أضيفُ إلى ما سبق في مسألة العذر بالجهل في المسائل العقدية حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتعلِّق بالرجل الذي جهل قدرة الله تعالى فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حكاية عنه: «فَوَاللهِ لئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ ...  للمزيد

الفتوى رقم: ٩٢٦

الصنف: فتاوى العقيدة - أركان الإيمان - مسائل الإيمان

في تأويل حديث القدرة

السـؤال:

أضيفُ إلى ما سبق في مسألة العذر بالجهل في المسائل العقدية حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتعلِّق بالرجل الذي جهل قدرة الله تعالى فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حكاية عنه: «فَوَاللهِ لئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ»(١)، ومع ذلك عذره الله تعالى بجهله وغفر له، فهل هذا الحديث يصلح للاستدلال به في العذر بالجهل في مسائل التوحيد والاعتقاد؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فأمَّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتعلِّقُ بالرجل الذي قال: «فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ ليُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ»(٢)،  والذي استُدلَّ به على جهلِه لقدرة الله تعالى، ومع ذلك عَذَره اللهُ تعالى وغفر له، فإنَّ توجيه الجواب على هذا الاستدلال نرتِّبه على الوجهين التاليين:

الوجه الأوَّل: عدمُ التسليم بأنه كان يجهل قدرةَ الله تعالى لظهور إيمانه بقُدرة الله تعالى، ففيما أخرجه مسلمٌ قولُه: «فَإِنِّي لَمْ أَبْتَهِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا، وَإنَّ اللهَ يَقْدِرُ عَلَيَّ أَنْ يُعَذِّبَنِي»(٣)، وهذه الرواية التي عليها جمهورُ الرواة؛ قال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «هكذا هو في معظم النُّسَخ في بلادنا، ونُقِل اتِّفاقُ الرواة والنُّسَخ عليه»(٤)، وليس في هذه الرواية نفيٌ لحقيقة القدرة، بل بالعكس فيها تقريرٌ لإيمان الرجل بقدرة الله على البعث والتعذيب، وإذا رُجِّح هذا المعنى لم يبقَ أيُّ وجهٍ أو طريقٍ للاستدلال به على مسألة العذر بالجهل.

الوجه الثاني: فيما إذا ما قوبلت روايةُ الجمهور بالرواية الأخرى أمكن الجمعُ بينهما من المناحي التالية:

١ـحملُ «قَدَرَ اللهُ» على القضاء، ويكون المعنى: «فواللهِ لئن قضى اللهُ عليه ليعذِّبنَّه..»، و«قدر» بالتخفيف والتشديد بمعنًى واحدٍ.

٢ ـ حملُ «قَدَرَ اللهُ» على التضييق لقوله تعالى: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُ [الطلاق: ٧]، ﴿فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُ [الفجر: ١٦]، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: ﴿فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ [الأنبياء: ٨٧]، ويكون المعنى: «لئن ضيَّق الله عليه»، والتأويلان ذَكَرهما النوويُّ ـ رحمه الله ـ(٥)، غيرَ أنَّ هذين التأويلين يعكِّر عليهما ما جاء في غير مسلمٍ بلفظ: «لَعَلِّي أُضِلُّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»(٦)، أي: أغيب عنه، وهو يدلُّ على أنَّ قولَه: «لئن قَدَر اللهُ» على ظاهره فلا يحتاج إلى تأويلٍ.

٣ ـ ولو حُمل الحديثُ على ظاهره فإنه يمكن الجمعُ ـ أيضًا ـ بين الحديثين من زاويةٍ ثالثةٍ بحمل رواية الجمهور على الممكنات والرواية الأخرى على الممتنِعات، فيكون تقدير كلامه على هذا الوجه: إنَّ الله قادرٌ على أن يعذِّبني إن دفنتموني بهيئتي، فأمَّا إن سحقتموني وذرَّيتموني في البَرِّ والبحر فلا يقدر عليَّ.

