في معنى المفصَّل بضربَيْه | الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس حفظه الله
Skip to Content
الثلاثاء 7 شوال 1445 هـ الموافق لـ 16 أبريل 2024 م

تمام العبارة
في الاستدراكات على كتابِ «الإنارة» شرح «الإشارة»
لأبي الوليد سليمان بنِ خلف الباجي ـ رحمه الله ـ
(ت: ٤٧٤ﻫ)

[  الحلقة الخامسة  ]

[ في معنى المفصَّل بضربَيْه ]

وَأَمَّا المُفَصَّلُ: فَهُوَ *مَا فُهِمَ(١) المُرَادُ بِهِ مِنْ لَفْظِهِ وَلَمْ يَفْتَقِرْ فِي بَيَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ*(٢)، وَهُوَ عَلَى(٣) ضَرْبَيْنِ: غَيْرِ مُحْتَمِلٍ وَمُحْتَمِلٍ(٤).

[ش] المراد بالمفصَّل ـ عند المصنِّف ـ رحمه الله ـ هو المفسَّر(٥)، ولفظ التفسير يقتضي تبيينَ ما يُقْصَد إلى تفسيره بعد إجماله وإبهامه؛ فهو إظهارُ المراد بالكلام المُجْمَل الذي لا يُفْهَمُ المرادُ منه إلَّا بالمفسَّر أو المفصَّل، أي: إخراج اللفظ المُجْمَل مِنْ حيِّز الإجمال إلى حيِّز التجلِّي بحيث يحصل فهمُ المراد به مِنْ لفظه، وما كان هذا حُكْمَه لم يفتقر ـ في بيانه ـ إلى غيره.

وبناءً على تعريف المصنِّف ـ رحمه الله ـ للمفصَّل، يكون تعريفُ المُجْمَلِ المُقابِلُ له ـ كما في كتابه: «الحدود» ـ هو: «ما لا يُفْهَمُ المرادُ به مِنْ لفظه، ويَفتقِرُ ـ في بيانه ـ إلى غيره»(٦)، حيث إنَّ تعريفه يفيد أنَّ اللفظ كان مُشكِلًا مُجْمَلًا فجاء بيانُه وتفسيرُه.

ولا يخفى أنَّ هذا التعريفَ تقييدٌ للتفسير أو البيان؛ إذ قصرُه على صورةٍ واحدةٍ مِنْ صُوَره لا يتوافق مع سَعَةِ التفسير أو البيان؛ فهو عامٌّ لِمَا سَبَقه إجمالٌ وعامٌّ لِمَا جاء ابتداءً؛ إذ المعلوم أنَّ النصوص الشرعية التي جاءَتْ بالأحكام ابتداءً تُسمَّى بيانًا؛ فالقرآن الكريم بيانٌ للناس، ولا يُشترَط فيه أَنْ يكون بيانًا لمُشْكِلٍ، والمُجمَلُ الذي عَنَاهُ المصنِّف رحمه الله ـ في هذا المَقام ـ إنما هو المُجْمَل عند السلف، وهو: ما لا يكفي وَحْدَه في العمل؛ فلا بُدَّ أَنْ يُعْرَف ببيانٍ: مثل قوله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا[التوبة: ١٠٣]، فإنَّ الصدقة المطهِّرة والمزكِّية تحتاج إلى بيانٍ(٧)، وهو ما أفصحَ عنه المصنِّف ـ رحمه الله ـ في «بابِ بيان حكم المُجْمَل» ـ كما سيأتي ـ.

أمَّا المُجْمَل عند الأصوليِّين ـ وحدُّه هو: «ما له دلالةٌ على معنيَيْن لا مزيَّةَ لأحَدِهما على الآخَر»، أو هو: «ما تردَّد بين مُحتمَلين فأكثرَ على السواء» ـ فقَدْ أورده المصنِّف ـ رحمه الله ـ في الضرب الثاني مِنَ المفصَّل، حيث قَسَّم المفصَّل إلى:

غير المُحتمِل: وهو «النصُّ» الذي يجب المصيرُ إليه ولا يُعْدَل عنه إلَّا بناسخٍ أو مُعارِضٍ ـ كما سيأتي ـ.

