الفتوى رقم: ٦١٧

الصنف: فتاوى العقيدة ـ التوحيد وما يُضادُّه ـ الأسماء والصفات

في فرعيَّة الكلام في الصفات عن الكلام في الذات

السؤال:

هل الجواهِرُ المُفرَدة ممَّا يُعرَفُ عند المخلوق: أجزاء وأبعاض (اليد، العين، الأصابع...) صفاتٌ، عِلمًا أنَّ الصفةَ تبيِّنُ ما انبهمَ مِنَ الذوات.

فإِنْ قلنا: إنها مِنْ باب الإخبار لقولنا: لله يدٌ، لله عينٌ، فهل القولُ فيها كالقول في الصفات؟

والسلف قالوا بإثباتها إثباتَ وجودٍ، فهل هذا الإثباتُ يعدو عن كونها كائنةً إلى كونها معقولةً ـ لغةً ـ مجهولةَ الكيف؟

وكيف نعقل عَلَمًا دالًّا على اسْمِ العين ممَّا لا نلحظه ولا اشتراكَ فيه، بل ما نعلمه هو تواطؤُ الألفاظ لا غير؟ تكرَّموا علينا يا شيخُ بما يشفي، ممَّا عَهِدناه منكم.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فاعْلَمْ أنه ينبغي إثباتُ صفات الله تعالى الذاتيَّة والخبريَّة والفعليَّة على الوجه اللائق بجلاله وعظمَتِه، ونفيُ ما يُضادُّ كمالَ اللهِ المقدَّسَ، والقولُ في صفات الله تعالى المُضافةِ إليه على وجه الاختصاص كالقول في الذات، والقولُ في بعضها كالقول في البعض الآخَر؛ لأنَّ الأصل في ذلك أنَّ الكلام في الصفاتِ فرعٌ عن الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوُه؛ إذ العلمُ بكيفيَّة الصفةِ يَستلزِمُ العِلمَ بكيفيَّة الموصوف، ونفيُ العلم بكيفيَّة الصفة يَستلزِمُ نَفْيَ العلم بكيفيَّة الموصوف، فالذاتُ والصفةُ مِنْ بابٍ واحدٍ، فكما أنَّ ذاته سبحانه وتعالى لا يعلم أحَدٌ كيفيَّتَها وحقيقةَ كُنْهِها، فكذلك أسماؤه وصِفاتُه لا يعلم كيفيَّتَها أحَدٌ سِواهُ، ومَرَدُّ العلم في باب الأسماء والصفات إلى خَبَرِ اللهِ تعالى وخبرِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لانقطاعِ طُرُقِ العلم إلَّا مِنْ هذه الجهة، وصفاتُ الله تعالى غيبيَّةٌ لا يجوز مجاوزةُ القرآن والسنَّة فيها لقوله تعالى: ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ[البقرة: ١٦٩؛ الأعراف: ٣٣]، ولقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡ‍ُٔولٗا ٣٦[الإسراء]، وإذا تقرَّرَتْ غَيبتُها فإنَّ العقل لا يُدرِك منها ممَّا يجبُ لله أو يمتنع عليه إلَّا على وجه الإجمال والعموم، لكن حقيقتها على وجه التفصيل لا يُدرِكها، فلا مدخلَ للعقل في باب الأسماء والصفات على جهة التفصيل، وتوضيحُ ذلك: أنَّ العقلَ يُدرِك ـ على وجه الإجمال ـ أنَّ كُلَّ صفةِ نَقْصٍ مُمتنِعةٌ على الله تعالى، كما يُدرِك أنَّ كُلَّ صفةِ كمالٍ ـ باعتبار الصفة من حيث هي صفةٌ لا باعتبار إضافتها للإنسان ـ فاللهُ أحقُّ بها، فإذًا العقلُ يُدرِك بأنَّ الله كاملُ الصفات إثباتًا ونفيًا، لكنَّ هذا لا يعني أنَّ العقل يُثْبِتُ كُلَّ صفةٍ بعينها أو يَنفيها، فالعقلُ يُدرِك أنَّ اللهَ خالقٌ يَمتنِعُ أَنْ يكون حادثًا بعد العدم؛ لأنه صفةُ نَقصٍ، وأنَّ الله سميعٌ بصيرٌ لأنهما صِفَتَا كمالٍ، فهو يُدرِك بأنَّ العجز والعمى والصمم وغيرَها مِنَ النقائص لا يجوز أَنْ يُوصَف اللهُ بها، وإلى هذا الحدِّ مِنَ العموم ينتهي إدراكُه، أمَّا تفصيلُ ذلك فهو عاجزٌ عن إدراك