ومعنى هذا أنَّ الرجل مُوقِنٌ بأنَّ الله مُتَّصفٌ بكمال القدرة في الممكنات، لكنَّه ظنَّ أنَّ جَمْعَ ما تفرَّق مِن رماده في البرِّ والبحر ممتنعٌ على الله تعالى فلا تتعلَّق به القدرةُ الإلهية، إذ(٧)، ومثلُ هذا التفصيل في القدرة لا يُعلم إلَّا بنصٍّ شرعيٍّ، فالجهلُ بالدقيق مِن صور القدرة لا يؤثِّر في ربوبية الله تعالى ولا في ألوهيته، بخلاف مَن شكَّ في أصل القدرة فهو كافرٌ؛ لأنه ينسب إلى الله العجزَ والضعف عن إمكان الخلق، فالجهلُ بدقيق الصفات لا يَلزم منه الجهلُ بأصل الصفة، كما أنَّ الجهل بالصفات لا يَلزم منه الجهلُ بالذات، إلَّا إذا كانت الذاتُ لا تُتصوَّر إلَّا بتلك الصفة، ولمَّا كانت جزئيَّات المسائل تحتاج في بيانها إلى نصٍّ شرعيٍّ عُذِر الرجل لجهله بها؛ لأنه «لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الخِطَابِ إِلَّا بَعْدَ البَلَاغِ»، قال الإمام الشافعيُّ ـ رحمه الله ـ: «لله أسماءٌ وصفاتٌ لا يَسَعُ أحدًا ردُّها، ومن خالف بعد ثبوت الحجَّة عليه فقَدْ كفر، وأمَّا قبل قيام الحجَّة فإنه يُعذر بالجهل؛ لأنَّ عِلْمَ ذلك لا يُدرك بالعقل ولا الرؤية(٨) والفكر»(٩)، وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وَمَنْ شكَّ في صفةٍ مِن صفات الله تعالى ومثلُه لا يجهلها فمُرتدٌّ، وإن كان مثلُه يجهلها فليس بمرتدٍّ، ولهذا لم يُكَفِّرِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الرجلَ الشاكَّ في قدرة الله وإعادته؛ لأنه لا يكون إلَّا بعد الرسالة»(١٠).

هذا، والمعلوم أنَّ الحديث ـ على فرض التسليم ـ إنما ورد في جهل صفةٍ أو شكٍّ فيها ولم يَرِدْ في التوحيد وترك الشرك الذي هو أصل الدِّين كلِّه؛ ذلك لأنَّالرجل كان موحِّدًا، يشهد له ما رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:«كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ إِلَّا التَّوْحِيدَ..»(١١)، فلو كان التوحيد ـ بعد البلوغ ـ منتفيًا عنه ومات مشركًا لَلزم عقابُه بنصِّ الآية سمعًا، ولم يكن محلًّا للغفران لقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ [النساء: ٤٨]، فهذا أصلٌ كُلِّيٌّ قطعيٌّ أنَّ مَن مات على التوحيد دخل الجنَّةَ، فلا يُخلَّد في النار أحدٌ مات على التوحيد ولو عَمِل مِن المعاصي ما عَمِل، كما أنه لا يدخل الجنَّةَ أحدٌ مات على الكفر ولو عمل مِن أعمال البِرِّ ما عَمِل، وجحدُ صفة القدرة كفرٌ اتِّفاقًا(١٢)، والرجل في الحديث ـ كما تقدَّم ـ كان موحِّدًا ومؤمنًا بقدرة الله تعالى في الجملة على إحيائه، ولم يكن شاكًّا في البعث بل كان موقِنًا، وقد بيَّن إيمانَه باعترافه بأنه فَعَل ذلك مِن خشية الله تعالى، ولعلَّه لم يشكَّ أصلًا في قدرة الله، وإنما قال ذلك «في حالةٍ غلب عليه فيها الدهشُ والخوف وشدَّةُ الجزع بحيث ذهب تيقُّظُه وتدبُّرُ ما يقوله، فصار في معنى الغافل والناسي، وهذه الحالةُ لا يؤاخَذ فيها، وهو نحوُ قولِ القائل الآخَر الذي غلب عليه الفرحُ حين وجد راحلتَه: «أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ»(١٣)، فلم يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو»(١٤)، قال ابن حجرٍ ـ رحمه الله ـ: «وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبةِ الخوف عليه حتى ذهب بعقله لِما يقول، ولم يَقُلْهُ قاصدًا لحقيقة معناه، بل في حالةٍ كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخَذ بما يصدر منه»(١٥).