وإلى مُحتمِلٍ، وقَسَّمه إلى ضربين:

ـ فجَعَل «المُجْمَلَ» ـ عند الأصوليِّين ـ وهو: «الذي لا يجوز العملُ بأحَدِ احتمالاته إلَّا بدليلٍ خارجيٍّ صحيحٍ»، أي: لا يُصارُ إليه إلَّا بعد البيان في الضرب الأوَّل، حيث نصَّ عليه بقوله: «أَنْ لا يكون في أحَدِ مُحتمَلاته أظهرَ منه في سائرها» ـ كما سيأتي ـ.

ـ وألحقه بالضرب الثاني الذي هو «الظاهر» مُبيِّنًا حُكمَه بأنه: لا يجوز العدولُ عن معناهُ الظاهرِ إلى سائر المُحتمَلات إلَّا بدليلٍ أقوى منه، فإِنْ دلَّ دليلٌ أقوى على صرف اللفظ عن ظاهره المُتبادِر منه فإنه يُعْدَل عنه إلى المُحتمَل المرجوح، وهذا ما يُسمَّى ﺑ «المؤوَّل» ـ كما سيأتي بيانُه ـ.

[ في المفصَّل غيرِ المُحتمِل ]

فَأَمَّا غَيْرُ المُحْتَمِلِ فَهُوَ النَّصُّ؛ وَحَدُّهُ: مَا رُفِعَ فِي بَيَانِهِ إِلَى أَرْفَعِ(٨) غَايَاتِهِ(٩)، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖ[البقرة: ٢٢٨]، فَهَذَا نَصٌّ فِي الثَّلَاثَةِ(١٠) لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِذَا وَرَدَ وَجَبَ المَصِيرُ إِلَيْهِ وَالعَمَلُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَرِدَ نَاسِخٌ أَوْ مُعَارِضٌ(١١).

[ش] بيَّن المصنِّف ـ رحمه الله ـ أنَّ المفصَّل غيرَ المُحتمِل إنما يُرادُ به اللفظ الذي لا يحتمل إلَّا معنًى واحدًا فقط وهو «النصُّ»، وهذا معنى الحدِّ الذي ذَكَره بقوله: «مَا رُفِعَ فِي بَيَانِهِ إِلَى أَرْفَعِ غَايَاتِهِ»، أي: أَنْ يكون اللفظ قد وَرَد على غايةِ ما وُضِعَتْ عليه الألفاظُ مِنَ الوضوح والبيان؛ فهو اللفظ الذي يُفيدُ معناه بنفسه مِنْ غيرِ احتمالٍ؛ لأنه إذا احتمل معنيَيْن فأكثرَ لم تحصل له غايةُ البيان، بل قد قَصُرَ عن هذه الغاية؛ وحكمُ النصِّ: وجوبُ المصير إلى معناه، والعملِ بالحكم الذي دلَّ عليه، ولا يجوز تركُه إلَّا إذا ثَبَت ناسخٌ له فيجب العملُ بالناسخ وتركُ المنسوخ، أو إذا وَرَد دليلٌ مُعارِضٌ له راجحٌ فوَجَب المصيرُ إليه.