حقيقته، ويُتوقَّف فيه على الدليل السمعيِّ ليس إلَّا؛ ونُقرِّبُ ذلك بمثالٍ آخَرَ، وهو أنَّ العقل يُدرِك ـ على وجه الإجمال ـ بعضَ مخلوقات الله تعالى الغَيبيَّة كالجنَّة ونعيمِها مِنْ فاكهةٍ ونخلٍ ورمَّانٍ وحُورٍ وغيرِها، لكنَّ حقيقتها تغيب عنه؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٧[السجدة]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم ـ في حديثٍ قدسيٍّ ـ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»(١)، فإذا كان هذا في مخلوقاته سبحانه فكيف بصفات الخالق عزَّ وجلَّ؟ لذلك وَجَب إجراءُ النصوص الشرعيَّة على ظاهِرها، فنُثبِتُ اللازمَ والملزوم، فاللهُ سبحانه وَصَفَ نَفْسَه بأنَّ له عينًا ويدًا ووجهًا، فَنُثْبِتُ له حقيقةَ العَيْنِ والرؤيةِ اللَّازمة لها، ونُثبِتُ حقيقةَ اليد وما أَسبَغه اللهُ مِنَ النِّعَم على عباده، ونُثبِت له حقيقةَ الوجه كمَلزومٍ عن لازِم ذاتِه سبحانه، والصفاتُ الخبريَّة هذه ممَّا تُسمَّى بالأبعاض أو الأجزاء هي مُلازِمةٌ للذَّات غيرُ مُنفَكَّةٍ عنها؛ فلم يَزَلْ سبحانه موصوفًا بها ولا يزال أزلًا وأبدًا، واللهُ تعالى لم يَزَلْ يسمع ولا يزال، وكذلك في غيرها مِنَ الصفات كقدرته وعِلمه وحياته؛ غير أنَّ مِنَ الصفات الإلهيَّة ما هو صفةٌ أزليَّةٌ قديمةٌ بإطلاقٍ كالحياة، وما هو أزليُّ الجنسِ قديمُ النوع، وحادثُ الأفرادِ مُتجدِّدُ الآحاد: كالكلام والسمع والبصر وغيرها مِنَ الصفات الفعلية؛ فإنَّ التجدُّد في صفة السمع ـ مثلًا ـ عند حدوث التعلُّق بالمسموع، أي: حدوث نسبةٍ وإضافةٍ في السمع، فإنه إنَّما يحدث بحدوثِ أمرٍ وجوديٍّ ثبوتيٍّ يقتضي ذلك، ويَمتنِعُ حدوثُه بأمرٍ عدميٍّ، فالعدمُ ليس بشيءٍ حتَّى يتجدَّد، ويُوضِّحُ ذلك ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ بقوله: «.. إذا كان يسمع ويُبصِرُ الأقوالَ والأعمالَ بعد أَنْ وُجِدَتْ؛ فإمَّا أَنْ يُقال: إنه تجدَّد وكان لا يسمعها ولا يُبصِرُها فهو ـ بعد أَنْ خَلَقها ـ لا يسمعها ولا يُبصِرها؛ وإِنْ تجدَّد شيءٌ: فإمَّا أَنْ يكون وجودًا أو عدمًا؛ فإِنْ كان عدمًا فلم يتجدَّدْ شيءٌ، وإِنْ كان وجودًا: فإمَّا أَنْ يكون قائمًا بذات الله أو قائمًا بذات غيره، والثاني يستلزم أَنْ يكون ذلك الغيرُ هو الذي يسمع ويرى؛ فيتعيَّن أنَّ ذلك السمع والرؤية الموجودَيْن قائمٌ بذات الله، وهذا لا حيلةَ فيه»، ثمَّ قال: «وأيضًا فحدوثُ تعلُّقٍ هو نسبةٌ وإضافةٌ مِنْ غيرِ حدوثِ ما يُوجِبُ ذلك مُمتنِعٌ، فلا يحدث نسبة وإضافة إلَّا بحدوثِ أمرٍ وجوديٍّ يقتضي ذلك»(٢).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١ مِنَ المحرَّم ١٤٢٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٠ جانفي ٢٠٠٧م



(١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «بدء الخلق» بابُ ما جاء في صفة الجنَّة وأنها مخلوقةٌ (٣٢٤٤)، ومسلمٌ في «الجنَّة وصِفَةِ نعيمِها وأهلِها» (٢٨٢٤)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

(٢) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٦/ ٢٢٨ ـ ٢٢٩).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)