّ مَنْ؟» قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: «ثُمَّ مَنْ؟» قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ»(٥).

والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٤ ربيع الثاني ١٤٢٧ﻫ
المــوافق ﻟ: ٢٢ مـاي ٢٠٠٦م


(١) أخرجه مسلم في «الأضاحي» (١٩٧٨)، من حديث عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه.

(٢) أخرجه البخاري في «الإكراه» (٦٩٥٢) من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في «البرِّ والصلة» (٢٥٨٤) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(٣) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمُ أَبَاهُ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا قَدِ اجْتَاحَ مَالِي؟» فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ، وَمَالُكَ لِأَبِيكَ». أخرجه أبو داود في «الإجارة» (٣٥٣٠)، وابن ماجه في «التجارات» (٢٢٩٢) واللفظ لأحمد (٦٩٠٢). قال ابن حجر في «المطالب العالية» (٢/ ١٣٤): «إسناده حسنٌ»، وقال أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند الإمام أحمد» (١١/ ١٢٤): «إسناده صحيح»، وحسَّنه الألباني في «الإرواء» (٨٣٨).

(٤) أخرجه أحمد (١٠٩٥)، والطبراني في «المعجم الكبير» (١٨/ ١٧٠)، من حديث عليٍّ رضي الله عنه، وصحَّحه أحمد شاكر في «تحقيقه على المسند» (٢/ ٢٤٨)، والألباني في «صحيح الجامع» (٧٥٢٠). وانظر: «مجمع الزوائد» للهيثمي (٨٩٠٣)، و«السلسلة الصحيحة» للألباني (١٧٩).

(٥) أخرجه البخاري في «الأدب» (٥٩٧١)، ومسلم في «البرِّ والصلة» (٢٥٤٨)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)