هذا، وليس مرادُ المصنِّف ـ رحمه الله ـ بذكره النصَّ أَنْ يكون مبيَّنًا لا يحتمل التأويلَ مِنْ جميعِ وجوهه، بل قد يكون نصًّا مِنْ وجهٍ، وظاهرًا مِنْ وجهٍ، وعامًّا مِنْ وجهٍ، ومُجمَلًا مِنْ وجهٍ، ومثالُه: قولُه تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗا[البقرة: ٢٣٤]، فهذا نصٌّ في الأشهر والعشر، وظاهرٌ في وجوب التربُّص هذه المدَّةَ، وعامٌّ في جميع الزوجات؛ فتضمَّنَتِ الآيةُ النصَّ والظاهر والعموم؛ والمثالُ الذي ساقَهُ المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ في قوله تعالى: ﴿وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖ[البقرة: ٢٢٨]، فهو نصٌّ في العدد «ثلاثة» الذي يَشْمَل أفرادَه على وجه الحصر، مثل قولِه تعالى: ﴿تِلۡكَ عَشَرَةٞ كَامِلَةٞ[البقرة: ١٩٦]، فهو مانعٌ مِنِ احتمالِ إرادةِ غيرِه، لكنَّ «القُرْء» في الآية مُجْمَلٌ لتردُّده بين الحيض والطهر فهو محتاجٌ إلى بيانٍ، إلَّا إذا حُمِل على المعهود المعروف مِنْ خطاب الشارع وهو الحيضُ، حيث لم يأتِ عنه ـ ولا في موضعٍ واحدٍ ـ استعمالُه في الطهر، فيُحْمَل لفظُ الشارع على عُرْفه ـ كما تقدَّم ـ، والأمر بالتربُّص مِنْ قبيل الظاهر لأنه وإِنْ وَرَد بالصيغة الخبرية فهي في معنى الإنشاء، والأصلُ في الأوامر أَنْ تُحْمَل على الوجوب لكونها أظهرَ في الوجوب مِنْ سائرِ مُحتمَلات الأمر ـ كما سيأتي ـ، ولا يُعْدَل عنه إلَّا بدليلٍ أقوى؛ فالآيةُ ـ إذن ـ تضمَّنَتِ النصَّ والظاهرَ والمُجْمَلَ.

ومِنْ خلالِ توضيحِ ما تقدَّم مِنْ تعريف النصِّ ـ اصطلاحًا ـ فإنَّ النصَّ يتجلَّى ـ مِنْ حيث حكمُه ـ بأنه لا يقبل الاعتراضَ مِنْ جهةِ ما يفيده بنفسه مِنْ غيرِ احتمالٍ، لكنَّه يقبل الاعتراضَ مِنْ غيرِ جهةِ دلالته على ما هو نصٌّ فيه.

كما أنَّ المصنِّف رحمه الله ـ مِنْ خلالِ تعريفه الاصطلاحيِّ للنصِّ وما مثَّل به مِنْ أسماء الأعداد ـ يظهر فيه اختيارُه لأحَدِ معاني النصِّ الاصطلاحيَّة، وهو: ما دَلَّ على معنًى قطعًا لا يحتمل غيرَه قطعًا كأسماء الأعداد(١٢)، غير أنَّ المَقامَ يقتضي التنبيهَ في مسألة النصِّ بالأعداد إلى أنَّ مِنَ الأصوليِّين مَنْ يقرِّر الفرقَ ـ مِنْ جهة الوضع ـ بين ذِكْر العدد في نفس الحكم مثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ»(١٣)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم في النهي عن المُصرَّاة: «فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»(١٤)؛ فهذا نصٌّ فيه لورود الدليل في الحكم نفسِه لا في مَحَلِّه، وبين ذِكْر العدد في مُتعلَّق الحكم مثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالحَرَمِ: الحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالحُدَيَّا»(١٥)؛ فهذا ليس بنصٍّ في قصر العدد على خمسٍ، أي: لا يدلُّ على منع الزيادة على الخمس بمنطوقه، وإنما يدلُّ بمفهومه؛ فهو نصٌّ في الانتهاء إلى العدد لا نصٌّ في القصر عليه(١٦).