ومِن هنا يتبيَّن مِن خلال أقوال العلماء ـ بغضِّ النظر عن خروج هذه المسـألة عن محلِّ النِّزاع لعدم تعلُّقها بالتوحيد ـ اتِّفاقُهم على أنَّ ظاهر الحديث غيرُ مرادٍ، إذ لو كان مرادًا لَما صاروا إلى تأويله ولعَذَروه بالجهل، لكن لم يأتِ من أقوالهم ما يفيد تَرْكَ التأويل وعَذْرَه بالجهل، بل بالعكس إنما صرفوا اللفظَ عن ظاهره ضرورةً لتعارُضه ـ باعتباره دليـلًا جزئيًّا على قضيَّةٍ معيَّنةٍ ـ مع القواعد والأصول الكلِّيَّة جمعًا بين النصوص الشرعية، فاقتضى ـ والحال هذه ـ وجوبَ تأويلِ دليلِ قضيَّةِ عينٍ جزئيةٍ وصَرْفها عن ظاهر معناها لتُساير أحكامَ القواعد الكلِّيَّة، إذ لا تنتهض الجزئيَّاتُ على نقض الكلِّيَّات، استبقاءً لأحكام القواعد الكلِّيَّة جاريةً في الجزئيَّات وقاضيةً بعدم العذر بالجهل في أصول الإيمان والتوحيد.

والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

 

الجزائر في: ٠٧ جمادى الثانية ١٤٢٩ﻫ
الموافق ﻟ: ١١ جوان ٢٠٠٨م


 


(١) عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول اللهَ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قَالَ رَجُلٌ -لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ - إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ واذرُوا نِصفَه في البرّ ونصْفهَ في البَحْرِ، فواللهِ لئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ ليُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لا يعَذِّبهُ أحدًا من العالمين، فَأَمَرَ اللهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فعلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ». أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب التوحيد، باب قول الله يريدون أن يبدلوا كلام الله: (٧٠٦٧)، ومسلم في «صحيحه» كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه: (٦٩٨٠).

(٢) أخرجه البخاري في «التوحيد» باب قول الله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَٰمَ ٱللَّهِۚ (٧٥٠٦)، ومسلم في «التوبة» (٢٧٥٦).

(٣) أخرجه مسلمٌ في «التوبة» (٢٧٥٧) من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه.

(٤) «شرح مسلم» للنووي (١٧/ ٧٣).

(٥) «شرح مسلم» للنووي (١٧/ ٧١).

(٦) أخرجه أحمد في «مسنده» (٢٠٠١٢)، من حديث معاوية بن حَيْدة رضي الله عنه. قال الهيثميُّ في«مجمع الزوائد» (١٠/ ٣٢٠): «رواه أحمد والطبرانيُّ بنحوه في «الكبير» و«الأوسط»، ورجالُ أحمد ثقاتٌ». والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٧/ ١٠٦)، والوادعيُّ في «الصحيح المسند» (١١٢٧).

(٧) اعلم أنه ليس معنى تعلُّق إرادة الله وقدرته بالممكنات الجائزات فقط دون المستحيلات والواجبات عَجْزَه عنها، وإنما إرادة الله تعالى وقدرته لا تتعلَّق بالمستحيلات؛ لأنَّ المستحيل والمعدوم ليس بشيءٍ ولا وجودَ له في الخارج وإنما في الذهن، وهو ـ سبحانه ـ غيرُ عاجزٍ عن إيجادها لكن لا تليق به، لذلك نثبت لله سبحانه الإرادةَ والقدرةَ المطلقتين وننفي عنه سبحانه ما لا يليق به من اتِّخاذ شريكٍ أو صاحبةٍ أو ولدٍ أو معينٍ، لذلك تعلَّقت الإرادة والقدرة بالممكنات والجائزات فقط ـ وهو العالَم الكونيُّ الذي يقبل الوجودَ والعدم ـ دون المستحيلات والواجبات.

(٨) كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب: «الرويَّة».

(٩) قال ابن حجرٍ في «فتح الباري» (١٣/ ٤٠٧): «وأخرج ابنُ أبي حاتمٍ في «مناقب الشافعي» عن يونس بن عبد الأعلى: سمعتُ الشافعيَّ يقول: لله أسماءٌ...».

(١٠) «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (٤/ ٦٠٦).

(١١) أخرجه أحمد في «مسنده» (٨٠٤٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٧/ ١٠٥) رقم (٣٠٤٨).

(١٢) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٥٢٣).

(١٣) أخرج محلَّ الشاهد منه مسلمٌ في «التوبة» (٢٧٤٧) من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه. واتَّفق الشيخان على إخراج الحديث من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: البخاريُّ في «الدعوات» باب التوبة (٦٣٠٨)، ومسلم في «التوبة» (٢٧٤٤).

(١٤) «شرح مسلم» للنووي (١٧/ ٧١).

(١٥) «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٥٢٣).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)