الفتوى رقم: ١

الصنف: فتاوى المعاملات المالية - الهبات

القسمة بين الأولاد في العطيَّة

السؤال:

نرجو مِن شيخنا أبي عبد المعزِّ -حفظه اللهُ ونفع به- أن يتفضَّلَ بالإجابة على السؤال الآتي: اتَّفق شخصٌ (وهو على قيد الحياة) مع أولاده ذكورًا وإناثًا على السواء على قسمة أرضٍ يملكها، فهل تتمُّ هذه القسمةُ على أساس الميراث، أم على أساس التساوي في العطيَّة؟

أفيدونا ممَّا أفادكم اللهُ، وجزاكم اللهُ خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:

فإنَّ التسوية في العطيَّة المطلوبةَ شرعًا بين الذكور والإناث التي يتحقَّق بها العدلُ هي أن يُعْطَى الذكرُ ضِعْفَ قدرِ ما يُعْطَى للأنثى على حَسَبِ قسمة المواريث، وبهذا قال عطاءٌ وشريحٌ وإسحاقُ بنُ محمَّدٍ ومحمَّدُ بنُ الحسنِ الشيبانيُّ، وهو مذهبُ الحنابلة، وبه قال ابنُ تيميةَ ـ رحمهم اللهُ ـ، وخالف في ذلك مالكٌ والشافعيُّ وابنُ المباركِ وأبو يوسفَ وأهلُ الظاهرِ وغيرُهم فجعلوا التسويةَ في مقدار العطيَّة أن يُعْطَى للأنثى بقدر ما يُعْطَى للذكرِ؛ لأنها عطيَّةٌ في الحياة فاستوى فيها الذكرُ والأنثى كالنفقة والكسوة، كما استدلُّوا بظاهر الأمر بالتسوية الوارد في حديث النعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنهما حيث قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم لبشيرِ بن سعدٍ رضي الله عنه: «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟»، قَالَ: «بَلَى»، قَالَ: «فَلاَ إِذًا»(١)، والبنتُ كالابن في استحقاقِ برِّها فكذلك في عطيَّتِها، وبحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «سَوُّوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ فَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلاً أَحَدًا لَفَضَّلْتُ النِّسَاءَ»(٢)، ولأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم لم يستفصلْ في أولادِ بشيرِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه: أكلُّهم ذكورٌ أم فيهم أنثى؟ و«تَرْكُ الاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الاحْتِمَالِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ» كما هو مقرَّرٌ في القواعد.

وتقرير المذهب الصحيح: أنَّ المولى عزَّ وجلَّ قَسَمَ المواريثَ بين الذكور والإناث: للذكر مثلُ حظِّ الأنثيين، فأمَّا تفضيلُ الذَّكَر في قسمة المواريث فلزيادةِ حاجتِه، إذ المهرُ والنفقةُ على الزوجة والأولاد إنما هما على الذَّكَرِ، والأنثى لها ذلك كلُّه. وهذا المعنى موجودٌ في العطيَّةِ، سواءٌ باعتبارِ الحالِ أو المآلِ وغيرُ موجودٍ في الكسوةِ والنفقةِ. وعطيَّةُ الوالد لِولده إذا كانت في الحياة فهي إحدى حالتَيِ العطيَّة، فينبغي أن لا تختلفَ عنِ الأخرى وهي حالةُ الموت. والأَوْلَى قسمةُ العطيَّة على قسمة الله، وردُّهم إلى فرائضهم وسهامِهم.

أمَّا حديثُ النعمانِ رضي الله عنه فلم يَرِدْ ما يدلُّ على حال أولادِ والده بشير بن سعدٍ رضي الله عنه، ولعلَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم علم أنه ليس له إلاَّ الذكورُ، وعلى تقدير العموم في تركه للاستفصال فإنَّ الاحتجاج به على التسوية في نفس العطيَّة لا يصلح؛ لاحتمالِ أنَّ المراد بالتسوية أن تكون في أصل العطاء لا في صفته. لذلك تُحْمَلُ التسويةُ الواردةُ في حديثِ النعمانِ على القسمة على كتاب الله تعالى وهي صفةُ العطاء.

أمَّا حديثُ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما فلا يتمُّ الاحتجاجُ بالشطر الثاني منه لكونه ضعيفًا وهو محلُّ الشاهدِ؛ لأنَّ في إسنادِه سعيدَ بنَ يوسفَ: متَّفَقٌ على تضعيفه. وذكر ابنُ عدِيٍّ في «الكامل» أنه لم يُرَ له أنكرُ مِنْ هذا الحديثِ.

هذا، وإن كان الحافظُ حسَّن إسنادَه إلاَّ أنه ضعَّف ابنَ يوسفَ هذا في «تقريبِه»؛ لذلك قال الألبانيُّ معقِّبًا عليه: «ومنه تعلم أنَّ قولَ ابنِ حجرٍ في «الفتح»: «إسنادُه حسنٌ» غيرُ حَسَنٍ»، وأضاف قائلاً: «ثمَّ وجدتُ الحديثَ قد رواه أبو محمَّدٍ الجوهريُّ في «الفوائد المنتقاة»، وعنهُ ابنُ عساكِرَ مِنْ طريقِ الأوزاعيِّ قال: حدَّثني يحيى بنُ أبي كثيرٍ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .. فذَكَره، وهذا إسنادٌ معضلٌ، وهذا هو أصلُ الحديثِ، فإنَّ الأوزاعيَّ ثقةٌ ثبتٌ، فمخالفةُ سعيدِ بنِ يوسفَ إيَّاه إنما هو مِنَ الأدلَّةِ على وَهَنِه وضعفِه»(٣).

وعليه، فالواجبُ العدلُ في عطيَّةِ الأولادِ على حَسَبِ ميراثِهم، وهو ما كان عليه الأمرُ في العهود المفضَّلة. قال عطاءٌ: «لَا نَجِدُهُمْ كَانُوا يَقْسِمُونَ إِلَّا عَلَى كِتَابِ اللهِ»(٤)، وهذا خبرٌ عن جميعِهم. وفي هذا حجَّةٌ على أنهم كانوا يُعْطون الذَّكَرَ مِثْلَ حظِّ الأنثيين. وجاء عن شُريحٍ أنه قال لرجلٍ قَسَمَ مالَه بين أولادِه: «قِسْمَةُ اللهِ أَعْدَلُ مِنْ قِسْمَتِكَ، فَارْدُدْهُمْ إِلَى قِسْمَةِ اللهِ وَفَرَائِضِهِ وَأَشْهِدْنِي، وَإِلَّا فَلَا تُشْهِدْنِي، لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»(٥).

والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في ١٥ ذو الحجَّة ١٤١٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٢ أفريل ١٩٩٧م


(١) أخرجه مسلم في «الهبات» (١٦٢٣) من حديث النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما.

(٢) أخرجه البيهقي (١٢٠٠٠) من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما. وضعَّفه الألباني في «السلسلة الضعيفة» (٣٤٠) و«إرواء الغليل» (١٦٢٨).

(٣) «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (١/ ٥١٥) و«إرواء الغليل» (٦/ ٦٧).

(٤) أخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (١٦٤٩٩)، والطبراني في «الكبير» (١٨/ ٣٤٨)، وسعيد بن منصورٍ في «سننه» (٢٩٢).

(٥) أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» (٣٠٩٩٨).

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)