هذا، وقد يُفيدُ اللفظُ معنًى لا يَحتمِل غيرَه، لا مِنْ جهة الوضع، وإنما النصُّ فيه بالسياق والقرائن، ومثالُه: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم عندما سُئِل عن بيع الرُّطَب بالتمر فقال: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟» فَقَالُوا: «نَعَمْ»، قَالَ: «فَلَا إِذًا»(١٧)؛ فإنَّ قوله: «فَلَا إِذًا» لا يُحْمَل على معنَى: «لا بأسَ إذًا»؛ لعدمِ تَطابُقِه مع فحوى السؤال في الحديث، وإنما يُوجِبُ القطعَ بأنَّ معناه: «فلا يجوز إذًا»؛ فهو نصٌّ فيه بسياق الحديث؛ لأنه إنما سُئِل عن الجواز، وجوابُه صلَّى الله عليه وسلَّم إنما يُطابِق سؤالَ السائل عنه، هذا مِنْ جهةٍ، وبقرينة التعليل بالنقص الدالَّة على المنع ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ إذ النقص لا يكون مُناسِبًا للحِلِّ والجواز؛ فتَعيَّن هذا المعنى وكان اللفظُ نصًّا فيه بالسياق والقرينة(١٨).

فصل
[ في المفصَّل المُحتمِل ]

وَأَمَّا(١٩) المُحْتَمِلُ فَهُوَ: مَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ فَزَائِدًا، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ـ أَيْضًا(٢٠) ـ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ أَظْهَرَ مِنْهُ فِي سَائِرِهَا: نَحْوَ قَوْلِكَ: لَوْنٌ لِلَّذِي يَقَعُ عَلَى البَيَاضِ وَالسَّوَادِ(٢١) وَغَيْرِهِمَا(٢٢) مِنَ الأَلْوَانِ وُقُوعًا وَاحِدًا، لَيْسَ هُوَ فِي أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ أَظْهَرَ(٢٣) مِنْهُ فِي سَائِرِهَا.

فَإِذَا قَالَ لَكَ(٢٤) مَنْ يَلْزَمُكَ أَمْرُهُ: «اصْبُغْ هَذَا الثَّوْبَ لَوْنًا» فَإِنْ(٢٥) كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى التَّخْيِيرِ فَأَيَّ(٢٦) لَوْنٍ صَبَغْتَ الثَّوْبَ(٢٧) كُنْتَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ لَوْنًا بِعَيْنِهِ لَمْ يُمْكِنْكَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ(٢٨) اللَّوْنَ الَّذِي أَرَادَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ البَيَانُ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ إِلَى امْتِثَالِ الفِعْلِ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ فِي أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ أَظْهَرَ مِنْهُ فِي سَائِرِهَا: كَأَلْفَاظِ الظَّاهِرِ وَالعُمُومِ(٢٩)(٣٠).

[ش] أراد المصنِّف رحمه الله ـ مِنْ خلالِ ضربَيِ المفصَّل ـ بيانَ دليل القسمة، وسببِ تقديمِ غيرِ المُحتمِل على المُحتمِل، وترجيح المُحتمِل بعضِه على بعضٍ.

ودليل القسمة: أنَّ اللفظ إمَّا أَنْ يكون له معنًى واحدٌ فقط لا ينقدح غيرُه في الذهن، أو يكون له معنَيَان فأكثرُ، أي: عدَّةُ احتمالاتٍ:

ـ فإِنْ كان اللفظ لا يَحتمِل بالوضع إلَّا معنًى واحدًا فهو «النصُّ»، وقد تقدَّم بيانُه.

ـ وإِنْ كان اللفظ يحتمل بالوضع أكثرَ مِنْ معنًى: فإمَّا أَنْ يكون راجحًا في أحَدِ معنيَيْه أو مَعانِيه أو لا يكون راجحًا:

ـ فإِنْ لم يكن راجحًا في أحَدِ معنيَيْه أو مَعانِيه فهو «المُجْمَل» عند الأصوليِّين، وهو «ما تتردَّد دلالتُه على معنيَيْن فأكثرَ لا مزيَّةَ لأحَدِها على غيره مِنَ المعاني بالنسبة إليه»(٣١)؛ فهو غيرُ متَّضِح الدلالة؛ إذ لو كان مُتَّضِحَ الدلالة لم يكن مُجْمَلًا، والمصنِّف ـ رحمه الله ـ عرَّفه وبيَّن حُكمَه ولم يذكر اسْمَه، وساق له مثالًا تطبيقيًّا عقليًّا، وهو: ما لو قال السيِّد لعبده: «اصْبُغِ الثوبَ لونًا» بأمرٍ لم يعيِّن له اللونَ المطلوب مِنْ بينِ سائر الألوان ـ مِنْ جهةٍ ـ ولم يَكِلْه إلى إرادته في اختيار اللون ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ فإنَّ العبد لا يستطيع امتثالَ أمرِ سيِّده إلَّا بعد أَنْ يبيِّن له اللونَ الذي أراده.

