الفتوى رقم: ٣٦٦

الصنف: فتاوى الأشربة والأطعمة - الأشربة

الخل المحتوي على نسبة من الكحول

السؤال: نرجو من فضيلتكم أن توضِّحوا لنا حكم استهلاك الخلِّ الذي يباع في الأسواق المحتوي على نسبةٍ من الكحول؟

الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين، أمّا بعد:

فلا خلاف بين أهل العلم المعتبرين أنَّ الخمر إذا تخلَّلت بنفسها فيحِلُّ شربُ الخلِّ اتِّفاقًا، أمَّا إذا تخلَّلت بالعلاج ففيها خلافٌ، والصحيح أنَّ الخلَّ المتولِّد عن الخمر حلالٌ، سواءٌ تخلَّل بالعلاج أو تخلَّل بنفسه، لأنَّ الخلَّ المتولِّد عن الخمر هو خلٌّ لغةً وشرعًا، ويدلُّ على حلِّيَّته قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «نِعْمَ الإِدَامُ الخَلُّ»(١)، والحديث لم يفرِّق بين الخلِّ المتولِّد عن الخمر والخلِّ المصنوع مباشرةً، والتفريق يحتاج إلى بيانٍ، و«تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز»، ولأنَّ التخليل يزيل الوصفَ المفسد ويجعل في الخمر وصفَ الصلاح فلم تبق خمرًا بعد تحوُّلها، ويُعرف التخلُّل بالتغيير من المرارة إلى الحموضة، لذلك لا يضرُّ وجود بعض درجات الكحول فيها اكتفاءً بظهور الحموضة فيها، لأنها دليل الخَلِّيَّة في المشروب، فضلاً عن أنه ليس كلُّ كحولٍ مسكرًا، فمثلا: قشر البرتقال يحتوي على كحولٍ لكنَّه غير مسكرٍ، وعليه فالخلُّ طاهرٌ طيِّبٌ للحديث السابق، ولأنه تتناوله عموم آيات الجواز والإباحة كقوله تعالى: ﴿اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ [المائدة: ٥]، وقوله تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ﴾ [الأعراف: ١٥٧]، والخلُّ مع ذلك دواءٌ نافعٌ، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «وخلُّ الخمر ينفع المعدة الملتهبة، ويقمع الصفراء، ويدفع ضرر الأدوية القتَّالة، ويُحلِّل اللبنَ والدم إذا جمدا في الجوف، وينفع الطِّحال، ويدبغ المعدة، ويَعقِلُ البطن، ويقطع العطش، ويمنع الورم حيث يريد أن يحدث، ويعين على الهضم، ويضادُّ البلغم، ويلطِّف الأغذية الغليظة، ويُرِقُّ الدم....»(٢) قال المناوي: «وقد كان المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم يحبُّه ويشربه ممزوجًا بالعسل، وذلك من أنفع المطعومات، قال ابن العربي: ولذلك جمعهما الأطبَّاء وجعلوهما أصلَ المشروبات، ولم يكن في صناعة الطبِّ شرابٌ سواه»(٣).

هذا، وسبب اختلاف العلماء في المسألة السابقة يرجع إلى الخمر هل تطهر بإلقاء شيء فيها من ملحٍ أو خلٍّ أو نحو ذلك وبعد أن تصير حامضًا أم تبقى نجسةً؟ علمًا أنَّ الخلاف مبنيٌّ على اعتقاد نجاسة الخمر، فمن رأى أنّها لا تطهر استند إلى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلاًّ، فَقَالَ: «لاَ»(٤) ومعنى الاتِّخاذ -عندهم- هو تحويل الخمر إلى خلٍّ بالعلاج لها، أمَّا إذا تخلَّلت بنفسها فليست داخلةً تحت النهي، والشيء الذي طُرح في الخمر لتخليلها يتنجَّس بعد انقلابها خلاًّ فلا تطهر بحالٍ من الأحوال وهو مذهب الشافعيِّ وأحمد رحمهم الله تعالى.

ومن رأى أنّها تطهر استند إلى حديث عائشة رضي الله عنها في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «نِعْمَ الإِدَامُ الخَلُّ»(٥) حيث أطلق ولم يفرِّق بين ما إذا تخلَّلت بنفسها أو بالعلاج وهو مذهب الأحناف.

والصحيح أنَّ الخمر طاهرةٌ لأنَّ الأصل في الأعيان الطهارة ولم يَرِدْ نصٌّ شرعيٌّ يفيد نجاستَها كما فصَّلناه في كتابنا «مختارات من نصوص حديثية في فقه المعاملات المالية»(٦)، والتحريم لا يستلزم النجاسة، أمَّا النجاسة فيستلزمها التحريم، فكل نجسٍ محرَّمٌ ولا عكس.

وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه السابق يُحمل على محظورية ترك الخمر مدَّةً للتخليل لما فيه من مخالفة الأمر الإلهيِّ في قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة:٩٠]، وإن سلَّمنا نجاسةَ الخمر فإنَّ الحرمة ههنا لا تستلزم نجاسة الخلِّ، وإنّما أوجب إراقتَها سدًّا لذريعة المحرَّم، وتضييق مجاري الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم ويغرِّره بشرب الخمر المتواجدة عنده، لذلك كان ترك الخمر مدَّةَ التخليل ممنوعًا شرعًا، والله أعلم.

ثمَّ إنَّ المعروف أنَّ الشيء إذا تغيَّرت حقيقته واضمحلَّ وتبدَّل إلى شيءٍ آخر زال الحكم المتعلِّق به قبل تغيُّره واستحالته ولم تعُدْ هي بنفسها بل صارتْ شيئًا آخر طاهرًا، فهي كالنجاسة إذا وقعت في ماءٍ كثيرٍ ولم تغيِّر أحدَ أوصافه الثلاثة: لونه وطعمه ورائحته، والمسكر إذا مُزج بالدواء وذهب أثرُه لم يكن في هذه الحالة مسكرًا وإنما هو دواءٌ طاهرٌ ذاب فيه شيءٌ من المسكر، كالخمرة التي استحالت بنفسها وصارت خلاًّ كانت طاهرة باتِّفاق العلماء.

والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.

 

الجزائر في: ٢٤ ذي القعدة ١٤٢٤ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٧ جانفي ٢٠٠٣م


(١) أخرجه مسلم في «الأشربة» (٢٠٥١) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(٢) «زاد المعاد» (٤/ ٣٠٦).

(٣) «فيض القدير» (٦/ ٢٨٥).

(٤) أخرجه مسلم في «الأشربة» (١٩٨٣)، من حديث أنسٍ رضي الله عنه.

(٥) تقدَّم تخريجه.

(٦) من ص: ٣٠ إلى ص: ٣٩.

.: كل منشور لم يرد ذكره في الموقع الرسمي لا يعتمد عليه ولا ينسب إلى الشيخ :.

.: منشورات الموقع في غير المناسبات الشرعية لا يلزم مسايرتها لحوادث الأمة المستجدة،

أو النوازل الحادثة لأنها ليست منشورات إخبارية، إعلامية، بل هي منشورات ذات مواضيع فقهية، علمية، شرعية :.

.: تمنع إدارة الموقع من استغلال مواده لأغراض تجارية، وترخص في الاستفادة من محتوى الموقع

لأغراض بحثية أو دعوية على أن تكون الإشارة عند الاقتباس إلى الموقع :.

جميع الحقوق محفوظة (1424ھ/2004م - 14434ھ/2022م)