فائدةٌ في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الجمعة 10 شوال 1445 هـ الموافق لـ 19 أبريل 2024 م



فائدةٌ في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ

«قوله تعالى: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ﴾ من باب بدل الاشتمال، والسؤال إنما وقع عن القتال فيه، فلِمَ قُدِّمَ الشهرُ وقد قلتم: إنهم يقدِّمون ما هم ببيانه أهمُّ وهُم به أعنى؟

قيل: السؤال لم يقع منهم إلَّا بعد وقوع القتال في الشهر وتشنيع أعدائهم عليهم وانتهاك حرمته، فكان اعتناؤهم واهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال، فالسؤال إنما وقع مِن أجل حرمة الشهر، فلذلك قدِّم في الذكر وكان تقديمه مطابقًا لِما ذكَرْنا من القاعدة.

فإن قيل: فما الفائدة في إعادة ذكر القتال بلفظ الظاهر؟ وهلَّا اكتفى بضميره فقال: «قل هو كبيرٌ»، وأنت إذا قلت: «سألته عن زيدٍ: أهو في الدار؟» كان أوجزَ مِن أن تقول: «أزيدٌ في الدار؟».

قيل: في إعادته بلفظ الظاهر نكتةٌ بديعةٌ وهي تعلُّق الحكم الخبريِّ باسم القتال فيه عمومًا، ولو أتى بالمضمر وقال: «هو كبيرٌ» لتُوُهِّم اختصاص الحكم بذلك القتال المسئول عنه وليس الأمر كذلك، وإنما هو عامٌّ في كلِّ قتالٍ وقع في شهرٍ حرامٍ.

ونظير هذه الفائدة قوله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ»، فأعاد لفظَ الماء ولم يقتصر على قوله: «نَعَمْ، تَوَضَّئُوا بِهِ» لئلَّا يُتوهَّم اختصاصُ الحكم بالسائلين لضربٍ من ضروب الاختصاص، فعدل عن قوله: «نَعَمْ، تَوَضَّئُوا» إلى جوابٍ عامٍّ يقتضي تعلُّقَ الحكم والطهور به بنفس مائه مِن حيث هو، فأفاد استمرارَ الحكم على الدوام وتعلُّقَه بعموم الآية، وبطَل توهُّمُ قصره على السبب، فتأمَّلْه فإنه بديعٌ.

فكذلك في الآية: لمَّا قال: ﴿قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ فجعل الخبرَ ﺑ﴿كَبِيرٌ﴾ واقعًا على: ﴿قِتَالٌ فِيهِ﴾، فيُطلق الحكمُ به على العموم، ولفظُ المضمر لا يقتضي ذلك، وقريبٌ مِن هذا قولُه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾، ولم يقل: «أجرَهم» تعليقًا لهذا الحكم بالوصف وهو كونُهم مصلحين، وليس في الضمير ما يدلُّ على الوصف المذكور، وقريبٌ منه وهو ألطف معنًى قولُه تعالى: ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾، ولم يقل: «فيه» تعليقًا لحكم الاعتزال بنفس الحيض وأنه هو سبب الاعتزال، وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ أَذىً﴾ ولم يقل: «الحيض» لأنَّ الآية جاريةٌ على الأصل، ولأنه لو كرَّره لثَقُل اللفظُ لتكرُّره ثلاثَ مرَّاتٍ، وكان ذكرُه بلفظ الظاهر في الأمر بالاعتزال أحسنَ مِن ذكره مضمرًا ليفيد تعليقَ الحكم بكونه حيضًا، بخلاف قوله: ﴿قُلْ هُوَ أَذىً﴾ فإنه إخبارٌ بالواقع والمخاطَبون يعلمون أنَّ جهةَ كونه أذًى هو نفس كونه حيضًا، بخلاف تعليق الحكم به فإنه إنما يُعلم بالشرع فتأمَّلْه».

[«بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٢/ ٤٠)]