فحكمُ المُجمَل ـ إذَنْ ـ: وجوبُ التوقُّف فيه، أي: عدمُ جواز العمل به حتَّى يأتيَ دليلٌ خارجيٌّ يدلُّ على أنَّ المراد هو أحَدُ المعنيَيْن؛ وهذا هو البيانُ أو المبيَّن، ولا يجوز تأخيرُ البيان عن وقتِ تنفيذ العمل وامتثالِه، وهو وقت وجوب العمل بالخطاب.

هذا، وأسباب الإجمال في اللفظ ـ تبعًا للاحتمال ـ: ستَّةُ أقسامٍ، ودليلُ قسمتها: «أنَّ الإجمال تابعٌ للاحتمال، والاحتمالُ في اللفظ: إمَّا في حالة الإفراد، وإمَّا في حالة التركيب.

والاحتمالُ في حالة الإفراد: إمَّا في نفس اللفظ، وإمَّا في تصريفه، وإمَّا في لواحقه؛ فهذه ثلاثةُ أقسامٍ.

والاحتمالُ في التركيب: إمَّا في اشتراكِ تأليفه بين معنيَيْن، وإمَّا بتركيب المُفصَّل، وإمَّا بتفصيل المُركَّب؛ فهذه ثلاثةُ أقسامٍ.

فجميعُ أسباب الاحتمال ستَّةُ أقسامٍ»(٣٢).

والمصنِّف ـ رحمه الله ـ وإِنِ اكتفى بإيرادِ مثالٍ تطبيقيٍّ عقليٍّ للإجمال عند الأصوليِّين، إلَّا أنَّ الأصوليِّين أَوْرَدوا ـ في مصنَّفاتهم ـ جملةً مِنَ الأمثلة التطبيقية الشرعية على الإجمال، مفرَّعةً على أقسامه السالفةِ البيان(٣٣).

ـ أمَّا إِنْ كان اللفظُ راجحًا في أحَدِ معنيَيْه أو مُحتمَلاته مِنْ جهةِ الوضع فهو «الظاهر»؛ لذلك كان مُتَّضِحَ الدلالة على الحكم المطلوب.

وحكمُه: وجوبُ العمل بالمعنى الظاهر وبما دلَّ عليه مِنَ الأحكام، ولا يجوز تركُ العمل به إلَّا إذا قام دليلٌ صحيحٌ على تأويله أو تخصيصه أو نسخِه.

ـ أمَّا إذا كان حملُ اللفظ على المُحتمَل المرجوح لوجودِ دليلٍ مُنفصِلٍ دلَّ عليه فهو «المؤوَّل»، وهو: «حملُ اللفظ على غيرِ مدلوله الظاهر منه مع احتمالِه له بدليلٍ يعضده»؛ فهو مُتَّضِحُ الدلالةِ في المعنى الذي تُؤُوِّلَ فيه لأنه راجحٌ فيه، إلَّا أنَّ رجحانه لم يكن بالوضع وإنما اتَّضَحَتْ دلالتُه بدليلٍ مُنفصِلٍ؛ لذلك لم يكن كالظاهر في اتِّضاح الدلالة.

علمًا أنَّ أسباب الظاهر تُقابِلها أسبابُ المؤوَّل وهي ثمانيةٌ:

١ ـ الأصل: الحقيقة، ولا يُحْمَل اللفظُ على ما يُقابِلها وهو المجازُ إلَّا بدليلٍ مُنفصِلٍ، وكذلك القول في سائر أسباب الظاهر التي تُقابِلها أسبابُ المؤوَّل مثل:

٢ ـ الأصل: الانفراد في الوضع، وفي مقابلته: الاشتراكُ.

٣ ـ الأصل: التباين، وفي مقابلته: الترادف.

٤ ـ الأصل: الاستقلال، وفي مقابلته: الإضمار.

٥ ـ الأصل: التأسيس، وفي مقابلته: التأكيد.

٦ ـ الأصل: الترتيب، وفي مقابلته: التقديمُ والتأخير.

٧ ـ الأصل: العموم، وفي مقابلته: الخصوص.

٨ ـ الأصل: الإطلاق، وفي مقابلته: التقييد(٣٤).

ويجدر التنبيه إلى أمرين:

ـ أحدهما: أنَّ سبب تقديم النصِّ على الظاهر: كونُه أقوى لأنه لا يحتمل إلَّا معنًى واحدًا، بينما الظاهر يحتمل معنيَيْن أو أكثرَ هو في أحَدِها أظهرُ، وهو المُتبادِر إلى الذهن.

والسبب في تقديم الظاهر على المُجْمَل: أنَّ الظاهر مُتَّضِحُ الدلالة يُفْهَم منه معنًى واحدٌ، وإِنِ احتمل معنًى آخَرَ لكنَّه مرجوحٌ مِنْ جهةٍ، ولأنَّ الظاهر ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ يُشارِك النصَّ في وجوب العمل بهما.

وكذلك القول في المؤوَّل فإنه يُقدَّم ـ أيضًا ـ على المُجْمَل؛ لأنَّ المؤوَّل ـ وإِنْ كان مرجوحًا ـ فقَدِ اتَّضَحَتْ دلالتُه بالدليل المُنفصِل الذي صَرَف اللفظَ عن ظاهره المُتبادِر منه إلى المُحتمَل المرجوح، وحكمُه: وجوبُ العمل به فأَشْبَهَ الظاهرَ، غير أنَّ رجحان الظاهر كان بالوضع، في حينِ أنَّ رجحان المؤوَّل تمَّ بالدليل المُنفصِل، بينما المُجمَل لا يُفْهَمُ منه معنًى معيَّنٌ، ولا يجوز العملُ به حتَّى يأتيَ دليلٌ خارجيٌّ يبيِّن أنَّ المراد هو أحَدُ المعنيَيْن.

ـ ثانيهما: أنَّ النصَّ يتَّفِق مع الظاهر في رجحان الإفادة، غيرَ أنَّ النصَّ مانعٌ مِنِ احتمالِ غيرِه، في حينِ أنَّ الظاهر لا يمنعه، وهذا القَدْرُ المُشترَك بينهما يُسمَّى ﺑ «المُحْكَم»، ويُعرَّف بأنه: «ما يتَّضِح معناه».

أمَّا المُجمَل والمؤوَّل فيتَّفِقان في عدم الرجحان قبل البيان أو ورودِ دليلٍ مُنفصِلٍ، غيرَ أنَّ المُجمَل ـ وإِنْ لم يكن راجحًا ـ فهو غيرُ مرجوحٍ لتساوي الاحتمال مِنْ جهةِ الوضع.

بخلاف المؤوَّل فهو مرجوحٌ ابتداءً لمخالفته للظاهر؛ فلا يَؤُولُ إلى الظهور إلَّا بعد مساعدة الدليل الخارجيِّ له(٣٥).

والقَدْرُ المُشترَك بينهما يُسمَّى: «المتشابه»؛ فالمُتشابِه هو: «ما لم يتَّضِح معناه».

فالمُحكَم ـ إذن ـ نوعان: نصٌّ وظاهرٌ.

والمتشابه نوعان: مُجمَلٌ ومؤوَّلٌ.

ـ يُتبَع ـ



(١) «أ»: «عُلِم».

(٢) ما بين النجمتين ساقطٌ مِنْ: «ت».

(٣) «ت»: «فعلى».

(٤) «ت»: «مُحتمِلٍ وغيرِ مُحتمِلٍ»، تقديمٌ وتأخيرٌ.

(٥) انظر: «الحدود» للباجي (٤٦).

(٦) «الحدود» للباجي (٤٥).

(٧) انظر: «الفقيه والمتفقِّه» للخطيب البغدادي (١/ ٧٥).

(٨) «ت»: «أبعد».

(٩) انظر: «العُدَّة» لأبي يعلى (١/ ١٣٧)، «الحدود» (٤٢) و«المنهاج» (١٥) كلاهما للباجي.

(١٠) «أ»: «نصٌّ والثلاثة».

(١١) انظر: «إحكام الفصول» (١٨٩) و«المنهاج» (١٦) كلاهما للباجي.

(١٢) قال القرافيُّ ـ رحمه الله ـ في «شرح تنقيح الفصول» (٣٦): «والنَّصُّ فيه ثلاثةُ اصطلاحاتٍ: قِيلَ: ما دَلَّ على معنًى قطعًا لا يحتمل غيرَه قطعًا: كأسماء الأعداد، وقِيلَ: ما دَلَّ على معنًى قطعًا وإِنِ احتمل غيرَه: كصِيَغِ الجموع في العموم، فإنها تدلُّ على أَقَلِّ الجمع قطعًا وتحتمل الاستغراقَ، وقِيلَ: ما دلَّ على معنًى كيفما كان، وهو غالبُ استعمالِ الفقهاء».

قلت: والمثال الذي ساقَهُ المصنِّفُ ـ رحمه الله ـ مِنْ قبيل الاصطلاح الأوَّل للنصِّ.

(١٣) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الوضوء» (١/ ٢٧٤) باب الماء الذي يُغْسَل به شعرُ الإنسان، ومسلمٌ في «الطهارة» (٣/ ١٨٢) بابُ حكمِ ولوغ الكلب، والنسائيُّ (١/ ٥٢)، وابنُ ماجه (١/ ١٣٠)، وأحمد في «مُسنَده» (٢/ ٢٤٥، ٢٦٠)، ومالكٌ في «الموطَّإ» (١/ ٥٥)، والشافعيُّ في «مُسنَده» (٧)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(١٤) أخرج محلَّ الشاهد مسلمٌ في «البيوع» (١٠/ ١٦٦) بابُ حكمِ بيع المُصرَّاة، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(١٥) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «جزاء الصيد» (٤/ ٣٤) بابُ ما يقتل المُحرِمُ مِنَ الدوابِّ، ومسلمٌ في «الحجِّ» (٨/ ١١٣ ـ ١١٥) بابُ ما يُندَب للمُحرِم وغيرِه قتلُه مِنَ الدوابِّ في الحِلِّ والحرم، وغيرُهما مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها. وفي الباب مِنْ حديثِ ابنِ عمر وحفصة وغيرِهما رضي الله عنهم. وأكثرُ ألفاظ الحديث بذكر «العقرب» بدلَ «الحيَّة»، لكِنْ دون ذكر «الحِلِّ».

(١٦) انظر: «مفتاح الوصول» للتلمساني (٤٧٠ ـ ٤٧٣) بتحقيقي.

(١٧) أخرجه مالكٌ في «الموطَّإ» (٢/ ١٢٨)، والشافعيُّ في «مُسنَده» (١٤٧) وفي «الرسالة» (٣٣١)، وأحمدُ في «مُسنَده» (١/ ١٧٥)، وأبو داود في «البيوع والإجارات» (٣/ ٦٥٤، ٦٥٧) بابٌ في بيعِ التمر بالتمر، والترمذيُّ في «البيوع» (٣/ ٥٢٨) بابُ ما جاء في النهي عن المُحاقَلة والمُزابَنة، والنسائيُّ في «البيوع» (٧/ ٢٦٨) بابُ اشتراءِ التمر بالرُّطَب، وابنُ ماجه في «التجارات» (٢/ ٧٦١) بابُ بيعِ الرُّطَب بالتمر، والحاكم في «مُستدرَكه» (٢/ ٣٨)، والبيهقيُّ في «سُنَنه الكبرى» (٥/ ٢٩٤)، والدارقطنيُّ في «سُنَنه» (٣/ ٤٩)، والبغويُّ في «شرح السُّنَّة» (٨/ ٧٨)، وابنُ جارودٍ في «المنتقى» (٢٥٢)، والطحاويُّ في «شرح معاني الآثار» (٤/ ٦)، مِنْ حديثِ سعد بنِ أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه؛ كُلُّهم بلفظِ: («أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟» قالوا: «نعم»؛ فنَهَاه عن ذلك أو نهى عنه)، سوى الطحاويِّ فقَدْ أَوردَه بلفظِ: («أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟» قالوا: «نعم» قال: «فَلَا إِذًا»)، وزاد: «وكَرِهه». قال الترمذيُّ: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ». وصحَّحه ابنُ المَدِينيِّ وابنُ حِبَّان والحاكم وقال في «مُستدرَكه» (٢/ ٣٨): «لا أَعلمُ أَحَدًا طَعَن فيه»؛ [انظر: «نصب الراية» للزيلعي (٤/ ٤٠)، «التلخيص الحبير» (٣/ ٩) و«بلوغ المَرام» (٢/ ٤٤) كلاهما لابن حجر، «إرواء الغليل» للألباني (٥/ ١٩٩)، «تخريج أحاديث اللُّمَع» للغماري (٣٠٥)].

(١٨) انظر: «مفتاح الوصول» للتلمساني (٤٧٥ ـ ٤٧٦) بتحقيقي.

(١٩) «ن»: «فأمَّا».

(٢٠) «أيضًا» ساقطةٌ مِنْ: «أ، ت».

(٢١) «ت»: «السواد والبياض».

(٢٢) «أ»: «وغيرها».

(٢٣) «ن»: «في أحَدِها أَظهَرَ»، «ت»: «في أحَدٍ منها أَظهَرَ».

(٢٤) «لك» ساقطةٌ في: «ت».

(٢٥) «ن»: «فإذا».

(٢٦) «ن»: «بأيِّ».

(٢٧) «الثوب» ساقطةٌ مِنْ: «أ».

(٢٨) «أ»: «يتبيَّن».

(٢٩) «ت»: «الظاهر والعموم وغيرِ ذلك».

(٣٠) انظر: «إحكام الفصول» (١٩٠) و«المنهاج» (١٥) كلاهما للباجي.

(٣١) انظر تعريفاتِ الأصوليِّين للإجمال في: «المُعتمَد» لأبي الحسين (١/ ٣١٧)، «العُدَّة» لأبي يعلى (١/ ١٤٢)، «الحدود» للباجي (٤٥)، «شرح اللُّمَع» للشيرازي (١/ ٤٥٤)، «البرهان» للجُوَيْني (١/ ٤١٩)، «أصول السرخسي» (١/ ١٦٨)، «المستصفى» للغزَّالي (١/ ٣٤٥)، «المحصول» للفخر الرازي (١/ ٣/ ٢٣١)، «التمهيد» للكلوذاني (٢/ ٢٢٩)، «روضة الناظر» لابن قدامة (٢/ ٤٢)، «الإحكام» للآمدي (٢/ ١٦٥)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (٣٧)، «منتهى السول» لابن الحاجب (١٣٦)، «التحصيل» للسراج الأرموي (١/ ٤١٢)، «التعريفات» للجرجاني (٢٠٤)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (١٦٧).

(٣٢) «مفتاح الوصول» للتلمساني (٤٨٠) بتحقيقي، وانظر: «إرشاد الفحول» للشوكاني (١٦٩).

(٣٣) راجِعْ أسبابَ الإجمالِ والأمثلةَ التطبيقية الشرعية عليه في المصادر الأصوليَّة السابقة المذكورة.

(٣٤) انظر: «مفتاح الوصول» للتلمساني (٥١٤ وما بعدها، ٥٦٤ وما بعدها) بتحقيقي.

(٣٥) «الإبهاج» للسبكي وابنه (١/ ٢١٦).